حميد زناز    

سنترك تاريخ عبد العزيز بوتفليقة الاسود قبل ان يتولى رئاسة الجزائر الى فرصة أخرى، و لا نتحدث في هذه المرة عن الشخص الذي كان  أثناء حرب التحرير و لا عن ذلك الوزير الذي مكث في الوزارة 16 سنة كاملة ثم همّش و اتهم   رسميا بالاختلاس. ذلك التاريخ المخفي بدأ ينكشف شيئا فشيئا للرأي العالم و يظهر أن حياة الرجل منسوجة بخيوط الدسائس من اولها الى آخرها. وقد أصدر جزائريون كتبا في فرنسا عن طموحات بوتفليقة و مؤامراته و بسيكولوجيته،  منعت في الجزائر،  أهمها كتابي الصحفي والكاتب الجزائري محمد بن شيكو  "بوتفليقة : المخادعة الكبرى" الصادر 2004  و" بوتفليقة اللغز:رئيس دولة  تحت الكشف الاشعاعي" سنة 2018. و كتاب فريد عليلات " قصة بوتفليقة السرية  " الصادر سنة 2020 .

لم يأت عبد العزيز بوتفليقة عبر انتخابات رئاسية شفافة بل جاء به حكام الجزائر الفعليين سنة 1999 أو ما يسمى بـــ "العلبة السوداء" من اجل مهمة واحدة هي تبييض وجوههم دوليا بعد حرب أهلية دامية دامت عشرية كاملة اتهم خلالها الاسلاميون وأنصارهم النظام بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. أما عبد العزيز بوتفليقة ، فجاء لينتقم من الجزائريين الذين لم يحققوا له طموحه المزمن في الوصول الى رئاسة الجزائر لخلاقة عرّابه هواري بومدين الراحل سنة 1978. و قد بلغ به الأمر آنذاك الى محاولة إيهام الجميع بامتلاكه وصيّة كتبها الراحل هواري بومدين يوصي بتنصيبه رئيسا بعده . في 1999 صرح بعنجهيته المعهودة : "إذا لم ينتخبني الشعب بنسبة مئوية عالية سأعود إلى بيتي و أتركه يسبح في رداءته ".   

وعلى عكس ما هو متداول،  فليس هو الذي استرد أمن البلاد بــ "وئامه الوطني"  وخطاباته المنمقة و إنما الجيش هو الذي استرجع هيبة الدولة والأمن بانتصاره العسكري على الارهاب  الاسلاموي. و قد بدأ الارهابيون يستسلمون و ينزلون من الجبال ابتداء من 1995 للاستفادة من "قانون الرحمة" الذي جاء به الرئيس زروال و لم يفعل بوتفليقة سوى السطو على انجاز الجيش و الرئيس زروال. و قد حوّل ذلك الانتصار العسكري الكاسح   إلى انتصار ثقافي للإسلاميين الذين استغلوا العفو الشامل و نزلوا  دفعة واحدة من الجبال و خرجوا من السجون و راحوا ينشرون سمومهم في المجتمع في وضح النهار. و ليس هذا فحسب بل استفادوا من أموال و امتيازات لم يظفر بها حتى اولائك الذين كانوا يقاتلونهم بالسلاح دفاعا عن الدولة الحديثة. و من استفزازات بوتفليقة الكثيرة استدعاء مدني مرزاق قائد الجيش الاسلامي للإنقاذ ، جيش الجبهة الاسلامية للإنقاذ المحظورة لأخذ مشورته في مسألة تعديل الدستور سنة  2008 ذلك الارهابي الذي اعترف مباشرة على قناة تلفزيونية جزائرية أنه قتل جندي جزائري بيديه. و تحتفظ الذاكرة الاعلامية بصورته وهو يصافح رئيس الحكومة آنذاك أحمد اويحي في رئاسة الحكومة. في الحقيقة ، لم يكن وصول بوتفليقة الى قصر المرادية سوى من أجل استخدامه لمدة معينة كواجهة مدنية  إلا انه استطاع بمكره و دهائه و مهنيته العالية في فن الدسائس الى الانقلاب على الجميع و إقصاء حتى بعض وجوه النظام المتنفذين. ومن ثمة اعتبر الجزائر مزرعته الخاصة  وكلويس الرابع عشر اعتبر نفسه هو الدولة و داس على الدستور. 

أمضى أربع عهدات كاملة رئيسا للجمهورية الجزائرية الديمقراطية و الشعبية  رغم أنف الشعب الجزائري،  لم يكن في عهدته الاخيرة قادرا حتى على المشي أو الكلام. أنجبت عهداته الفاشلة مجموعات مصالح رأسمالها الفساد و الرشوة أرادت أن يبقى في الحكم عهدة خامسة و هو شبه ميت لتحكم بالوكالة و بالقوة رغم وضع أصبح  لا يطاق في الجزائر فلا قطاع مسيّر على ما يرام؛ مستوى تعليم ضعيف جدا، بطالة مستفحلة، مستشفيات مهترئة، بعض البنايات في المدن تكاد تسقط على رؤوس المارة.. وهيمنة للفكر الأصولي الإخواني للدين وقضاء غير مستقل. علاوة على الانسداد السياسي الذي تعيشه البلاد. وضع طارد موبوء بفساد فاضح لا يشجع الكفاءات على البقاء في البلد. وقد شهدت الجزائر في عهد بوتفليقة موجة كبيرة من الهجرة لم تشهدها من قبل.  في دعاباتهم ونكتهم السوداء يقول الشباب في الجزائر إنه لا يوجد سوى مخرج واحد هو المطار، ويقصدون الهجرة خارج الجزائر قبل حلول الكارثة.  

كان حكم بوتفليقة عبارة عن فترة نزاعات دائرة باستمرار من أجل افتكاك مصالح ومنافع ومناصب من دولة الريع. وقد حققت فئات كثيرة من الجزائريين باقترابها وتواطؤها مع   بوتفليقة مكاسب معتبرة، وفعلا تكوّنت في الجزائر ولأول مرة مجموعات مصالح قوية مرتبطة عضوياً بدواليب الحكم، سيطرت على قطاعات اقتصادية وخدماتية مربحة سلفا، بسبب التسهيلات والإعفاءات الضريبية التي يستفيد منها أهل السلطة وعائلاتهم وشركائهم. وهكذا تم زواج مصلحة بين بارونات الإدارة والسياسة وبارونات الاستيراد والمال الفاسد. ولم تعد اللعبة في الجزائر لعبة سياسية يعرف الناس مسبقا قوانينها، بل أصبح الأمر إلى الصراع على البقاء أقرب، إذ تقتضي مصالح العرسان الجدد البقاء في الحكم مهما كان الثمن لأنه المصدر الوحيد لثرائهم و جاههم.  

لقد تسلحت السلطة في عهد بوتفليقة بالمال و المال بالسلطة، وأصبحا غولا واحدا يتحكم في رقاب الجزائريين و لم يتمكنوا من التخلّص من حكمه و عصابته و عائلته  رغم الاحتجاجات المتفرقة التي لم تتوقف طيلة عهداته الاربع و قد كانت الطرق تقطع كل يوم و في اماكن متفرقة من البلد .  لقد عرف نظام  بوتفليقة كيف يجدّد نفسه ويمدّد عمره بتحالفه مع القوى الأكثر جشعا وتخلّفا ووصولية. تلك القوى المستعدة لارتكاب كل الحماقات من أجل الحفاظ على مركزها وفي بعض الأحيان على بعض الفتات. وقد فوّض النظام بعضها للقيام بمهمة قذرة هي نشر "العبودية الطوعية"، وظهر جيل جديد مبرمج من أجل الدفاع عن إنجازات بوتفليقة الوهمية ومحاولة إخفاء فشله الشامل.  

من البديهي أن تعيين عبدالمجيد تبون في مكان بوتفليقة لا يعني القطيعة مع نظام بوتفليقة، الرجل الذي خرج وعاش معززا مكرما وكأنه غير مسؤول عما وصل إليه البلد من خراب شامل طيلة عشريتين كاملتين من حكمه. و واصل العيش مجانا هو و جزء من عائلته و الاستفادة من اقامة الدولة المجهزة تجهيزا طبيا عاليا بينما يدفع الجزائريون مبالغ طائلة مقابل خدمات طبية رديئة . لا نقد رسميا وجه إليه ولا محاسبة في حين أن كل الجزائريين يعرفون أنه هو رأس الفساد. فلماذا لم يحاكم ولو غيابيا ويصدر ضده حكم ليبقى في التاريخ ويكون عبرة للأجيال القادمة؟ 

لئن تفّهم الجزائريون أن حالته الصحية لم تكن تسمح له بالمثول أمام المحكمة أو تنفيذ عقوبة السجن، فإنهم لا يتقبلون أن يروا وزراء من وزرائه الخدومين الطيعين يتبخترون في الحكومة الحالية وأشخاصا يوظفون في رئاسة الجمهورية اليوم كانوا يؤلهون بوتفليقة، وبعضهم طاعن في السن. و لكن هل تغيرت جزائر ما بعد بوتفليقة أو جزائر الرئيس تبون الجديدة ؟ يتفق أغلب الجزائريين أنها تغيرت و لكن نحو الاسوأ.  فهل يقبل الجزائريون أن تنكس عَلَمهم سلطة فاشلة من أجل رحيل رجل عمّم الفساد في بلدهم طيلة عشريتين؟ أليس الحداد الرسمي على من عبث بأكثر من الف مليار دولار إهانة لمعظم الجزائريين الذين طردوه شر طردة ؟