يعارض البعض، بافتراض حسن النوايا، مساقات التغيير المقترحة لكونها عاجزة عن إيجاد الحلول الكاملة والناجعة، أو كونها عرقلة لتحول دائم ومباشر، وقد يذهب البعض برفضه واستنكاره لتلكالمساقاتمن باب الحرص علي السيادة الوطنية والتدخل الأجنبي، وفي مقابل هذا، يوافق البعض بتحفظ علي إحداث تغيير تدريجي في مسيرة التحول والارتقاء من حالة التردي والصراع علي كل مستوياته الي حالة تضفي نوعاً من التوافقات والاتفاقات، لإحداث نقلات متأنية وثابتة.

ما نطرحه من خلال هذه المقالة هو محاولة لتوضيح الغموض الذي يكتنف الصراع الليبي ومحاولة لتفهم الواقع من خلال تجارب الغير وبحوث الخبراء، فقد رافقت تغييرات كبيرة لدول أمريكا اللاتينية ودول أوروآسيا ما بعد الشيوعية، ورغم مرور سنين طويلة، الا ان  تلك الدول كما يراها أنصار الليبرالية قد سارت بأنظمة هجينية مختلطة أقرب من كونها ديمقراطية ليبرالية فوكويامية، ولكنها بقيت أفضل نسبياً عما كانت عليه سابقاً.

ان الحرص علي المسار الوطني هو نوع من تحقيق الهوية، غير أن ما يقدمه المواطن او الجماعات المحلية والوطنية غالبا ينظر اليه بصورة عكسية وسلبية، وقد يتدفق سيل من الإنتقادات ترمي في بعض الأحيان الي التجريح والإنتقاص والتهميش. في المقابل، ما يراه الانكل سام ومنظماته دائماً يلقي القبول والتأييد والمصادقة ليس من دافع الحكمة او تحقيق المنفعة بل بدافع المصلحة او بدافعالتميز أحياناً وغلبة الحاجز النفسي المصطنع بعد الإستعمار وهو ما أوجد حالة من عدم القدرة من جهة وعدم الثقة من جهة أخري، كما أن الغرب قد استطاع بناء الجدار القوي المانع لما تحويه تلك المقترحات من واقع زخم ودعم اعلاميوسياسي واقتصادي، الأمر الذي يبعث القلق الحقيقي علي مصير ومستقبل التحول القادم.

الإنذار والخيار ،،،،

وفي ظل ما نتحدث عنه اليوم، يبرز ملتقي جامع بقيادة أممية، توضع حجرة أساسه - ابريل القادم- في مدينة تاريخية وهي غدامس،حدث قادم يجمع فرقاء ليبيا كـــ توجه عام تحت مظلة الامم المتحدة، رغم ان البعض قد يشكك في بواطن الأمور معتبرين ان الملتقي الجامع سيكون وأداً للديمقراطية والتحول اليها. نعم القلق يلف الحدث، والانتخابات لن تكون موضع نقاش في وقتنا الحالي، فما هي البدائل والحلول التي يراها المنتقدون؟

ويجدر الإشارة وقبل الدخول في تفصيلات لما سنشهده من خلال الملتقي،فان المقترح لبناء أسس الدولة سلاح، والسلاح إذا وُضع بيد المجرم فهو أداة للجريمة، وإذا استخدمته الجماعة بإيجابية، وحصنتّه من اختطاف القراصنة هو أداة لحماية المجتمع وتحقيق العدالة.

ايضاً، هل نستطيع وصف الملتقي كلقاء أخوي أم سياسي، وفي كل اتجاه فهو وسيلة اممية لمحاولة تقريب المصالح المشتركة والغائبة والممنهجة لدعم جماعات فقدت الكثير من المصداقية ومواقع استراتيجية، فالبعض يصف الحدث كسيناريو داعم لتلك الجماعات، غير أن البدائل أصبحت عنيدة ان لم تكن مفقودة، فما هو المصير في حالة فشل الملتقي؟إن من الواجب أن نضع بعض النقاط  تحت مجهر التحليل والفحص، ومن أهمها؛ هل سيصبح التوافق الليبي الليبي  من خلال مظلة الأمم المتحدة ممثلاً للارادة الشعبية، وهل اصبح السجينين علي قلب واحد لدعم مسيرة انتقالية تتوجه لبناء دولة ذات سيادة؟ وهل سنضع القطار علي سكت واضحة المعالم للوصول الي أقرب محطة قادمة؟

لا نريد أن نكرر المكرر، ونستفيض بوصف الحالة الليبية التي طالما وصفناها ووصفها الآخرون، فالكل أعلم والكل يعاني والكل متضرر، ولكننا سنحاول ان نلقي الضوءعلي مجريات واحداث لها تأثيرها المباشر لنقل الحالة من الجمود الي الحركة وكان آخرها؛

لقاء أبو ظبي، بلو برنت،

شهدنا الكثير من النشاط والحيوية والتفاؤل بشأن تقارب متربص ومتشكك بعد لقاء ابوظبي، والذي أصفه بكونه حجرة أساسية لتأريخ انتقال الصراع من كونه عسكري وسياسي وهي مرحلة تحضيرية (كمرحلة أولي للإنتقال)، لصراع سياسي ينتهج مرحلة القرار وهي (المرحلة الثانية في مسيرة الانتقال).

ويجب أن نؤكد وفق ديناميات العلاقات البينية والدولية بأنالقيم والمبادئ لا تتجزأ الا فى عالم السياسة، فعدو الامس صديق اليوم، والعكس صحيح، فالتوافقات في معظمها أصبحت مرنة ومؤقتة، بالرغم أن واقعنا الليبى اخف واضعف واوهن فى نظر المجتمع الدولى مقارنة بتجارب عديدة مرت بها العديد من الدول وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد سقوط جدار برلين، وانتهاء الماركسية كنظام وتعطل الحرب الباردة، الا أن التجربة الليبية لم تعد تناسب الكثير منهم، وذلك لفقدان السيطرة! أو خسارة الخيار والرهان!

لقد أحرجت إرادة الليبيين المجتمع الدولى فى وضع الحلول المناسبة وتمكين الشخصيات الملائمة لإرادتهم، ووفق مصالحهم، فلم تجدى نفعا، بل أصبح الكيل يميل محليا واقليميا ودوليا لصالح التيار الوطني بعد دحر منظومات التطرف المصدرة.  

إن لقاء أبوظبى سلاح ذو حدين، فمن ناحية عملية هو خيار يرتضيه الشعب الليبى بكافة توجهاته، فهو يداعب المشاعر ويفتح الأبواب أمام خيارات غير عسكرية، بل بالأحري ينم عن عمل عسكرى ضد ما تبقى من إرهاب لصالح الأطراف المتنازعة كلها فى خطوة لتوحيد الأهداف وتحقيقها. ومن ناحية أخرى، فهو حفظ خيارات المجتمع الدولى لما تم إقراره بالصخيرات. فمن زاوية التحليل، لقاء (أبوظبي) يميل ايجاباً لصالح الخيارات الدولية وتحديداً فرنسا بعد تحرير الجنوب، وإيطاليا في ظل تفاهمات ثنائية محلية ودولية.

ولكننا لا زلنا نمشي في حقل الغام الملتقي المرتقب دون خارطة واضحة مما يوجب ويحتم طرح العديد من التساؤلات؛هل سيكون الملتقي هو بديل لكل السلطات التشريعية ام هو مكمل لها؟ وهل سيكون له اختصاصات مجلس الدولة ومجلس النواب أي يمثل "المؤتمر الشعبي العام او مجلس الشعب؟، وكم سيكون اعداد المرشحين للإنتقال الي مرحلة القرار؟ وهل سنعتبر هذا الإنتقال والقرار شرعي رغم عدم وجود رصيد تعديلي شرعي للإعلان الدستوري المؤقت؟ وما هو شكل المنتخبين او المعينين أو المكلفين في سلطانهم للأمة "تمثيلي ام تفويضي"؟ وهو ما يستوجب الدخول لتوضيح تناقضات وتباينات ملازمة لتطوير الديمقراطية ومأسستها؛

المفارقات الثلاث للديمقراطية في مواجهة الملتقي الجامع

يذهب الباحث لاري دايموند في تحليل تلك التناقضات الثلاث او التباينات من خلال تجربته لدراسة عدد كبير من دول العالم الثالث او دول "نحن" مقابل "هم"، وتتوصل نتائجه الي ان إختبار الديمقراطية يواجه (متناقضات ثلاثية)؛ أولها، التوتر بين الصراع والإجماع، فالديمقراطية او التحول اليها يستوجب المنافسة بطبيعة المنظومة، ومن دون الصراع علي السلطة والمنافسة لا يوجد نظام ديمقراطي، ومن هنا قد يُعّرِض الصراع السياسي الاستقرار بدلا من تحقيقه، كما يفرز مجتمعاً مولعاً بالتنافسات غير المحدودة حيث يصبح السلم الأهلي في خطر، وثانيها، التمثيل في مواجهة القدرة علي الحكم، حيث ترفض الديمقراطية تحديد وتركيز السلطة بيد القلة، في المقابل يري "هاملتون" بأن الحيوية يجب ان تكون ضمن مكونات المنظومة الديمقراطية لمنح حق التصرف وسرعة الحزم، ولذا، فإن متطلبات القدرة علي الحكم يجب ان تتمتع مكوناتها باستقلال ذاتي كاف لكي تتقدم عليها، وهو ما يقود للتناقض الثالث؛ بين الموافقة والفاعلية، او بمعني الحكم بموافقة المحكوم، حيث يري الباحثان شميتر و كارل "أن الديمقراطية السياسية الحديثة هي نظام الحكم الذي تقوم علي مساءلة المواطنين للمسؤولين علانية حول أفعالهم"، وذلك بشكل غير مباشر أي بشكل المأسسة التمثيلية، وليس تفويضاً ومنح صلاحيات مطلقة، او كما يري الخبيران الدنماركيان "يورغن إيليكيت" و "بال سفنينسون" بأن التطلع للحرية يكون في غياب الإكراه أو التقيد غير المبرر، ومنح المساواة لجميع المشاركين، وتطبيق العدالة بشكل غير متحيز ومنطقي وفق توازنات القضاء والتشريع لتمهيد صنع القرار، فكلما زاد تأثير المؤسسات التشريعية كلما كان النظام أكثر استقرارا واستمراراً.  

ولذا فإن تبني ميزات سطحية وقشرية للتحول والانتقال الي الديمقراطية، لا سيما دون مشاركة فعلية لطوائف المجتمع يعيد النظر في الحدود المبنية بين الديمقراطية والإستبدادية، او ما يطلق عليه أحياناً بـ"الإستبدادية التنافسية"، وهي ظاهرة يعرفها الباحثون "بالديمقراطية المزيفة" ويسميها  ربورت دال " بالديمقراطية الأوليغارية" وهي حكم الأقلية من خلال المنافسة الضيقة او ما يطلق عليه منافسة النخب، فلعب البولينغ علي إنفراد يعمل علي تدهور رأس المال الاجتماعي وإقصاء المشاركة المدنية.

التصميم الدستوري للمجتمعات المقسمة،

لقد خضعت كل التصميمات الدستورية المقولبة والمصممة لتغيير جذري وفق نظام القوي والكاسب بعد الحرب العالمية الثانية، دون جدوي البحث في البدائل، حيث يتفق معظم خبراء المجتمعات المنقسمة والتصميم الدستوري لها بشكل واسع علي أن الإنقسامات الاجتماعية المُعمقة تطرح مشكلة جوهرية أمام الديمقراطية وهو ما يشكل عبء حقيقي لتأسيس الدولة، وهو ما يعرف "بمشاركة السلطة واستقلالية المجموعات"، وقد يذهب الرأي الي تبني المفهوم التقليدي والنمطي لحجم المجالس التشريعية وفق العدد السكاني، وتحديد فترات انتخابية محددة بأطر دستورية تقوم وفق نظام الأغلبية، او تبني نظام فيدرالي للتكيف مع التنوع الإقليمي، وهو الإتجاه الأكثر تزايداً في العشرين الأخيرة، حيث إرتفع عدد الدول الفيدرالية بشكل كبير وهناك ارتقاب لمزيد من الدول كـ إيطاليا التي صوتت لصالح النظام الفيدرالي، ويجري النقاش حول الفيدرالية في كورسيكا والمملكة المتحدة. وهو ما سنأتي عليه تفصيلاً في حديث قادم.

الحلقات السبع  لـ اندرياس شيدلر، تحليل واستشراف ومقارنة

إن الظهور المزدوج للقواعد الديمقراطية والأساليب الأوتوقراطية تهدف الي استمرار من يتولون السلطة والحكم، وفي مقابل ذلك، فان الانتخابات والتشريعات تشكل تحديات ومعوقات الإنتقال السلس سواءً بشكل ديمقراطي او استبدادي.

 نضع مختصراً لحلقات سبع لتقريب المفهوم ومحاولة لقراءة واستشراف الحدث القائم تحت المظلة الأممية لملتقي (جامع) كعنوان، ووطني (كرمز)، وهي؛

إقصاء المنافسة واغتيال الخصوم، ملء السلطة العامة مع الإبقاء علي المراكز القيادية، منع الخيارات الأخرى للناخبين وحرمانهم من الإطلاع وتمحيص المخرجات، ومن ثم، السيطرة علي النتائج الانتخابية والحكومة التمثيلية، كما أن إغراء السلطة وسلطان المال عاملان أساسيان لتصبح الضمانات بشتي أنواعها دون جدوي، أيضاً ادخال التمييز والتحيز الإنتخابي بصورة مباشرة او غير مباشرة، وعدم السماح لظروف ملائمة  لممارسات حرة ونزيهة قبل إجراء عملية الإنتخاب بما في ذلك الإحتيال الإنتخابي، كما أن الممارسات والضغوط الخارجية لإبقاء المصالح تعيق الكثير من السيادة والتطور المجتمعي بكافة الأوجه، وآخر تلك الحلقات هو المعيار في عدم القدرة علي عكس النتائج او الخلاص منها.

ختاماً،

لكل مجتمع مظاهر وانعكاسات وتوازنات، وما يميزها هو القدرة في تحقيق نظام متجانس، فالمجتمع الأكثر تجانساً هو الاقدر علي اختيار المتلائمات، فالمواطن هو الأصل والاغلي في كل منظومات العالم  المعاصر وما دونه فهو من أجله ويخضع له، كما أن الديمقراطية ثقافة تخضع لقياسات وتُعّمق من خلال الممارسات المتواصلة والتكرار والعمومية والوضوح والمدة، ايضاً، احترام حقوق المواطن التزام من ضمن تلك المبادئ التي تنص عليها السلطة التأسيسية الأصلية، وما يجسده  نظرياً ويعمق مفهومه مصادر القانون وروافده لتٌكون المصب والمنبع، وتسهم في خلق توازن بين السياسة والقانون وبين الرغبة والحاجة، وبين التطلع والضرورة.

 وفي أفضل الأحوال، ان سلمنا جدلاً بنجاح مقامرة الأمم المتحدة في فرض ارادتها وتحصين قراراتها لجمع الفرقاء، فما سيتم في الملتقي الجامع هو شبه انتقال لديمقراطية مقترنة بصفات، بلحاظ ثلاث مخاطر عميقة، أولها، عدم وجود قواعد دستورية وتشريعية واضحة ما يوجب أن تمثله مراحل قادمة يرتضيها المحكوم ومن ثم الحاكم، علي أن تكون مرتبطة وموثقة ومقرونة بجداول زمنية دقيقة، مع الاستعداد التام غير المشروط علي انتقال السلطة سلمياً، وثانيها، مخاطرة التدخل الدولي من كونه مراقب لكونه تنفيذي قيادي، مما يضع الكثير من المصالح الوطنية قيد الحجر، وثالثها، استبعاد الخيارات الشعبية وعدم إشراك المنظومة المجتمعية بكل طوائفها مشاركة حقيقية سيعرقل تنفيذ القرارات القادمة ويؤيد الرفض الناعم لتأصيل مراحل أخري، وهو ما سيطيل عمليات الإنتقال والتوطيد والترسيخ.    

تقديري واحترامي