عبد الستار العايدي

في نفس اللحظة التي أعلن فيه  المجلس الأعلى للقضاء عن رفضه الكامل إصلاح القطاع في إطار التدابير الاستثنائية على خلفية تكليف قيس سعيّد لوزيرة العدل بإعداد مشروع يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، يعلن سعيّد عن اختصار مدة العمل التدابير الإستثنائية في إنتظار "النص المتعلق بالحوار الذي تم اقتراحه والذي سينتظم بطريقة مستجدّة مع التونسيين والتونسيات في الداخل وفي الخارج".

قد يكون ما فعله قيس سعيّد هو تنفيذ لسياسة "خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء" بعد أن أعلن أنّ له كل صلاحيات السلط في بداية إتخاذ التدابير الاستثنائية، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ذلك حتى لا يخسر كل معارك الحرب التي أعلنها تحت شعار "الخطر الداهم" وآخر "مكافحة الفساد"، وتهدئة للضغط الإعلامي وضغط المجتمع المدني التي لجأ إليهما القضاء وأجهزته ونقاباته لإجبار رئيس الجمهورية لعدم المضيّ قدما في سياسته للإستحواذ على القضاء بعد أن أجهز على السلطة التشريعية وتجميد عمل البرلمان. البرلمان الذي عجز كذلك قيس سعيّد عن حلّه نهائيا متحاشيا الخروج عن الدستور حيث لم تتوفر وضعية حل البرلمان التي ينصّ عليها الدستور.

من المتعارف عليه عند المهتمين بكل ما يخصّ السلطة القضائية، أن القضاء كمؤسسة مستقلة قد طالها الفساد على مرّ عقود مضت، وأنها لم تخضع إلى إصلاح جذري، قبل وبعد ثورة 2011 ، لإستئصال ذلك الورم الذي تسرّب إلى أجهزتها والمشرفين على تسييرها رغم إعتماد مسار للعدالة الانتقالية وإقرار إجراءات إصلاح التي كانت من المفروض أن تساهم في توطيد نزاهة القضاء وشفافيته، الأمر الذي أدّى إلى وضع انتقالي تحت إشراف الهيئة الوقتية للقضاء العدلي والمجالس العليا الموروثة عن النظام السابق إلى أن تم إقرار قانون المجلس الأعلى للقضاء رغم ما كان يشوبه من خروقات دستورية، وضع دفع بقيس سعيّد إلى كشف ملفات فساد أشخاص وإخلالات داخل هياكل هذه المؤسسة وإتخاذ خطوة بالاتفاق مع وزيرة العدل لإعداد مشروع قوانين لدحض كل شوائب الفساد، مشروع تم إعتباره من طرف القضاة محاولة من قيس سعيّد والسلطة التنفيذية عموما للسيطرة على القضاء وتوجيهه أو توظيفه لصالح المشروع السياسي البديل الذي يستعدّ لتقديمه بدل النظام البرلماني. 

تحت غطاء الإجراءات الاستثنائية وبعض نقائص مواد وفصول دستور 2014، يبحث قيس سعيّد عن سبيل وسط ذلك لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية للقطاع "قطعا للطريق" أمام المنظومتين المتغلغلتين داخله، بقايا منظومة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ومنظومة الإخوان المسلمين بقيادة حركة النهضة، الذي يعتبرهما المعوقات الرئيسية أمام مشروعه السياسي البديل، وذلك ما يرفضه المجلس الأعلى للقضاء بتعلّة أنّ الإصلاح ينبغي أن يكون في نطاق المبادئ والضوابط التي جاء بها الدستور، دستور 2014 ، رغم تأكيد قيس سعيّد علنا أن "إعداد مرسوم يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء ليس تدخلا في الشأن القضائي ولكن سيتم ذلك بمشاركة القضاة"، و"عدم قبوله بأن يتم المساس باستقلالية القضاء والقضاة وضرورة إجراء إصلاح جذري للقضاء حتى يستعيد عافيته خاصة وان الفساد لا زال مستشريا في جزء منه".

ملحمة الصراع بين السلطتين، التنفيذية والقضائية، تتجدّد كل فترة نظام حكم جديد، إنتهت في السابق لصالح السلطة التنفيذية وقد برزت ملامح ذلك مع نظام بن علي طيلة ثلاثة وعشرين سنة من الديكتاتورية الذي إستحوذ على قطاع كبير من المشرفين والقضاة الذين يعملون لصالح أجنداته فيما إستطاعت حركة النهضة طيلة عشر سنوات في إطار المسار الإنتقالي الديمقراطي كذلك أن تمدّ أذرعها عن طريق سلطة الإشراف التابعة لها كذلك إلى عدد مهمّ من القضاة، هزيمتين للسلطة القضائية أمام قوة ونفوذ السلطة التنفيذية سيجعل من الصعب تنفيذ المشروع الإصلاحي الجديد لقيس سعيّد، خاصة إذا كان الطرفين يحتكمان إلى نفس المصدر، الدستور، ولا نيّة لأحدهما تجاوزه أو دوس أحد حباله. 

في جانب آخر، يخشى قيس سعيّد أن يجازف بخطوة جريئة ثانية للسيطرة على السلطة القضائية كما أنهى أشغال البرلمان بأحكام إستثنائية، خوفا من مزيد ضغط المجتمع الدولي الذي كان قد أرسل له رسائل طمأنة بأن كل ما يحدث يسير وفق الشرعية الدستورية وإحتراما للحقوق والحريات، هذا الجانب الذي تسعى السلطة القضائية لبيانه للمجتمع الدولي وأن لا تجعله يغفل عما يبتغيه سعيّد، ولذلك لجأت للضغط الإعلامي المحلي والدولي والفاعلين من المجتمع المدني، حيث دعت 20 منظمة وجمعية ناشطة في المجال الحقوقي إلى "عدم اتخاذ أي تدابير أو إجراءات تهمّ مرفق العدالة خلال فترة الاستثناء، لما قد ينجر عنه من مآلات قد تؤدّي إلى إهدار ما تحقق من مكاسب عوض إصلاح مواطن الضعف والفساد".

سجال لازال متواصلا وكل من السلطتين يبحث له عن موطأ قدم داخل الدستور، رغم الخلاف بينهما حول جدوى دستور 2014 في إنقاذ المشهد السياسي وحل الأزمة الدستورية للوضع الحالي، إلى جانب الخلاف بين ما يبتغيه قيس سعيّد من سرعة في معالجة ملفات الفساد وبين الوتيرة البطيئة التي يتبعها القضاء بخصوص ذلك، مما قد يجبر سعيّد مستقبلا إلى تنفيذ الإجراءات الاستثنائية ضد المجلس الأعلى للقضاء وحلّه نهائيا، خاصة بعد سعيه في كل مناسبة لإثبات تعطيل بعض القضاة لعدد من القضايا وتأخيرها وعدم الإضطلاع بمسؤولياتهم ومهمتهم في حماية حقوق المواطنين وأموال الشعب بالإضافة إلى التأكيد في كل مرة أن تطهير البلاد من الفساد يمرّ حتما بتطهير القضاء من الفاسدين.

تساؤل قد يطفو إلى السطح في هذه الآونة، هل سينجح قيس سعيّد في المشروع الذي أسنده إلى وزارة العدل لإنجازه إرضاء المجلس الأعلى للقضاء وإحتواء رفضه للإصلاحات ضمن الإجراءات الاستثنائية ودون مخالفة الدستور، أم أن هذا المشروع سيكون سببا في توسّع الخلاف بين السلطتين وآخر مسمار نعش المنظومات التي تتحكم في القضاء؟