قبل الدخول في النقاط السبع للمبادرة، توجب تأسيساً طرح بعض التساؤلات ومن بينها، لماذا لم يتم طرح حلول ومبادرات للأوضاع الليبية المتعثرة منذ تولي السيد فائز السراج للقيادة عام 2015 وتوليه رئاسة المجلس الرئاسي بعد اتفاق الصخيرات؟ ولماذا لم تتطرق المبادرة لضمانات حقيقية، وبالأخص تلك المتعلقة بالجرائم سواء المالية أو الإرهابية في حين لم تصنف بعد؟ وهل تأتي  تلك الملاحقات خارج السلطات القضائية؟ ومن هي طائفة المستهدفين بالمحاسبة؟ وماهي المعايير من وراء المنهج؟...هل الجيش الليبي؟ أم الجماعات المؤيدة المسلحة؟ ام آخرين؟، 

وفي كل الأحوال، لم تتطرق المبادرة لمعالجة المراكز التشريعية والتنفيذية كـــ "مجلس النواب الليبي والحكومة المؤقتة"، و"حكومة الوفاق"، و"مجلس الدولة" والكثير، وهل تلك الكيانات بما فيها المجلس الرئاسي ستظل تحكم للأبد بحجج عدم الاستقرار وقبول الحلول المقترحة؟، ايضاً، ما يثير إهتمامي وإهتمام الكثير من المتابعين للمشهد يكمن في الكيفية التي ستسير من خلالها المبادرة دون جدول منهجي وزمني، وكيفية اختيار الشخوص والكيانات، والكيفية التي سيكون عليها الشكل القانوني لهذا الملتقي؟ ولتحقيق المبادرة، نضع الإستفسار والإشكال القانوني الرئيس؛ فهل مخرجات الملتقي –إن وجدت- ستمحو مخرجات مماثلة كتلك المقررة بالإعلان الدستوري المؤقت، وإتفاق الصخيرات، أم ستحتاج لتعديلات قادمة ومعالجات يقرها مجلس النواب الليبي؟ والذي بات خارج اطر المبادرة . 

لا يزال البعض يزعم ويحسب بأن هناك قوة دون قيد، او قوة دون دعم، او قوة دون توجه،،، بما في ذلك الرايات المرفوعة لنصرة الله،،، ابتداء من حروب البابا الي يومنا هذا،،، ولايزال البعض ينظر بأن السيادة لاتزال تجسد مفاهيم الأمة بشكلها ونمطها السابق التقليدي. 

إن القتال والصراع السياسي يشكل موجات من المواجهات العسكرية وهي أوجه آخري للضغط باتجاه التفاوض-في حال تساوي ميزان القوي-، وهو ما خلقته القوي الدولية في ليبيا منذ أعوام بصناعة دقيقة، لتعيد النظر في مصالحها وتقاسمها الغنيمة الليبية الآنية والقادمة، وتذكيرنا كشعب بأننا لازلنا تحت حكم الأقاليم الثلاث قبيل الإستقلال مهما توحدت البلاد واندثرت الخطوط التقسيمية، فالصراع الدولي ينتهج مسارات الجنوب والغرب والشرق، وكل يري أحقية شرعية منفعية في مستوطناته الإستعمارية إبان الحرب العالمية الثانية. 

نستطيع أن نصف التمرد بأشكال ولاعبون ثلاث، ليس كلها سيئ، فهناك "المتمردون الشرعيون"، وهناك "المتمردون المخربون" وهناك "القوي الخارجية"، ولكل مناهجه وأهدافه.

كما أن عند قراءة ما يحدث في ليبيا لا يمكن أن نفصل واقعها عن محيطها المباشر وغير المباشر، فالخارطة تتعرض للكثير من التغيرات والتفاهمات، فما يحصل في سوريا -علي سبيل المثال لا الحصر- قد يؤثر سلباً او إيجاباً، كما أن القمة الخليجية بمكة المكرمة قد تضع خطوطاً عريضة لما سيكون عليه الحال.

نعي جيداً بأن إطلاق المبادرات قد يودي للإفشال بدلاً من الإصلاح، وقد يكون دافعاً للرفض وليس للإيجاب، وكلما فشلت المبادرات والإصلاحات، غير المجدية وغير النافعة وغير الحيادية، كلما ازداد الصراع وارتفعت أصوات التقسيم والزحف تجاه منعطفات الحرب الأهلية، وفي الأغلب وبعد ارهاق الميزانيات وتصدع البني بأشكالها، نرجع الي النقطة الأولي وهي طاولة مستديرة في حالة التكافؤ، ومستطيلة في حالة وجود منتصر.

في الوقت الذي نري بعيون الحرص الوطني تشظي المجلس الرئاسي ومقاطعة بعض أعضائه وعدم تحقق نصاب جلساته ومن ثم عدم شرعية قراراته -رغم قبولها وتأييدها دولياً-، وفي الوقت الذي أصبح عودة أعضاء المجلس الرئاسي المقاطعين ضرورة ومطلب وطني، وذلك لعدم منح الفرصة السهلة لإستصدار قرارات منفردة (لما تبقي من أعضاء خسروا البقاء الدولي)، تتعلق بالشأن العام الليبي وتشكل التزاماً علي مستقبل البلاد والعباد، وفي ظل مؤازرة غير مسبوقة من قبل بعض دولٍ أعضاءٍ بمنظمة الأمم المتحدة والمراهنين علي حكم دولة ليبيا من خلال شرعية دولية تفتقر للقوة والقاعدة، يأتي بيان او ما يسميه البعض "مبادرة" تحمل بين طياتها شكوك الإلتفاف والتسويف والإستمالة والإستحالة.

إن خلط المفاهيم بات اتجاه واضح يدعمه المبعوث في ليبيا لا نحتاج لتفصيل أعمق، فالمخطط واضح بذاته. فهي المرة الثالثة للمبعوث الأممي لتقديم سلسلة تقاريره وافاداته لمجلس الأمن الدولي لتحفيز التدخل وعدم الدعم وايقاف مسيرة الجيش الليبي لتحرير طرابلس، بالإضافة الي فشل محوره الباسل لمحاولات سبقت من قبل المملكة المتحدة وألمانيا وهو ما يبين بصراحة ووضوح الإزدواجية والإنحراف.

أصبحت منظمة الأمم المتحدة هي المشكل وليست الحل، فخلط الأوراق وصنع الكيانات الموازية لشرعية الدولة شكل مفاهيم شاذة عن القاعدة التشريعية والتنفيذية الحقيقة، وبات واضحاً تعميق الشقاق وتفريق الأمة رغم أن الحلول والمعالجات كثيرة خارج القوالب الجاهزة.

توقعت عندما أتي الحديث عن مبادرة السيد رئيس المجلس الرئاسي بأنني سأطلع علي مسار دقيق ورؤية شفافة وخطة كاملة الأركان تبين حنكة سياسية في مسيرة الإنتقال في وضع شائك سياسي –عسكري، والبدء في مرحلة تحضير وآعدة علي كافة النواحي (سياسياً-عسكريا-أمنياً-وإقتصادياً- وإجتماعياً)، وبها تلم الشمل وتحفظ البلاد، وتدعم الأمن والإستقرار، وتنشط الاقتصاد، وتحمي الموارد والأموال، وترأب الصدع وتقوي أواصر التناغم المجتمعي، غير أنني تفاجأت كما الغير برسالة خطابية تحمل بين طياتها الإصرار علي دعم إستمرار القتال ضد الجيش الليبي بل من معالجة الموقف الحالي ووقف المزيد من الإقتتال والدماء، علي العكس،أتت تحمل بين سطورها ومن خلال مفهومها الإقصاء والتهميش وعدم الحيادية، وكأن صاحب المبادرة هو من يحاصر آخر المدن لتحريرها!  

إن تحركات المبعوث الأممي "سلامة" مؤخراً ومقابلاته الضيقة المنتقاة بحذر، توضح بشكل جوهري إرتباك المشهد الدولي و فقدان البوصلة وعدم قدرته علي تنفيذ مخططات ومنهجيات لبعض أعضاء الأسرة الدولية، أو ما يعرف بمقاولات "منظمة الحوار الإنساني" بجينيف، فقد استنفذ كافة طاقته وقدراته، وبات الحل خارج السيطرة ميدانياً – محلياً بريادة "الجيش الليبي" ودوليا بتدخل مباشر "أمريكي"، فلم تسهم منظمة الأمم المتحدة في علاج أي ازمات عالمية،،، ولكن لنكن أكثر دقة فكلما أتت الموافق الأمريكية تمت المصادقات ومن ثم المعالجات بأشكال مصلحية صرفة،،، الدلائل كثر كوسفو-الصومال-العراق- والكثير.

وبالرغم من محاولة المبعوث الأممي "سلامة" توصيف الفصائل بالجماعات المسلحة واعتبار شرعيتها في بعض الأحيان منبثق من الحكومات، في اشارة لدعم الوفاق لها، الأمر الذي يضع اساس الاختيار الأممي موضع الشبهة، في الوقت الذي لم يصف فيه ويتطرق بالحديث عن الكيان الشرعي لـ"الجيش الليبي." متجاوزاً لمؤسسات تشريعية منتخبة كـ"مجلس النواب الليبي وحكومته المؤقتة"، والتي نعتبر دعمها مبدأ أساسي لعدم الدخول في فراغات تشريعية ودستورية وإنحراف الكيانات وتغييب الرؤية لمستقبل البلاد، وبالأخص عندما يتعذر تحقيق مسارات انتخابية بشكل شفاف، أو مبادرات ليبية تحظي بالقبول الشعبي.

بنفس منهج البيان "المبادرة" تحدث المبعوث الأممي من خلال لقاء له في "قناة RT" ذاكراً تهميش الشرق والجنوب الليبي، وهو أمر يعرفه القاصي والداني وامتداد لسياسات المركزية سابقاً، وهو ما ذكرته المبادرة لآحقاً، غير أن الأمم المتحدة تصر علي الدوام تركيز السلطات بيد الرئاسي والذي يعمل في حلقة طرابلس دون ليبيا، حيث نري بأن كافة أمور وأعمال الدولة تحاك خيوطها وتدار بنظرة ضيقة ويتم حصرها في مدينة دون غيرها، وهو ما تعرفنا عليه من خلال سياسات مالية، وإدارية، ومن خلال البعثات الدبلوماسية والقرارات الضيقة، غير أن منظومة الدفاع كان ولا يزال تحت سيطرة الآخرين، الأمر الذي لم يزد الطين الا بلة، ويضع صانع القرار في وضع المسير ومقيد الصلاحية والإرادة من ثم إيجاد الطريق.

كل ما سبق يؤكد بأن المبادرة التي اطلقها السيد فائز السراج اليوم تأتي من ضمن مناهج ومخططات المبعوث الأممي، كما تأتي أيضاً لتبني وجهة نظر ما نتج عن اجتماع وزراء الخارجية بتونس الايام القليلة الماضية، فكلما تأخر تحرير طرابلس سيعمل علي فتح مسارات ضدية ومن ثم صياغة مخططات خطة "ب" وبدائلها. 

فلا شئ يحمينا من التمدد الخارجي بطبيعة الحال (أشكال مختلفة) ولن نستطيع الإختباء وتفادي المعارك في كثير من الأحوال، فهو لم يحمي أدغال أمريكا الجنوبية ولم يحمي الهنود الحمر في أمريكا الشمالية فظاهرة التفوق تمكنت وازدادت، ولكن علينا الإستفادة من كل فرصة متاحة علنا نجد طريقاً ومخرجاً.

نحاول أن نقرأ ما بين سطور حدث حرب التحرير، فمن يقاوم اليوم ليس الرئاسي او حكومته، بل هي تلك الأطراف المرتبطة مصلحياً معه وتعلق مصيرها وبقائها بوجوده، تلك القوي تعمل وفق منظومة القرار الدولي، والأخري تعمل وفق تخويلات محلية مكتسبة.

المبادرة... استمالة أو مناورة؟

تجسد "المبادرة" ان صح التعبير والتسمية، لصنع خارطة طريق مؤسسة علي ملتقي ليبي "مقولب ومختار"، حيث أشارت في بندها الأول، بطبيعة الحال بعد التنسيق مع البعثة الأممية، أي بمعني (الموافقة والتأسيس) وليس (المراقبة والتدقيق)، بوضع شروط الدعوة لبعض الكيانات الوطنية بشرط التأثير السياسي والإجتماعي، وهو معيار يصعب معرفته وإختباره، فيسهل بالتالي الإنتقاء ويسهل الإبعاد والإقصاء وذلك لتحقيق المسار المستهدف. وبناء علي قاعدة الملتقي الليبي، وهو بيت القصيد في الإختيارات والمشاركات والإبعاد والإقصاء، تؤسس كافة البنود الأخرى والمخرجات المرغوبة. فالخارطة تكون جاهزة، وبنود الأعمال تأتي مكتوبة، والخيارات تضيق أمام مستقبل البلاد بتسمية لجنة قانونية، تحدد كافة بنود العملية السياسية (الدستورية والتشريعية والقانونية) بما في ذلك تأسيس عمليات الانتخابات، كما سيشرف (الصانع والمخرج) علي كافة المخرجات والترتيبات، أي تعمل وفق منظومة دولية توظيفاً ودعماً، وهو ما افصحت عنه "المبادرة" من خلال بنودها الثاني، والثالث، والرابع والخامس. غير أن البند السادس والسابع يذهبان الي  (الإستمالة والمناورة)، وتأتي الخطوات بوضع اليات "بنفس المنهجية -اللجنة القانونية-" لمعالجات المركزية والمصالحة المجتمعية والعدالة وقوانين العفو وجبر الضرر، بإستنثاء بعض الطوائف (التفافاً).

ختاماً،

لسنا بحاجة الي إكتشاف اغوار "البيان" بشكل مفصل، ولسنا أيضاً أمام بنود عميقة غير مسبوقة (مكررة)، أو الدخول في قانونية وتشريعية الحدث أو الملتقي، وبعيداً عن تجاذبات إتفاق الصخيرات وانتهاء الصلاحية ومشروعية التنازل عن السلطات أو منحها، أو إنتهاء صلاحيات الأجسام التشريعية، فالمبادرة او البيان ولد مُعوقاً او مُشوهاً او مَشبوهاً... لأسباب عديدة قمنا بطرحها، وأهمها التدخل الدولي المباشر تأسيساً ودعماً، والاقصاء والتهميش لمعظم طوائف المجتمع الليبي، والإنحراف بالعملية السياسية وتحولها من كونها عمليات إنتخابية الي عمليات تكليفية منهجية، بإلإضافة الي واقعية الموقف الراهن والذي نشهد فيه تغير الخطاب الأمريكي تحديداً في مواجهة بعض تحديات دول أوربية قد اثبتت عدم القدرة في السيطرة علي الشأن الليبي، كما إن إستمرار الجيش الليبي عملياته في الدخول الي طرابلس سيضع محددات قريبة قادمة ومناهج مغايرة.  

تظل فكرة إنطلاق (ملتقي ليبي أو ملتقي جامع أو ملتقي وطني)، قيد التداول والبحث، وقد تضفي مخرجاً للأمة (بدون التدخلات الخارجية) وقد تحرك جمود الوضع الحالي من الناحية السياسية والإجتماعية، كما تظل تحديات إخفاقات كافة الكيانات الراهنة دافعاً للمزيد من المبادرات الوطنية، وطرح مزيد من البرامج والخرائط والحلول للأزمة الحالية،،، فهل سنري تأييداً أممياً -في المستقبل القريب- (بعد تبدل المواقف ميدانياً ودولياً) لمبادرات وطنية لا تؤيد إستمرار المجلس الرئاسي وانهاء إتفاق الصخيرات؟ وهل ستقبل المجالس التشريعية الأخرى كـ "مجلس النواب الليبي، ومجلس الدولة، والمفوضية العليا للإنتخابات" التنازل عن وظائفها وتسليم سلطتها لمخرجات ملتقيات دون عمليات إنتخابية مباشرة؟. 

تقديري وإحترامي

كاتب ليبي 

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة