قبل إستقلال تونس وإعلان الجمهورية عام 1956 م ..وقبل إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي شكلت إنقلابا ثوريا مفصليا على عهود متطاولة من الجمود التشريعي في مدونة القوانين الإسلامية..كتب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مقالة في إحدى الصحف الحزبية الصادرة في البلاد التي تستعمرها فرنسا والجاليات الأوروبية آنذاك ، حرض فيه المرأة  التونسية على التمسك بإرتداء "السفساري" أو لباس الأنثى  الشعبي كجزء من مفردات المقاومة لمشروع التغريب الذي سعت فرنسا الإستعمارية لتنفيذه على المجتمع المحلي هناك ..بعد ذلك بسنوات قليلة شرع بورقيبة في إطلاق برنامجه التحديثي لدولة ومجتمع رسفا قرونا تحت حكم البايات الفلكلوري ونفوذ رجال الدين التقليديين فشارك شخصيا في نزع " السفساري" عن رؤوس السيدات التونسيات في شوارع العاصمة إيذانا بتحريرها من سلطة العادات والهيمنة الذكورية الشرقية..
أسوق هذه الواقعة  كمدخل للحديث عن أهمية توظيف الفعل التحديثي في بنية الثقافة داخل مجتمع ما ، وفق سياق إستراتيجي يراعي الوضع التاريخي وإحداثيات الصراع الحضاري في قلب الهوية الوطنية ..فبورقيبة الذي كان ربما أكثر علمانية من بعض الفرنسيين أنفسهم كان يعي تماما أن منطق قاعدة إبن خلدون في تقليد المغلوب للغالب لاتعني بالضرورة التلاشي في نموذجه والتماهي في شخصيته ، لذلك تمسك "بالسفساري" حين كان يمثل نوعا من المقاومة لفرنسة تونس ، ثم لم يتردد لحظة في نزعه بيديه عن جسد المرأة التونسية حين شكل عائقا أمام رغبته في دفعها إلى موقعها الطبيعي لبناء المجتمع الجديد جنبا لجنب الرجل ..
ولقد صفق الجميع آنذاك - ومازل صدى التصفيق مسموعا- إعجابا بما فعله بورقيبة ..إذ بغض النظر عن الموقف الراديكالي للبورقيبية والنخبة السياسية المثقفة في الحزب الدستوري - صانعة تونس الحديثة - من المشروع  العروبي الذي تم إقصاؤه بإقصاء صالح بن يوسف و اليوسفيين ، والإنبهار المتعاظم بالمنجز الحداثوي الغربي خصوصا في نسخته الفرنسية ..فلقد حاولت تونس الجديدة التمسك بموقعها المتوازن بين الأصالة والمعاصرة بحيث حافظت على سلاسة التحول وفق نسق ثابت لم يضطر السلطة إلى خوض مواجهات عنيفة مع الموروث الثقافي للمجتمع التونسي القديم .. 
تونس اليوم وفي الطليعة منها نخبها على مختلف مشاربها وألوانها الايديولوجية المتخلقة في رحم التجربة البورقيبية الرائدة تحاول إستدعاء منجزها القديم وإستلهام زخمه ..لتنفيذ خطوة أخرى في طريق القطيعة مع الفكر الديني النقلي الذي وأد في سانحة طغيان تاريخية أنوار العقلانية الإسلامية في طورها "المعتزلي" وفي قمة توهجها عند اللحظة "الرشدية" الضائعة ..  ومع إستعار الجدل حول أسانيد ومبررات طرح قانون المساواة في الميراث بين الذكور والإناث برسم التطبيق..تبدو إجتهادات القراءة متضاربة حد النكاية بين وجهة نظر ترى أن الأمر إمعان في تغريب الهوية الثقافية التونسية ووجهة نظر أخرى - أظنها أقرب إنصافا وموضوعية - تراه تتويجا وثمرة لتجربة تونس الخاصة في تحديث وتطوير هويتها الإسلامية وفق منظور عقلاني يحرص على روحية النص أكثر من التمسك بالقداسة الطقوسية الشكلانية التي تعوق وظيفة  الدين  كقوة دفع خلاقة وتكرسه كألية كبح وجمود..الذين يعرفون تونس ونسيج نخبتها الموشى بخيوط الذهب وبأسماء العظام من إبن خلدون وصولا إلى عبد العزيز الثعالبي وبن عاشور والصافي سعيد  ووو..يعرفون أيضا أن هذه السياسات والتشريعات  زبدة مخاض و  جهود مضنية إستغرقها التأصيل طوال قرون لم تنفصل يوما عن وسطية الزيتونة وميراث القيروان وتطلعات المهدية ..
شخصيا أتكيء على إعتقاد بأن النص متطور الدلالة في التاريخ وهذه الدلالة هي الحاملة لمقاصد الشريعة التي أوجدها الشارع لتنظيم العلاقات والمعاملات وضبط التدافع بين الأفراد والمجتمعات ..أهميتها وقداستها في وظيفتها وليست في ذاتها .. في المنهجية الاجرائية والنظرية التي تفتحها أمام مراحل التطور في حياة الجماعة المسلمة ..وليس في الأحكام المرتبطة بشرطها الزماني والمكاني ..لذلك فأنا أظن أن ما إجترحه المشرع التونسي لاغبار عليه إلا في موعده القلق ، فأمام إكتساح الأمة على كل الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية ضمن مشروع تذويب الهويات في هوية الإمبراطورية  المنتصرة و مخطط الشرق الأوسط الجديد ، كان بالإمكان التفكير مليا بتأجيل الإعلان عن هذه الخطوة على الأقل مراعاة لوجدان الأمة الموجوع من هذا التلاشي في غبار الإنكسارات ..كان بالإمكان إستدعاء بورقيبة المثقف والزعيم وتوظيفه لمعارك الفكر والحداثة والسياسة لترسيخ قواعد التجربة التونسية وتأكيد إستقلال سياقها الحضاري الذي تتعدد روافده ولكن يبقى أهمها وأبرزها رافدها العربي الاسلامي المهزوم في هذه اللحظة المأزومة ..

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعر عن سياسة البوابة