ملخص غني عن البيان أن الإيديولوجيا بمفهومها الكلاسيكي، والذي يعني مجموعة الأفكار، والمعتقدات التي تملي على الأفراد المؤمنين بها إتباع سلوك معين، تفت في مصداقية المعرفة، خصوصًا وأن المثقف –شأنه في ذلك شأن أي إنسان- سيقع تحت تأثير الأدلجة، ولا يمكنه تحقيق التجرد المُطلق، في ظل واقع يموج بالرغبات الإنسانية، ويسير وفق هوى النفس البشرية، كما تتلاشى الموضوعية أو تكاد، عندما يتعلق الأمر بإشكالية العلاقة –القديمة والمتجددة- بين المثقف، والسلطة. ويزداد الأمر لبسًا، وتعقيدًا إذا ما كان الحديث عن العلاقة بين المثقف، والسلطة في دول العالم الثالثي، وعلى وجه الخصوص، العالم العربي. وحيث إن المتتبع لتاريخ العلاقة بين المثقف، والسلطة في مجتمعات العالم الثالثي، يلحظ دون عناء البحث، أنها غالبًا ما كانت خاضعة لهيمنة السلطة، إذ لم تكن العلاقة ندية، أو في إطار التقارب، بمقدار ما كان يتوجب مراعاة الاعتبارات السياسية مع كل مسكة قلم، وإلا فإن النتائج المتوقعة ستكون كارثية، ولا يحمد عقباها. إن ذلك الواقع فرض وجود نمط واحد من المثقفين في هذا العالم، هم من يطلق عليهم المثقفون التقليديون على حد تعبير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غراميشي، وهم الموالون للسلطة، والذين يعيشون في كنفها، ويسبحون بحمدها، على خلاف المجتمعات المتقدمة، والتي تحرر مثقفوها في وقت مبكر من ربقة الانصياع للسلطة، فأوجودوا نمطًا جديدًا من المثقفين هم من يمثل ما عُرف بالمثقف العضوي. وإذا كان هذا النوع من المثقفين نشأ في القرو-وسطى بأوروبا نتيجة الاحتكاك بمثقفي الحضارة العربية، والإسلامية، كما يقول الجابري رحمه الله، فإن بواكير نشوء مثقفين عضويين في العالم العربي، بدأ يشق طريقه من خلال احتكاك المثقفين العرب في هذا القرن، أو النصف الأخير من القرن الماضي، بنظرائهم من مثقفي أوروبا. ذلك الاحتكاك، والتبادل الثقافي، والاستفادة من مثقفي أوروبا، عاضده بنسبة كبيرة، قيام الحراك الشعبي، وتبدل الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، مما أفرز واقعًا مغايرًا للواقع التقليدي الذي ظل مهيمناً ردحًا من الزمن، والذي اتسم بموالاة المثقفين العرب للسلطة، حين كانت هذه الأخيرة تُحكم سيطرتها على المثقفين ترغيبًا، وترهيبًا. في هذا المجال نركن إلى رأي المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز الذي تنبأ فيه بنهاية الداعية (المثقف التقليدي)، وظهور المثقف العضوي المجدد، المولع بهموم المعرفة قبل التمترس في إسار الإيديولوجيا. وقصارى القول أن المثقف العربي الذي ظلت تمثلاته من خلال نصه الأدبي تحمل كثيرًا من المحاباة، والمجاملة، داخل إطار إيديولوجية الجمود في التعاطي، أو الثبات كما صرح أدونيس في دراسته (الثابت والمتحول)، أصبحت وبلا مواربة ذات مجال خصب، وميدان أرحب للتعاطي الموضوعي مع كل القضايا، بعد انكسار الخطوط الحمراء المرسومة من قبل السلطة العربية، وبات البحث عن المعرفة، والحقيقة هما الشغل الشاغل للمثقف العربي الحر. ومن هنا جاءت هذه الورقة لتبحث في واقع العلاقة الجديدة، التي واكبت الحراك العربي، أو التي برزت كنتيجة من نتائجه الإيجابية رغم ندرتها.