كنتُ أتشوّقُ كثيرا في صِغري، ليومِ الخميس، أرجعُ جَذِلا من المدرسةِ مُهَرْوِلا، ودقّاتُ قلبي تتسارعُ كلّما دَنَا وقتُ المَغرِب، أرمي حقيبتيَ الثقيلةَ مُرتاحا، كسجينٍ خرجَ توّا من حُكمٍ بالأشغالِ الشّاقة، أغضُّ الطّرفَ عن دَعَواتِ الأصدقاءِ المُغريةِ للعِبِ كُرةِ القدم في "وَسْعاية الجبيلة"، جالِسا أمامَ بابِ منزلنا، أنتظرُ أمّي العزيزةَ، المُربّيةَ الفاضِلة، لتأخُذَني إلى المسرحِ الوطنيّ بدرنة في "وسط البِلاد"، أو مسرح "محمّد عبد الهادي" بجوار مسجدِ العتيق، لنشاهدَ عرضَ مسرحيّة الأسبوع، كانَ عالما جميلا، أذهلَ طفلَ الثامنةِ بعينيْهِ الواسِعتيْن.

 

المسرحُ كأبٍ للفنونِ، كما يُقال، يعتبرُ أهمّ مقاييسِ تحضّرالشّعوب، حتى صارَ أستاذا لها، ومعيارا للحالة الثقافيّةِ والأدبيّة والسياسيّة للمُجتمعات، ومَجْلاةً عن قضاياها، ودَلالةً على وعيها بذاتها، وهُويّتها، ومشاكلها، لذلكَ يتأثّر سلبا وإيجابا بها، فمجالاتُهُ هي ميادينُ النّفسِ الإنسانيّة تتمظهرُ في تقلّباتها: ضحِكا [كوميديا]، وحُزنا [تراجيديا]، وخيالا [فانتازيا]، وأحداثا [دراما] وسواها، لذلكَ تُدرسُ التجربةُ المسرحيّة دراسةً سوسيولوجيّة بالدرجةِ الأولى، وسيكو-سوسيولوجيّة، بتفرّعٍ أكثر دِقّة.

 

والمسرحُ الليبيّ بصفةٍ خاصّة، ولدَ كبيرا بقضاياه، وإنسانيّا باهتماماتهِ، وصوفيّا برُوّاده، وتركيّا باتصاله، قضاياهُ التي كانتْ حاضرةً في أوّل عرضٍ مسرحيّ لفرقة ليبيّة، وهي مسرحيّة [وطن] سنة 1908م، للسياسيّ الأديب التركيّ نامق كمال [1840م – 1888م]، أداء فرقة الفنّان مُحمّد قدري المُحامي، ومنْ إخراجهِ على الرّاجح، لتكونَ قيمةُ الحُريّة حاضرةً بقوّةٍ فيها، وقضيّةُ الوطنِ بارزةً عليها، فكانَ كما قال مؤرّخ المسرح الليبيّ "البوصيري عبد الله": "إنّ بدايات المسرح الليبيّ كان سياسيّا محضا ينشد الحريّة ويتغنّى بالوطن"، كان يُجسّد بكلّ معنى الكلمة قول أرسطو في كتابه فنّ الشّعر: "إنّ المسرحَ مكانٌ للمقاومة من ّاجل المدنيّة والإنسانيّة".

 

وقضيّتهُ وإنسانيّته في أوّل عرض مسرحيّ ليبيّ، لم تكنْ محصورةً في مضمونه وحسب، بل كانت أيضا متضمّنةً سمناسبةَ عرضه أيْضا، فلم يكنْ تجاريّا ريعيّا، بل ذهب ريْعُهُ لعُمّال المواني والعتّالين وحملةِ البضائع، الذين اتخذوا موقفا سياسيّا صارما بالإضراب عن العمل تِجاه السفنِ النمساويّة، احتجاجا على اجتياح النّمسا جزيرتي البوسنة والهرسك، وتضامناً معهما على اعتبار أنّهما على نفسِ ديانتهم، وهي "الإسلام".

 

واستمرّت رسالتُهُ الإنسانيّة توازيا مع عروضه، في مختلف أزمنته، فها هي مسرحيّة "مضمار القمار" لفرقة نادي الاتحاد، تجعلُ من ريعها إنسانيّا، كما خُصّص ريعُ عرض "مسرح وموسيقى وطرب" لنزلاء مستشفى طرابلس المركزيّ، وغيرها الكثير.

 

ولم تتوقّف مسيرةُ المسرحِ الليبيّ الوليد السياسيّة إلى هذه المسرحيّة وحسب، بل نكادُ نقول إنّها رافقته منذ بداية نشاته ولم تنفصل عنه، فكانَ مسرحا نِضاليّا بامتياز، فأوّل مسرحيّة ليبيّة كانت "مُحاكمة المستبدّين" من تأليف محمّد قدري المحامي سنة 1908م، وتلاها مسرحيّات تندّد بالأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة، طيلةَ فترات الحكم العثمانيّ والإيطاليّ والانجليزيّ كمسرحيات "الحمير والبردعة"، "السماسرة"، خاصّة مسرحيّة "رُعاة الغنم" سنة 1945م لـ"رجب البكّوش"، فطريقه لم يكن مفروشاً بالورود أبدا، فكم من فرقة قد أغلقت كما حدثَ سنة 1935 لفرقة محمّد عبد الهادي [1898م – 1952م]، التي أصدرت السلطات الإيطاليّة قرارا بإيقافها وعروضِها، كما تمّ أيضا إيقاف فرقة المعهد الجديد سنة 1954م، ناهيكَ عن العروضٍ المسرحيّة التي أوقفت غصبا، كمسرحيّة "صلاح الدين" سنة 1935م، لفرقة مدرسة الفنون والصّنايع لأحمد قنابة [1898م – 1968م].

 

ولماذا نذهبُ بعيدا، ففي حُكم العقيد قذّافي عانى المسرحُ كثيرا، إهمالا، ودعما، وطمسا، وتهميشا، كما عانتْ جُلّ المؤسّسات الثقافيّة الأخرى، وقد أشارَ أستاذنا حسن الأمين عندَ حديثه عن تجربته في فرقة المسرح الوطنيّ – مصراتة، ودوره في مسرحيّة "سنوات القهر" لعبد الكريم الدنّاع، إلى تدخّل نظام القذافيّ في المسرحيّات تحريفا وحذفا، وتعديلا يصل لتشويه المسرحيّة ورسالتها، لدرجة أنّهم ألغوا عرضها، لكثرة التعديلات المُخلّة بها.

 

ولعلّ غيري أقدرُ من السرد التاريخيّ والتحليليّ لمسرح سبتمبر، ولكنّي هُنا أسجّلُ فقط مُخالفتي الرأيَ للأستاذ الفاضل البوصيريّ عبد الله الذي عدّ "ثورة القذافي" و"قراراتها" بل وحتى "منع الطباعة على النّفقة الخاصّة" من "المُعطياتِ الإيجابيّة"، كما جاءَ في مقدّمته على مُدوّنة المسرح الليبيّ للدكتور عبد الله مليطان، فليُراجع.

 

وممّا أدركتُهُ من مُعاناة المسرح، في حُكم القذّافيّ، ومُحاربته له، حدّا من الحريّة ومجالاتها، ما جرى سنة 2003م، عند ظهور مسرحيّة "في المستشفى" من تأليف وإخراج داوود الحوتيّ، وتمثيل: ميلود العمرونيّ، فرج عبد الكريم، خالد الفاضليّ، وآخرين، أتذكّر أنّها دخلتْ تهريباً على "أسطوانات - CD" إلى درنة، وشاهدناها خِلسةً، وكانَ بيعُها تهمةً تدخلَ صاحبَها السّجن، إذْ أنّها كانت أشدّ على النظام من المناشيرِ وبيانات المُعارضة، لم تكن المسرحيّة سياسيّةً بالدرجة الأولى، ولكن كانت اجتماعيّةً نقديّة لـ"مجتمع المُستشفيات – Hospital Society"، وما فيه من تجاوزات وسرقات وتقصير ورشاوٍ وسوء إدارة، وسواها، لكنّها هزّت أكذوبة المجتمع الجماهيريّ السّعيد، الذي يُنادي بها كلّ مُستبدّ مُدعيا أنّ شعبه في نعيمٍ به.

 

فهكذا كانَ حالُ المسرح الليبيّ في فتراتٍ شديدة، ضنكا واستبدادا، حنقا وارتخاء، شدّةً ورفقا، من الحُكم الإيطاليّ، والانجليزيّ، والمملكة، والقذافيّ، فكانَ رغم حالكِ الظروف أفضلَ حالا، كأداةٍ للتغيير الاجتماعيّ و"كدعوةٍ دائمة له" كما يراه جان دوفينيو، وبديلٍ عن صوت النّاس المكبوت، ومنارةٍ للحريّة المغتصبة في الأنظمةِ الشّموليّة، تلك القيمةُ الغائبة، المغيّبة، التي قال عن فرعها "حريّة التعبير" الكاتب المصريّ يوسف إدريس [1927م – 1991م] "إنّ كل الحريةِ المُتاحة في العالم العربيّ لا تكفي كاتباً واحداً، لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها".

 

فما حالُ مسرح فبراير اليوم، وقد تخلّصنا من نّظام الفردِ الواحد، بحركة اجتماعيّة وحرب أهليّة، سُميتْ -جهلا- ثورة، "من أجل الحُرية، والعيش بكرامة على أرض الوطن، واستعادة كافة الحُقوق التي سلبها القذافي ونظامه المنهار"، كما جاءَ في فاتحة الإعلان الدستوريّ، وما حالُه وقد ماتَ الرّقيبُ الذي ينغّص على المُبدعينَ عيشَهم، ويقزّم إبداعهم، ويكبّل وَهَجَهم.

 

أين المسرحُ من الحالة الثقافيّة "الحالة" التي نعيشُها اليوم؟

أينَ المسرحُ من التعبيرِ عن الظلمِ المُمارس، والقتل المُمَنهج ، والاغتيال المُسيّس؟

أينَ المسرح من نقد توظيف الدّين وخيانة المنابر، وفتن المساجد؟

أينَ المسرح من ناصية النّواصي وافتئات المُفتي وبتائك الكتائب؟

أينَ المسرح من قتل الورود وسفك الزّهور؟

أينَ المسرحُ من وجودهِ ودوره ووظيفته ورسالتهِ، تجاه وطنه ومجتمعه؟

 

ملحمةٌ شعبيّة كبيرة وحربٌ ضروس، كفبراير، عَجَبا كيف لا تحرّك مشاعر الفنّانينَ والمُرهفين، أدبا وشعرا وفنّأ ومسرحا وغناء، ليس للتغنّي ببطولات زائفة لمُدُن طاغيةٍ وحسب، ولكن تعبيرا عن الإنسانيّة التي هُتكت، والبراءة التي هُجّرت، والمروءة التي اغتصبت، من اغتيال الروح والدين والوطن، وذلك أدعى ألفَ مرّة للشّعر بالمسرح، للنّثر بالرّكح، للجهاد بالتمثيل، بالتبصير والتنفيس، فمن هُنا يولد الإبداع حقّا، ولا أغالي إن قلتُ العالميّة، فعندما ننظر إلى المسرح كضرورة، لا صورة، كروح لا مجرّد بوح، كرافد أساسيّ للمجتمع، عندها نقولُ مسرح الثورة، وثورة المسرح، لنرى على مسارحنا "زواج فيجارو" ونقد الثوّار وامتيازاتهم، وبئر الخراف لثورة البسطاء على انتهاك شرفهم، لنرى فيت روك، ليبيّة، تجسّد الحرب الأهليّة، وإن لم يولدْ بيننا دي لاباركا [1600م - 1681م]، ودي فيغا [1562م – 1635م]، في مثل هذه الظروف، فلا إخاله سيولد أبدا.

 

ملحمةٌ كفبراير، كحربٍ أهليّة مظلمة، خلّفت اليتامي والثّكالى، والمعاقين، والمرضى جسدا ونفسا، والمُهجّرين، كانت ستنتجُ إبداعا على كافّة المستويات، خاصّة الأدبيّة الفنيّة، تتضاءلُ نوبل ومثيلاتها عن مستواها، لأنّها مآسٍ تفجٍّر الحجر، وتدمع الشجر، وعطشٌ بعد سجن، وأملٌ بعد قهر، وحلمٌ كبيرٌ بحجم الوطن، لا يملكُ أيّ "إنسانٍ" مجرّد المرور عليها معزولَ المشاعر، ملحمةٌ تجسّد فيها الحُزن والألم، والتهجير، والقتل، والظلم، والفرح، والفقد، والمرارة، والانتهازيّة، والبرجماتيّة، والعاطفة والحُبّ، والسّلاح، يا ربّاه، لو حدثت في أمريكا مثلا لكانَ العالمُ ينتظرُ إحدى روائعه التي سيُخلّدها تاريخه.

 

المسرحُ يوصلُ ما لا يوصِلُهُ غيره، يشّكل الوجدانَ، ويوجّه العقليّة، ويوضّح القضايا، بالفعل ابتداءً صدورا من المشخّصين، والانفعال دورا من قبل المستقبيلن، في حركة اتصاليّة بالمُشاهد والممثّل، بالمُشاهد والمُشاهد، بالمُشاهد كجماعة في عرضٍ جمهوريّ، بلغةٍ كلغتنا، ولهجة كلهجتنا، وممثلين بلباسنا، ومخرجين بثقافتنا، ليختزلَ ليبيا كلّها بين حافتيّ ركحه، ليخلُقَ فلسفةَ المسرحِ، وينطلقَ إلى مسرح الفلسفة، ذلكَ المسرحُ الذي استطاع وحده أن يحقّق حلمَ المدينة الفاضلة، على ركحه، لتصيرَ "شكلا من الأشكال الممكنة له" كما يراها يونس لوليدي في كتابه المسرح والمدينة، ليعودَ المتفرّجُِ للمسرح، ليملأ كراسيّه من جديد، لتكسبوا ثقته، بعدما هجركم طويلا إلى المسارحِ الأخرى العربيّة والأجنبيّة، كما هجركم على صعيد الشّاشة الصّغيرة، وما اكتساح الدراما التركية والمكسيكية إلا دلالة على ضعف الدراما العربية عموما، والليبيّة، أكثر حضيضا.

 

وانسيابا مع السّياق نفسِهِ، أتساءلُ عن السّينما، في فبراير، الفنّ السّابع، فبدلَ توثيق الأحداث والبطولات الوهميّة والحقيقيّة، بواسطة كاميرا نقّال رديئة على أيدي هُواة، لماذا لم نرَ ذلك التوثيق يتجلّى سينما، في فيلمٍ متكامل عن هذه الحرب، وجوانبها، أو دراما مسلسلاتيّة، يمثّلها ليبيّون عاشوا كلّ مراحلها، ومخرجونَ تابعوها بكلّ جوارحهم، ومنتجون يرونَها واجبا وطنيّا، طبعا بعيدا عن ما تمّ عرضهُ على الشّاشة الصّغيرة في السنتين الأخيرتين، بين تهريج وإسفاف، واستهانة بالمُشاهد والنّاقد.

 

وأجدُ لزاماً عليّ قبل ختامي، أن أقولَ لوزارة الثقافةِ: إنّ دورَها ليسَ محصورا في الكِتابِ ومعارضهِ فحسب، ولا طباعةُ الدواوين التي فيها كلّ الكلام إلا الشّعر، ولا القصص التي لا فائدةَ منها إلا زيادة رقم، خاصّة وقد خلتْ إصداراتها من الكتب المسرحيّة تتضمّن نصوصا لقلّة الكتب المسرحيّة عندنا أصلا، ودورُها كوزارة –كما أراها- سياديّة، في المرحلة الحاليّة، يكونُ أكبرَ ليشملَ المسرح بدرجة أولى، كمّا ونوعا، بنىً فوقيّة وتحتيّة، ببناء المسارحَ وتجديدها، ودعم الفرق الوطنيّة، وتنظيم العروض المسرحيّة، وإعداد مقترح لإدخاله مادّةً تدرّس في المدارس، إضافة للموسيقى، إن سمحَ لنا طبعا، الحاكم بامر الله.

 

أعلم أنّي أطلت، ولكنّي أقولها للمرّة الألف، فبراير ليستْ ثورة، وغاية أمرها، انتفاضة، وماتت، وكانَ بيانَ نعيها خطابَُ تحريرها، على يد رئيس مجلسها المنحلّ، فراجعوهُ وأنفسَكم، وحكّموا عقولكم، وابتعدوا عن عاطفتِكم، التي استحكمتْ عليكم، واستبدّت بكم، وقبلَ أن  تكونَ مُسلما أو ملحدا، إخوانيّا أو علمانيّا، كن إنسانا أوّلا، ثم" فليدعُ كلٌّ منكم إلى دينه ومعتقده، وإلا فلن آمنَ نفسي –وكلّ أحد- من كهنةُ درنة وأشياعهم، بأسيافهم يحرّمون عليّ العشقَ والمسرح والفنّ والحبّ والكتابة وكلّ شيء، حتى الهواء الذي أتنفسّه.

 

واعلموا أنّ الانتفاضةُ التي لا فنّ فيها، لا يُعوّل عليها، مع الاعتذار للشّيخ الأكبر ابن عربيّ [1165م – 1240م].

 

صحيفة وطني الليبية