برهان هلّاك

تلال من أكياس القمامة العطنة و مئات من حاويات الفضلات الممتلئة عن آخرها و روائح كريهة آخذة في الاشتداد، ذلك هو المشهد بمدينة صفاقس ثاني أكبر محافظات البلاد التونسية؛ لقد أدت أزمة النفايات في محافظة صفاقس جنوبي تونس إلى احتقان اجتماعي كشف عن ضرورة إعطاء أهمية قصوى للوضع البيئي في البلاد بإعتبار الوضع البيئي الكارثي الذي خلّف مخاوف صحية. و تفجّرت أزمة النفايات في محافظة صفاقس التي باتت تحتوي على نحو 30 ألف طنّ من النفايات نتيجة إغلاق مكب منطقة " عقارب " بالمحافظة، لتبرز أزمة المكبات المراقبة في البلاد، خاصة في ظل غرق تونس في شتى صنوف القمامة و الفضلات المادية و السياسية و السلوكية.

تشهد مدينة عقارب في صفاقس غليانا شعبيا رافضا للقرار الحكومي القاضي بإعادة فتح مكب النفايات بالمدينة، و الذي تم إغلاقه في سبتمبر الماضي على إثر احتجاجات على رمي نفايات كيميائية في الموقع المخصص للنفايات المنزلية. و في الثامن من شهر نوفمبر الجاري، قررت الحكومة إعادة فتح المكب على إثر تسبب إغلاقه في تراكم الأطنان من النفايات بشوراع و أسواق المحافظة، مما دفع بالآلاف للاحتجاج في صفاقس، إحدى أهم المحافظات التونسية إقتصاديا و ديمغرافيا. و تطفو بذلك أزمة الفضلات و القمامة القديمة المتجددة على سطح وطني ليس ببعيد هو الآخر عن التعفن؛ يقول عضو الجامعة العامة للبلديات، رضا اللوح، أنّ "العمر الافتراضي لـ 6 مكبّات من مجموع 11 مكباً مراقباً للقمامة قد انتهى، و من بينها مكبات بلغت طاقتها الاستيعابية القصوى منذ سنة 2013، إلا أنها ما زالت تستخدم لتجنّب تكدس النفايات داخل المدن. و أكد على غياب خطة وطنية و برامج تنفيذية لإعادة تدوير النفايات، و الإستعاضة عن ذلك بحلول ترقيعية غير ذات فاعلية من قبيل ردم الفضلات داخل هذه المكبات، و هو ما يزيد من صعوبة الخروج من مأزق نفايات تتخبط فيه البلاد. إن عدم قدرة مكبات الفضلات على استيعاب مئات الأطنان من النفايات يومياً، و مواصلة استعمال المكبات المخصصة للنفايات الخطرة رغم بلوغها طاقتها القصوى، لهو منذر بكارثة بيئية و صحية يتخوف منها أهالي منطقة " عقارب" الذين نزلوا للشوارع دفاعا عن حقهم الدستوري في بيئة نظيفة.

و تجدر الإشارة إلى أن معضلة النفايات في تونس تمثل محرارا لمدى جدية و كفاءة المعالجات الرسمية لمثل هذه المخاطر، إذ لم يفلح الاجتماع الذي تم عقده بين رئيس الدولة ورئيسة الحكومة “نجلاء بودن” ووزير الداخلية “توفيق شرف الدين” في احتواء غضب المتظاهرين في “صفاقس” عبر اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة الأوضاع غير المستقرة هناك. لقد اقتصر الأمر على استخدام المقاربة الأمنية التي أدت إلى تفاقم الأوضاع بدلاً من حلها (شهدت شوارع محافظة صفاقس خروج الناس للتظاهر والاشتباك مع قوات الأمن التونسية، مما أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين في 9 نوفمبر 2021 رغم تأكيد وزارة الداخلية التونسية على أن وفاتها لم تنجم عن تدخل أمني عنيف في حق المتوفّى.(

كما تجتاز الحكومة التونسية حديثة التشكيل، بقيادة نجلاء بودن، إمتحانا آخر في ظل هذه الأزمة، و هو إختبار مدى الإلتزام بقرارات السلطة القضائية؛ يستند المواطنون في رفضهم لإعادة تشغيل مكب الفضلات بمنطقة " عقارب " إلى قرار قضائي يقضي بإغلاق مصبّ القمامة بالمنطقة كان قد صدر في جويلية من سنة 2019. و قد تم إغلاقه بالفعل في سبتمبر الماضي، و ذلك بعد أن تزايدت شكاوى المواطنين هناك بسبب انتشار الأمراض نتيجة تكدس آلاف الأطنان من القمامة في هذا المكب الذي أضحى بمثابة كارثة بيئية. كما طالب سكان المنطقة آنذاك بإيجاد مكان آخر لاستيعاب النفايات الزائدة بعدما بلغ المكب الرئيسي طاقته القصوى. و في مواجهة هذا الوضع، أكدت الحكومة على ضرورة إعادة فتح هذا المصب لحل مشكلة تراكم القمامة في شوارع صفاقس، و هو ما أثار غضب القاطنين بالمنطقة نظرا لسعي الحكومة الحالية إلى حل مشكلة تراكم القمامة في شوارع مركز المحافظة على حساب منطقتهم " المنكوبة " على حد تعبيرهم.

إن مشكل التصرف الفعال و المراعي للشروط البيئية في الفضلات مشكل أزلي في تونس، و ذلك بإعتبار إنتاج البلاد ما يزيد عن 2.6 مليون طن من النفايات المنزلية سنويا. و تُنقل هذه النفايات إلى 11 مكبّاً خاضع للمراقبة القانونية و مُدارٍ من قبل ثلاث شركات خاصة. أما المصبات العشوائية للفضلات فلا توجد أرقام رسمية تحصيها و تعاين مدى انتشارها بالبلاد؛ تتواجد هذه المصبات غير القانونية في مختلف مناطق البلاد بالقرب من المجمعات السكنية وفي المحيط البيئي وفي عمق الضواحي والأرياف التونسية. ولم تنجح الأجهزة المختصة التابعة للدولة في إغلاقها أو إعادة تأهيلها على أسس علمية و وفقا للمعايير الدولية. و يعود ذلك إلى ضعف الإمكانيات المالية وانتشار المكبات وتعدّدها بشكل شديد التعقيد. و تزداد خطورة هذا الوضع عند بلوغ الحجم السنوي للنفايات الخطرة في تونس ستة ملايين ونصف مليون طن، و هي خطورة نابعة من اعتباطية التصرف فيها بوسائل مختلفة لا تديرها الدولة في ظل عجزها دون معالجة هذا الملف.

و من هذا المنطلق، فإن هذا الملف الشائك دائم الحضور في مقدمة الأسباب التي تفضي إلى الغليان الشعبي و الاحتجاجات؛ لقد أكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ضرورة إعلان حالة الطوارئ البيئية، وتكوين خلية أزمة عاجلة لدرس الحلول قريبة المدى لمشكلة النفايات، وللبحث جدياً في ملف التصرف في النفايات في تونس. كما شدد على ضرورة العمل على إنصاف جهات أخرى، منكوبة بيئياً، على غرار عقارب وبرج شاكير وجربة والمنستير. و يدعو المنتدى إلى التخلي نهائياً عن تقنية الردم المتبعة، والتوجه نحو فرز وتثمين النفايات. و طالب الناشطون صلب المنتدى وزارة البيئة بإنارة الرأي العام حول الاستراتيجية المعتمدة للتصرف في نفايات صفاقس وتونس الكبرى. و قد أتت هذه المطالب في جانفي 2021، في الوقت الذي نفذ فيه أهالي منطقة الرويسات بمحافظة القيروان و مدينة قليبية من محافظة نابل تحركات إحتجاجية متعددة تندد بإلقاء أطنان من النفايات مجهولة المصدر بطريقة عشوائية في أماكن بالمناطق المذكورة.

و كأن الغرق في النفايات " الوطنية " ليس بالكافي، لتبرز منذ سنوات قضية النفايات الإيطالية و ملف صفقة إدخال شركة تونسية مئات الحاويات من الفضلات المنزلية السامة القادمة من إيطاليا، عبر ميناء سوسة، بهدف إعادة تدويرها في تونس؛ في ديسمبر 2020، بدأت جمعيات ونشطاء القطاع البيئي في تونس معركة لمنع ردم النفايات الإيطالية، وإعادة تصديرها إلى بلد المنشأ في الآجال القانونية اللازمة، في حين واصل القضاء التحقيقات لكشف خيوط القضية المتشابكة، وتحديد المسؤوليات فيها بعد فرار صاحب الشركة الموردة إلى خارج البلاد. و رفضت جمعيات مدنية تونسية أن تكون البلاد مصباً للنفايات الإيطالية، ملوّحة برفع قضايا ضدّ الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة التي تنشط في مجال تدوير النفايات. و استنفرت هذه المنظمات عقب الكشف عن استيراد شركة خاصة لتدوير النفايات لحاويات تحمل أطناناً من النفايات الإيطالية بغاية فرزها وتدويرها في مصانع تونسية. و قد انتهى الأمر إلى قرار قضائي تونسي يقضي بسجن 12 مسؤولا، من بينهم وزير البيئة المقال آنذاك، مصطفى العروي، في قضية النفايات الإيطالية، و الاحتفاظ بـ 10 آخرين على ذمة التحقيق، و إصدار برقية تفتيش بحق صاحب الشركة بعد ثبوت مغادرته الأراضي التونسية قبل بدء التحقيقات حسب ما أكده مقال صادر بموقع العربي الجديد بتاريخ 25 ديسمبر 2020.

بالإضافة إلى أن سوء إدارة ملفّ النفايات هو تهديد لصحة و بيئة التونسي، فإن هذا المشكل يمثل استنزافا للموارد المالية للدولة بإعتبار أن شركات استغلال المصبات تعمد إلى ردم الفضلات، و هو ليس سوى حلّ منقوص و قاصر كانت عديد الدول قد هجرته، و ذلك عائد إلى مآلاته الكارثية و ارتفاع كلفته (توفّر الدولة لتلك الشركات اعتمادات مالية كبيرة للقيام بعملية ردم النفايات في باطن الأرض). و إن روائح الفساد الذي بات يزكم الأنوف بالبلاد ليفوق روائح الفضلات المتعفنة، إذ ليس مجال التعامل مع الفضلات بمنأى عن الفساد و التلاعب، باعتبار وجود أطراف ذات نفوذ كانت قد استفادت من هذا المشكل.