بقلم الأستـاذ: سمير عبد اللـــه (المحامي لدى التعقيب)

عندمـا باشرت مهــامي كسفير لتونس بلبنــان، كلّ اللبنــانيين سواء في الحكم أو المعـارضــة إلى أبسط مواطن لبنــاني كانوا يعلنون على المــلأ و في الجلسـات الخاصة انبهـارهم بما يعتبرونه أنموذجــا تونسيّا هو الأنجح على مستوى العــالم العربي في الوحدة الوطنيّة و في خيــاراته الأســاسية المبنيّة على قيم التسـامح و الانفتـاح و التقدّم .
أشقـاؤنا اللبنـانيون يدركون نجـاح ذلك الأنموذج التونسي بعد أن عـاشوا و لازالوا، للأسف الشديد، مرارة الانقسـام الطــائفي و المذهبي و السيـاسي و الذي تحوّل إلى جحيم حرب طـائفية استمرّت على امتداد 15 سنة، و هــا أن دعــاة الفتنة من الداخل و الخــارج، ينفخون في نيرانهـا من جديد.
لكن تلك الصـورة التي نجحت تونس في تسويقها دوليّـا منذ الاستقلال تشوّهت لتنقلب إلى صورة البلد الذي تعصف به ريــاح الكراهية و الحقد و الانتقــام و الإقصــاء.
و لا أعتقد أن الفئــات الاجتمــاعية التي انتفضت في 14 جــانفي 2011 من أجل الحريّة و الكرامـة الاجتمـاعية، كـانت تنتظر أو تتوقّع أن يقع الالتفـاف على تلك المطـالب المشروعــة و تشويهها و إجهاضها لزرع الأحقــاد و إهانة أجيـال من بنـاة الدولة و التشهير بهم و شيطنتهم.
لقـد كان بالإمكــان أن تكون تلك الانتفــاضة منعطفــا تاريخيا يصوّب المســار و يفتح آفــاقا جديدة لتقدّم الوطن بفتح مجـال الحريـات السياسية لكلّ أبنـائه بدون إقصـاء و مراجعة الخيــارات الاقتصـادية والاجتمــاعية في اتجـاه تنمية اكثر عدلا و توازنا ، لكن منطق التــاريخ علّمنا و أن أغلب الثورات و الانتفـاضات يقع الانقلاب عليها من طرف فئـات وجهـات انتهازية لتحويل مسارها و الانقضـاض على أهدافها.
وهو مــا حدث في بلادنا من دعوات صريحة من أعلى المنـابر قسّمت البلد إلى كفـار و مسلمين و إلى أزلام و ثوار و إلى وطنيين و عمـلاء، فانتشرت موجة من التخوين و الشيطنة و التجريم لكلّ ما يمتّ بحقبة تـاريخية كاملة انطلقت منذ استقلال تونس.
الآن، و بعد مرور ثلاث سنوات، بدأت الظروف الموضوعية تتّجه نحو النضج و هنــاك ملامح جديّة لعودة الوعي لدى المكوّنـات الرئيسية للطبقة السيـاسية و شرائح هـامة لدى الرأي العــام، بضرورة المرور لمصالحة وطنيّة شـاملة تطوي صفحة المــاضي و تكون منطلقـا لتونس جديدة متسـامحة و متضـامنة و موحّدة حول أهـداف و استحقـاقات المستقبل، و تلك الملامح يمكن اختزالها في عنــاصر هــامة :
1- انتكــاسة و تراجع دعـاة الإقصــاء الذين جعلوا من مصطلحــات "المحاسبـة" و "التطهير" أصلا تجاريا رابحا يحمي مواقعهم على الخـارطة السياسية و يضمن بالخصوص مصـالحهم السياسوية بأخذ نصيبهم من "الكعكـة".
و تتجسّد تلك الانتكـاسة بالخصوص في قبر مشروع قــانون الإقصــاء الذي سمّي باطلا بقـانون تحصين الثورة، و الذي اتّضح للجميع أنه كـان مشروعا لابتزاز الخصوم السيـاسيين لإقصــائهم فعلا من اللعبة السيـاسية و الاستحقاقات الانتخـابية القــادمة.
2- لقد حدث نوع من المقـايضة في استبدال مشروع ذلك القــانون بما سمّي بقـانون العدالة الانتقـالية الذي صادق عليه المجلس التأسيسي مؤخرا.
و ذلك القــانون الذي أثــار ضجّة واسعة و أسـال كثيرا من الحبر، لا نعتقد أنه سيرى النور على مستوى التطبيق لأنه يعني، و بكلّ بســاطة محاكمة تـاريخ تونس منذ الاستقلال و إلى تـاريخ 14 جـانفي 2011، وهو ما لم يقم به أي بلد في التـاريخ المعـاصر قـام بتجربة مماثلـة للعدالة الانتقــالية.
و إن كتب لذلك القــانون أن يرى التطبيق الفعلي، فإنه ينذر جدّيـا بإشعــال نيران الفتنة و النبش في جروح المــاضي البعيد ابتداء بما اصطلح عليه بـ""الفتنة اليوسفيّة" و انتهــاء بالصراع بين السلطة و الإسلاميين وصولا إلى الأحداث التي أطــاحت بالنظـام.
و الجميع يخشى أن تتحوّل تلك العدالة الانتقـالية إلى عدالة انتقــاميّة و انتقـائية لتصفية حسابات مع التــاريخ و الغايات لم تعد خفيّة بالنسبة لمن يرفض الترحّم و الاعتراف بالزعيم الراحل، مؤسّس الدولة الحديثـة، الحبيب بورقيبـة و لمن يرى أن المكـاسب التاريخيّة التي تحقّقت على امتداد 60 سنـة من التقدّم والحداثة، غرّبت المجتمع و شوّهت هويته العربية الإسلاميــة، بل تكــاد تونس عـاشت منذ استقلالهـا نوعا من "الجـاهلية" ولونا من "الكفـر" في أعينهم.
إن أنصــار هـذا القـانون وقعوا في خطـأ فـادح لأن النظـام السيـاسي الذي حكم تونس في عهدي بورقيبـة و بن علي لا يمكن مقارنته ببلدان أخرى شهدت تجـارب للعدالة الانتقـالية، فتونس لم تشهد حكم الميز العنصري، و ما تسبّب فيه من جرائم عرقية ضـدّ السود في إفريقيــا الجنوبية، و النظـام السـابق لا يمكن مقارنته بالجرائم المرتكبة في عهـد ملك المغرب الراحل الحسن الثــاني، و لا يمكن مقارنته بالضرورة بالأنظمـة الفاشيّة التي كــانت سائدة باسبــانيا في عهد فرانكو و البرتغـال في عهد سالازار و تشيلي في عهد بينوشي.
الأكيد أن نقطة ضعف النظـام السيـاسي الذي حكم تونس منذ الاستقلال تكمن في الاستبداد و التسلّط تجسّدا بالخصوص في محاكمات جائرة لنشـاطين مارسوا حقّهم في التعبير و حريّة التتنظّم كما برزت في مصـادرة الحريّـات و انتهاكات لحقوق الإنســان، وهو جـانب مظلم بالتأكيد لكن لا يمكن أن يتحوّل إلى الشجرة التي تغطّي الغـابة، بالنظر إلى الرصيـد الهائل من المكاسب التي تحقّقت في جميع مجالات الحيـاة من تعليم و صحّة وتحرير المجتمع من مكبّلات التخلّف و بنية أســاسية وهي مكـاسب بوّأت تونس المراتب المتقدّمة عالميا في تلك المجالات.
3- النتيجة التي نستخلصهـا و التي لا مفرّ منها أن العدالة تبقى العدالة و توصيفها بـ"الانتقــالية"، هو من بـاب التزيّد اللفظي، فالقضــاء المستقل العـادل هو الوحيد في دولة تحترم نفسها و تنبني على سيــادة القــانون، المؤهّل لقول كلمته الفـاصلة في كلّ التجاوزات الحاصلة عن طريق المحاسبـة الفرديّة لكلّ من أجرم في حق الشعب و الوطن، فالجريمـة شخصية و العقوبة شخصيّة و تلك مبــادئ أسـاسية في القـانون الدولي، وهي مبــادئ سبقتها الشريعـة السمـاوية بقوله تعــالى "لا تزر وازرة وزر أخرى".
و هنــا لا بدّ من التنويه بالتطوّر الإيجــابي لزعيم حركة النهضـة الشيخ راشد الغنوشي الذي لعب دورا أســاسيا داخل حركته و على مستوى كتلته النيـابيّة في التصدّي للاستئصاليين و الدفع نحو المحاسبة الفرديّة التي تقطع مع خطاب المعاقبـة الجماعيّة.
4- و لعلّ أبرز مؤشّر صحّي يدعم عنصر الثقة في مستقبل بلادنا هي الانتفــاضة الحقيقيّة التي بدأت إرهــاصاتها تتّضح داخل قضـائنا الذي يسير بثقة في اتجــاه استرجـاع إرادته الحرّة المستقلّة في مواجهة قضــاء التعليمـات و قضــاء الضغوط و المزايدات الثورجيّة.
و الأحكــام الصادرة مؤخّرا في قضــايا "رموز" النظـام السابق التي برّأت جلّهم و أخلّت سبيلهم، بعد أن اتّضحت حقيقة الطــابع الكيدي لتلك القضــايا تحت غطـاء "قضايا فسـاد"، تعدّ مؤشّرا إيجابيا يؤسّس فعلا لقضــاء مستقلّ عن التجــاذبات السياسية.
و الآن و بعد أن نجحت تونس في سنّ دستور توافقي مثّل تحوّلا تاريخيّـا في مسـارها الدستوري، رغم نواقص ذلك الدستور، فإنه يبقى من حق الجميع في ممــارسة حقّه الدستوري في التقـاضي وفق محاكمة عــادلة تتوفّر على المعايير الدولية لتلك المحاكمة.
الجميع ينتظر مـانديلا تونس، و الرجــال العظـام بذلك الحجم لا يتكرّرون في أيّ زمن و أي ربوع و يبقى الشعب و نخبه الفكريّـة و السياسيّــة في مستوى حجم و طموحــات أولئك الرّجــال .
و بناءا على كل ما تقدم فإنّ مؤتمرا وطنيّـا للمصالحة و بدون أيّ شروط مسبّقة يجمع تونس بجميع أطيــافها السياسيّة و الاجتماعية هو الحل الوحيد الذي يبقى الأمـل والرّهــان الأســاسي لانطلاقــة جديدة تحفظ لتونس المكانة التي تبوّأتها عبر التـــاريخ كاستثنــاء في العالمين العربي و الإســلامي في الوحدة حول قيم التسـامح و التضــامن.

* الاخبارية التونسية