برهان هلّاك             

صدر القانون الانتخابي الجديد (المرسوم عدد 55 لسنة 2022) في تونس الذي أتى تنقيحا للقانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 مايو 2014، ليتم نشره  بالرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) للجمهورية التونسية مساء الخميس الفارط. وينص هذا القانون الجديد على أن "العدد الإجمالي للمقاعد بمجلس نواب الشعب مائة وواحد وستّون (161 مقعدا)، وحدّد العدد الإجمالي للدوائر الانتخابية بمائة وواحد وستّين (161 دائرة)"،151 مقعد مخصّصة للدوائر الانتخابية في الداخل و10 مقاعد للدوائر الانتخابية بالنّسبة إلى الخارج. وجاء في القانون أن "التصويت في الانتخابات التشريعية على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين عند الاقتضاء، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد"، وأنه "إذا تقدم إلى الانتخابات مترشح واحد في الدائرة الانتخابية، فإنه يتم التصريح بفوزه منذ الدور الأول مهما كان عدد الأصوات التي تحصّل عليها". بالإضافة إلى ذلك، فإنه "في حال تحصّل أحد المترشحين في الدائرة الانتخابية على الأغلبية المطلقة من الأصوات في الدور الأول، فإنّه يصرح بفوزه بالمقعد". 

ويفصّل مرسوم تنقيح القانون الانتخابي ما نصّ عليه دستور 25 جويلية 2022 في علاقة بالانتخابات التشريعية، في مسألة سحب الوكالة؛ إذ "يمكن سحب الوكالة من النّائب في دائرته الانتخابية في صورة إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النّيابية، أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدم به عند الترشّح".

ولئن كانت هناك عديد المؤاخذات على هذا المرسوم الانتخابي الجديد فإن أشدها أهمية وأكثرها مدعاة للتناول والنقد هي تلك الجوانب المتعلقة بتقسيم الدوائر الانتخابية وعلاقتها بنظام التصويت على الأفراد، خاصة إذا ما اقترنت بمجالات جغرافية تونسية لازالت واقعة تحت تأثير العصبيات القبلية و"منسجمة" مع واقع التعصب لعصبة القبيلة ورابطة الدم

قال السياسي التونسي سالم لبيض في تدوينة له على حسابه على الفيسبوك أن "القانون الانتخابي الجديد لا يعترف بالنمو الديمغرافي وتطور عدد السكان في تونس، فقد قلّص من عدد النواب بإلغاء 56 مقعدا برلمانيا (217 مقعدا هو عدد المقاعد في البرلمانات السابقة) وغيّر التمثيل الشعبي من نائب عن كل 60 ألف مواطن  إلى نائب عن كل 75 ألف مواطن (161 حسب القانون الانتخابي الجديد). هدفه الرئيسي، في مفارقة غريبة، هو تشكيل برلمان خال من السياسة والسياسيين ومن الأحزاب والمتحزّبين ومن التعددية والمنافسة بين الأحزاب السياسية والبرامج الانتخابية الوطنية والجهوية. ويناهض القانون الانتماء الوطني للنائب لصالح انتمائه لمجتمعه المحلي (القبائل والعروش)، فالنائب مطالب بوضع برنامج محلي صرف مرفق بـ 400 تزكية تتم المصادقة على الإمضاء التي تحمله وهو العبث المقنن". وإن لمثل هذا الرأي الفاحص للقانون الانتخابي الجديد من الحجية الكثير، إذ ستغذي هذه الشروط، وبل ستحيي، نزعات الانتماء والولاء للقبيلة ولرابطة الدم في الدوائر المتعددة بالجهات والمناطق، بل وستؤجج الأحقاد والصراعات القبلية في المنطقة الواحدة. كما أن جمع التزكيات سيشكّل "سوقا" حقيقية تروج بها عملات الوفاء لرابطة الدم، والوفاء لمبادئ التربّح وبيع الذمم لمن لا ولاء لهم إلا للأموال؛ سيضرب ذلك مبادئ النزاهة التي يحرص عليها نظام ما بعد 25 جويلية 2021، بل سيضرب نفس الممارسات التي كان، وكنا أيضا إحقاقا للحق، نعيبها على النسخ السابقة من البرلمان التونسي على الأقل خلال السنوات العشر اللاحقة للثورة التونسية.

ولئن نعلم جميعا أن النعرات القبلية والجهوية هي نعرات قائمة الذات وعصبيات متواجدة بجهات عدة مكونة للمجال الجغرافي/الإداري التونسي، وذلك في سبق لكل القوانين الانتخابية التي تم إقرارها في البلاد منذ انتخابات المجلس التأسيسي الأول سنة 1956 وحتى لليوم، فإن هذ المعطى لا يعطي قطعا حقا أو مبررا كافيا لمزيد تعقيد هذا الوضع ذي الولاءات المتشعبة بقانون انتخابي يزيد الطين بلّة؛ يمكن أن يحدث هذا القانون انزياحا في اتجاهات العصبيات والانتماء القبلي والجهوي الحاصل سابقا داخل الدائرة /الولاية، ليصبح قاطعا بطريقة أخرى للدوائر الانتخابية الجديدة التي يمكن أن تتشكل بها "اتحادات" و"تحالفات" جهوية من نوع أخر كما يقول الكاتب والمناضل التونسي مصطفى علوي.

ومن أهمّ المؤاخذات الأخرى على ما نص عليه هذا القانون الانتخابي الجديد هو الجانب المتعلق بسحب الوكالة من النواب. يبدو أن سحب الوكالة هو أحد أهم ركائز مشروع الرئيس قيس سعيد السياسي التي ضمّنها في قانون الانتخابات الصادر حديثا، وذلك بطريقة أكثر تفصيلا بعد أن كان قد تطرق إليها في الدستور الجديد.

يتم تقديم عريضة سحب الوكالة معلّلة وممضاة من قبل عشر النّاخبين المسجلين بالدائرة الانتخابية التي ترشح عنها النّائب المعني إلى الإدارة الفرعية لهيئة الانتخابات بالجهة. ويجب أن تكون الإمضاءات مصدّقة من قبل السلط الإدارية المعنية أو أمام الهيئة العليا التونسية للانتخابات. وهو ما أسمته أستاذة القانون الدستوري التونسية، منى كريم الدريدي"، في تصريح للعربي الجديد بـ "الوكالة الآمرة"؛ لقد شرحت أستاذة القانون الدستوري أن "اللافت في هذا المرسوم هو تكريس وكالة آمرة تخضع النائب لناخبين يأتمر لهم، إذ أن طريقة سحب الوكالة لن تجعل من النائب ممثلا للشعب بأسره، بل هو أصبح نائبا ممثلا لمن انتخبه وتحت إمرته. وسيرزح النواب تحت ضغوطات شتى، وسيصبحون تحت رحمة سيف سحب الوكالة المسلط على رقابهم".

من هذا المنطلق، تضحي تمثيلية كل نائب في مجلس نواب الشعب القادم شديدة المحلية والخصوصية في فضاء وطني يضيق جغرافيا وسياسيا على حد السواء. ومن ثمة فإنه سيمكن توسّل سحب الوكالة خدمة لتصفية الحسابات، وهو مدخل أخر للخلافات التي يمكن أن ينتج عنها انحرافات عنيفة في أسوء الحالات. وبالإضافة إلى تلك المخاطر المذكورة سلفا، فإن مبدأ سحب الوكالة من النواب سيجعل من أبواب الانتخابات الجزئية مفتوحة بصفة مستمرّة، وليس ذلك إلا طريقا نحو استنزاف الموارد وإضاعة الوقت وإغراق الهيئة العليا للانتخابات التونسية في دوامة من الشكاوى والشكاوى المضادة، وفي متاهات عبثية لفتح وإغلاق مراكز الاقتراع.

يمكن للمعارضين لمسار 25 جويلية 2021 برمته أن ينظروا لهذا القانون الانتخابي الجديد، من جملة التدابير الأخرى، على أنه محطة حديثة في الطريق نحو "موت السياسة" وإنهاء "الحياة السياسية التعددية النشيطة"، وإن كان ذلك حالة من الإنكار النفسي لحقيقة أن الانقسام السياسي – الحزبي التقليدي أصبح في مأزق وأن الجمهور لم يعد يراهن على الأحزاب التقليدية والتاريخية التي تداولت على السلطة في السنين العشر التي خلت. كما يمكن لمساندي الرئيس وأنصاره النظر إلى هذا القانون الانتخابي بوصفه خطوة مهمة في مسار "تنزيه" العملية الانتخابية و"تنقية" التمثيلية البرلمانية من شوائب وآفات المال السياسي الفاسد والسمسرة بأصوات الناخبين لأغراض ذاتية شديدة الضيق والخساسة. ولكن المؤكد أن مثل هذا القانون الانتخابي الجديد سيجعل الحديث عن التأسيس لنظام انتخابات أكثر نجاعة، أو أقل سوءًا على الأقل، من سابقيه في تاريخ البلاد التونسية أمرا لا يستقيم؛ إن وزن الأضرار المحتملة والمكاسب المأمول تحصيلها من المرسوم الانتخابي حديث الصدور ستجعل الكفة مائلة لصالح المساوئ والأضرار في ظل نظام اجتماعي عسير على التّنميط والنمذجة وتعقيدات جهوية واقتصادية جمة.