برهان هلّاك

شدّد المتحدّث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في تصريح للصحافة على محورية احترام وتكريس مبدأ الفصل بين السلط في تونس، وعلى أهمية أن يكون القانون الانتخابي شاملا وشفافا حتّى يفسح المجال أمام مشاركة واسعة النطاق في الانتخابات التشريعية المعتزم إجراؤها نهاية 2022. كما اعتبر برايس أن ضعف نسب المشاركة في التصويت على مشروع الدستور الجديد في 25 جويلية الماضي دليل على أن "طيفا واسعا من المجتمع المدني والأحزاب السياسية في تونس قد أعرب عن مخاوف عميقة بشأن الاستفتاء".

نفس هذه الصياغة تقريبا كانت قد تم نقلها إلى بيان السفارة الأمريكية الذي صدر يوم الاربعاء 27 جويلية، والذي جاء فيه ملاحظة الخارجية الأمريكية لـ " مخاوف واسعة النطاق بين العديد من التونسيين بشأن الافتقار إلى عملية شاملة وشفافة ونطاق محدود للنقاش العام الحقيقي أثناء صياغة الدستور الجديد". بالإضافة إلى الإشارة إلى "مخاوف من أن الدستور الجديد يتضمن ضوابط وتوازنات ضعيفة يمكن أن تعرض حقوق الإنسان والحريات الأساسية للخطر".

ويجدر التذكير في هذا الصدد بإشارة وزير الخارجية الأمريكية، أنطوني بلينكن، إلى ما " شهدته تونس على مدار العام الماضي من تراجع مفزع في المعايير الديمقراطية" بحسب عبارته، وباعتبار نظره إلى تعليق العمل بدستور 2014 وتعزيز السلطة التنفيذية وإضعاف المؤسسات المستقلة منذ 25 جويلية 2021 وما أثارته حسب وصفه من " تساؤلات عميقة داخل تونس وخارجها حول مسار (تونس) الديمقراطي". في هذا السياق، قام وزير الشؤون الخارجية عثمان الجرندي يوم الجمعة 29 جويلية 2022 بدعوة القائمة بالأعمال بالنيابة بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بتونس، ناتاشا فرانشيسكي. خلال ذلك اللقاء، أبلغ عثمان الجرندي القائمة بالأعمال استغراب تونس الشديد من هذه التصريحات والبيانات التي لا تعكس إطلاقا حقيقة الوضع في تونس أو الجهود المبذولة منذ 25 جويلية 2021 لإعادة هيكلة وتأهيل الحياة السياسية على أسس صحيحة ومتينة لإصلاح تراكمات العشرية السابقة في وقت قياسي وبناء نظام ديمقراطي حقيقي قوامه العدل والمساواة وحقوق الإنسان التي تضمنها الدستور الجديد بما يستجيب لتطلعات الشعب التونسي، وفق بلاغ الخارجية التونسية.

لا يفوت المتابع للتطورات الديبلوماسية لهذا الموضوع ملاحظة تصعيد لفظي وإجرائي متجدد بشأن العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن الرئاسة التونسية بالأساس؛ فقد أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال لقاء جمعه بوزير الشؤون الخارجية عثمان الجرندي في 29 جويلية 2022 أن تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة، وأن "سيادتنا واستقلالنا فوق كل اعتبار". كما ذكّر بأن المبدأ الويلسوني (نسبة للرئيس الأمريكي ويلسون) المتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول هو من بين أهم المبادئ التي يقوم عليها القانون الدّولي

وفي الجانب المقابل، شدد وزير الخارجية الأمريكي على أن الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتونس تتخذ اقوى وامتن صورها عندما يكون هناك التزام مشترك بالديمقراطية وحقوق الإنسان، مذكرا بأن بلاده استخدمت وستظل جميع الأدوات المتاحة لدعم الشعب التونسي في تشكيله لحكومة ديمقراطية تخضع للمساءلة وتبقي متسعا للنقاش الحر والمعارضة الحرة، وتحمي الحقوق والحريات وتحترم استقلال القضاء وسيادة القانون.

وإن في إشارة أنطوني بلينكن إلى استعمال الولايات المتحدة لكامل نفوذها وتوظيفه لدعم تونس تذكير مبطّن بالكفالة التي قدمتها الولايات المتحدة لتونس عند توجهها للاقتراض من صندوق النقد الدولي العام الفارط. ولكن من باب أحرى أن نمعن التفكير في خبايا هذا "التذكير"، وعما إذا كان دلالة على التلويح بقطع هذا الدعم في حال استمر "تعنّت" رئاسة الجمهورية التي أشار بيان الخارجية الأمريكية إلى أنها "اكتسبت نفوذا أعظم من خلال الدستور الجديد"، نفوذ مكتسب حديثا كان قد وصفه بعض المتابعين الأمريكيين بالانتقال إلى "نظام مفرط في رئاسيته".

وإذا ما نظرنا عن كثب إلى خطاب مثير للجدل ألقاه السفير الأمريكي الجديد لدى تونس (غير المثبت رسميا بعدُ)، جوي هود، أمام الكونغرس والذي أكّد فيه أنه “سيستخدم جميع أدوات النفوذ الأمريكي للدعوة إلى العودة إلى الحكم الديمقراطي وتخفيف معاناة التونسيين من حرب بوتين المدمرة، وسوء الإدارة الاقتصادية، والاضطرابات السياسية”، فإن هذا التهديد غير المعلن يصبح أكثر واقعية في إطار الضغط على قصر قرطاج نحو تخل محتمل عن الصلاحيات المطلقة التي اكتسبتها رئاسة الجمهورية، بوصفها ممتلكة لصلاحيات السلطة التنفيذية بشكل متفرد. ولربّما يكون هذا الضغط في إطار "الحرص" على تحديد ملامح القانون الانتخابي المزمع سنّه هذه الفترة، وذلك حرصا على صون بعض المصالح الأمريكية المحتملة والمرتبطة ببعض القوى السياسية والحزبية في تونس؛ فرغم الدعوات الكثيرة والملحّة من جهات داخلية وخارجية تدعو سعيّد إلى فتح باب الحوار ومجال التشارك في وضع (أو تعديل) النظام الانتخابي الجديد الذي ستنتظم به الانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر المقبل، فإنّ الرئيس التونسي يبدو وكأنه ماض وحيداً ومنفرداً لصياغة هذا النظام الانتخابي الذي سيضع بمقتضاه نفسه ومسانديه في مواجهة مع معارضيه الذين تتسع دوائرهم من يوم إلى آخر حسب ما يقوله الصحفي التونسي محمد أحمد القابسي. وهو ما يدفع بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى فاعلين متنفذين آخرين في العالم، إلى التساؤل عن الصور المحتملة للمشهد السياسي الذي من الممكن أن تعرفه تونس في حال توجه سعيّد إلى العزل السياسي والقطع مع الأحزاب وإقصاء شخصياتها الوازنة عن اللعبة السياسية.

ويقول الدبلوماسي الأمريكي السابق، ويليام لورانس، أن الولايات المتحدة قد تكون في طور مراجعة جميع مساهماتها المالية، وهي التي " كانت بطيئة في التدخل بحزم أكبر" في ما يلي 25 جويلية 2021. ولعل هذا الرأي مستند إلى ما يلمح إليه خطاب جوي هود المذكور سابقا، والذي أشار إلى "استعمال جميع الوسائل والنفوذ لإعادة الديمقراطية المفقودة للشعب التونسي". وفي مقال وارد في "لو كوريي دو لاتلاس Le Courrier de L’Atlas"، يستشهد نائب رئيس المعهد العربي لرؤساء المؤسسات، وليد بلحاج عمر، بثقل الولايات المتحدة في صندوق النقد الدولي ودورها الذي يصفه البعض بشرطي العالم، و"الذي لم يأت من فراغ"؛ فبالإضافة إلى ثقل الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، يقول بلحاج عمر أنه "يجب أن ندرك أن الولايات المتحدة هي المساهم الرئيسي في عمل المنظمات الدولية. وهي أكبر مساهم في ميزانية الأمم المتحدة بنسبة 22٪ من الميزانية العادية و 28٪ من الميزانية المرصودة لعمليات حفظ السلام". كما يشير إلى أنها "تتمتع بحق التصويت بنسبة 15.5٪ في مجلس إدارة البنك الدولي، كما أن مساهمتها في موارد صندوق النقد الدولي المتأتية من الدول الأعضاء تبلغ 17.5٪". وإن في إيراد كل هذه المعطيات إشارة إلى مخاطر "معاداة" الولايات المتحدة على الوضع الاقتصادي التونسي الذي يحتاج تعبئة موارد مالية دولية لن يكون قادرا على النفاذ إليها بدون ضمانات ودعم أمريكي.

في المحصلة، تظل أنظار الولايات المتحدة متجهة إلى الخطوات القادمة للرئاسة التونسية في ما يتعلق بقانون الانتخابات، من ضمن مواضيع أخرى. فإذا ما تم إقرار ما يتداول من "عزل سياسي"، فإن الرئيس التونسي قيس سعيّد سيكون قد سلك، ولو بشكل غير مباشر، طريقا وعرة مزدحمة بمواجهات مع قوى دولية لا يملك رفاهية أن "يعاديها" في ظل الوضع المالي والاقتصادي الحالي للبلاد.