طوت الأيام الفارطة فصلا آخرا ، من من فصول المسرحية الهزلية التي بدأ عرضها الإفتتاحي العام 2011 م تزامنا مع العدوان الأطلسي الغاشم الذي شنته قوى الإستكبار العالمي بغطاء أممي وفره القرار "1973" القاضي بحماية المدنيين ، بينما أفضى عمليا وفق التأويل التعسفي الغربي إلى إطلاق حرب شاملة ضد دولة ذات سيادة وإسقاط نظام الحكم فيها في خرق مباشر لنصوص القانون الدولي .. 
   
باليرمو الايطالية بكل رمزيتها وإرثها التاريخي المجلل بالعار في الذاكرة الليبية المرهقة إستضافت إجتماعا دوليا دون أن يسفر عن نتائج تذكر اللهم تكريس الأمر الواقع وإطالة أمد معاناة الليبيين دعيت إليه أطراف إقليمية و دولية تختزل علاقتها بالقضية وأصحابها في علاقة هيمنة وإستغلال ومطامح إستعمارية واضحة ، وأطراف محلية تم إختيارها وفق آليات غامضة لاتعكس سوى رؤية الراعي الأجنبي - - ووكلائه من الليبيين لآفاق الحل وتفكيك الأزمة بالاتساق مع مخططاته الاستراتيجية لمنطقة شمال افريقيا والمشرق العربي وليبيا خصوصا كجزء حيوي من المنطقة الاهم في مناطق الصراع "الامريكي الاوروبي الصيني الروسي" والذي ستكون افريقيا محوره الاساسي.. 

 التناقض عميق بين القراءة المتخيلة كما يراها صناع القرار الغربي ويحاولون فرضها كمعطى مادي على الأرض ، وبين الحقيقة السياسية والاجتماعية والجيوسياسية في الحالة الليبية ..ومثلما لايمكن للساسة الوطنيين الليبيين ولا جماهير الشعب الليبي المغيبة اليوم بفعل فاعل ، تجاهل الإرادة السياسية الخارجية وتجاهل المصالح التي تسعى لتحقيقها هذه الإرادة بالاستفادة من بؤس المرحلة التي تمر بها ليبيا الدولة والمجتمع ..فإنه من غيرالحكمة ولا العقلانية ولا بعد النظر بالنسبة للغرب الاستخفاف بما تقدمه القراءة الموضوعية للأزمة الليبية من حقائق وعناصر تركيبية تقع في صلب المشكلة ، وتشكل إضافة لذلك ، قاعدة متماسكة لصياغة الحل ..

 القراءة الموضوعية تقول :- 
ماعرته المحنة وتداعياتها المريرة , ان الكيان المتخيل - وهو الشعب الليبي - الذي استعملته الجوقة الاعلامية من المحليين والدوليين في رفع شعارات الثورة والتغيير نحو دولة القانون والديمقراطية لم يكن شعبا يتكون من مجرد أفراد مواطنين بل أبناء قبائل عريقة ضاربة الجذور في تربة صعبة لاتنبت سوى مايليق بتراث معتق من الحمية والعصبية المعادية بحكم طبيعتها لأي نوع من أنواع التنظيم الاصطناعي غير المنسجم مع تكوينها كما يشير عبد الرحمن بن محمد في مقدمته الشهيرة.. فبغض النظر عن شراسة وفداحة التدخل العسكري الاطلسي الذي أفضى في النهاية إلى إجتثات المؤسسة الامنية والعسكرية..وبغض النظر كذلك عن النتائج المحبطة للانتخابات الهشة التي أجريت على عجل تحت ضغط المطالبات الغربية ودون أن يتوفر لها الحد الادنى من شروط شرعيتها وديمومتها , لتفضى في ختام عرسها المزيف إلى إنشطار مؤلم في النسيج الاجتماعي المتناغم ، ما أدى بدوره إلى تكريس سلطة المليشيات القبلية والجهوية والايديولوجية التي تخلقت في ظل التصدعات الافقية التي أحدثتها كارثة 17 فبراير , ولتتفاعل فيما بعد وطوال السنوات الماضية وفق أنساقها التاريخية المعروفة وتعيد صياغة التحالفات القديمة .. 

فإن طبيعة الصراع (البدائي الفج / غير السياسي وغير المتمدن) هي الغالبة في كامل جغرافية البلاد من شرقها الى غربها الى جنوبها , حتى وإن كانت الشعارات المستخدمة تتلون باصباغ سياسية وايديولوجية شديدة البريق هذه الخارطة المحلية المشوشة بفعل المعطيات الداخلية المذكورة والتدخلات الخارجية المنظورة, والعجز الصارخ الذي تعانيه المكونات السياسية والحزبية الطارئة في المشهد الليبي من إيجاد المخارج والحلول لحالة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد .. افسحت المجال الواسع أمام الاجتهادات الدولية التي تحركها عواصم الغرب و يقودها مبعوثو المنظمة الاممية والتي لاتبدو أهدافها واغراضها واضحة الا على مستوى التحليل والاستنتاج الذي يمكن ان يقودنا ببساطة الى القول ان ثمة نوايا شديدة الوضوح لدى القوى الغربية المؤثرة لإطالة أمد الصراع القائم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا , أو أمرا كان مخططا له ومركونا إلى حين في ادراج المؤسسات واجهزة المخابرات لإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها.. 

  إن المعالجات السابقة والقائمة حاليا والتي تجري عبر آليات لا أساس شرعي ولاقانوني ولا اخلاقي لها , من برلمان منتهي الصلاحية ومجلس رئاسي توافقي افرزته مفاوضات مبتسرة ومحدودة بين اطراف لا يمثلون سوى مصالح خاصة لبعض الفصائل المتناثرة في جغرافية قبلية شاسعة..أثبتت فشلها ليس فقط بسبب فقرها المدقع للمنطق السياسي والوطني , ولكن اولا واخيرا لتجاهلها الحقيقة الاجتماعية والثقافية للشعب الليبي وللسياق التاريخي للحظة الحرجة التي يعيشها .. 

 لقد خرج من خرج على النظام والشرعية الوطنية والدولة القائمة في 2011 بإسم قبائل ومدن قبلية, ولن يعود هؤلاء إلى التعايش السلمي تحت ظلال سلطة مركزية إلا بوصفهم كذلك أي كقبائل ومدن متقبلنة .. 

وإذا لم نتوصل لاستجماع ما تبقي من قوى شعبية و قبلية و إسترجاع زمام المبادرة من خلال اطلاق مؤتمر عام يجمع كل المكونات المجتمعية وفق ديمقراطية اجتماعية وطنية تستلهم تجربة الاجداد في مواجهة محطات مفصلية في تاريخ ليبيا الحديث ،وصولا إلى صيغة مشتركة لإعادة إحياء السلم والوئام كخطوة أولى في طريق التواصل مع حلم الدولة الجامعة والخضوع لقوانين لعبة الصراع السياسي السلمي بعيدا عن منطق الشوكة والمغالبة ، فلاشيء سيمنع العربة الليبية المتدحرجة في حركة سقوط حر من الاستسلام لمكانيزمات الانزلاق إلى حرب أهلية مفتوحة ستفضي في النهاية إلى إنتاج أنماط سياسية سلطوية فوق القبيلة وتحت الدولة كالتي تحدث عنها المستشرق البريطاني الامريكي اليهودي " برنار هنري لويس " في وثيقة الفوضى الخلاقة التي اقرها الكونغرس الامريكي عام 1982 م.. 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة