في أحد كتاباتي عن المحاصصة و وصفي لها دائما بالمقيتة التي لم تطبق تاريخيا إلا في المجتمعات المتخلفة المتنازعة المتحاربة و كحل مؤقت للخروج من أزمة عرقية أو مذهبية أو قبلية أو حرب أهلية، لتذهب بنا للدخول في أتون التقسيم الفعلي و خير مثال على ذلك هو السودان و انقسامه و فلسطين التي ذابت قضيتها بين سجال الضفة الغربية و قطاع غزة. 

فقد عقب أحد المتابعين بالقول لماذا تعتبر المحاصصة أمراً معيباً مسيئاً في الوقت الذي تطبق في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها؟

فأقول له بأن لديه لبس في الفهم والرؤيا، فإن المحاصصة التي يدعي أنها تطبق في أمريكا هي أمر مختلف تماماً في جوهره وهدفه عن ما ذهبنا إليه في مجتمعاتنا المتنازعة المتناحرة. فالمحاصصة إذا افترضنا أن هذا  النوع  منها لا يطبق إلا في أمرين منصفين  في أمريكا، لا أعتقد بأن ثمة إنسان واقعي يرفضهما وهما:

● توزيع المقاعد البرلمانية وفقا لنسب عدد السكان على أن يتم كل سنوات معينة إجراء تعداد سكاني و الذي على  ضوئه  يتم إعادة النظر في توزيع المقاعد البرلمانية. 

● توزيع قيمة المساعدات الاتحادية أو الفيدرالية على كل ولاية وفقاً لعدد السكان و ليس لكمية الثروات الموجودة في هذا الإقليم أو ذاك. 

و من هذا المنطلق نفهم بأن العملية برمتها وببساطه هي عملية تنظيمية صرفة لا علاقة لها مطلقا بالمحاصصة الجهوية السياسية التي بدأنا نمارسها. ففي أمريكا لا يوجد شرط  محدد يفرض أن يكون وزير الخارجية من ولاية معينة أو مذهب معين أو عرق معين أو قبيلة معينة وهذا الرئيس الأمريكي جو بايدن كاثوليكي المذهب و قبله بعقود الرئيس جون كيندي  يحكم بلداً غالبيته من البروتستانت المسيحيين و الأمر عادي جداً لدى الأمريكيين ولم يشن عليه أحد هجوما يعيبه ككاثوليكي لكنه  سيواجه حتماً بمنتهى الشدة والنقد إن فشلت سياساته في تحقيق التطور الاقتصادي المطلوب أو إذا لم يحسن من أحوال الناس المعيشية. و بذلك فإن التقسيم الجهوي أو القبلي كما يحدث لدينا هنا وطبقناه في من تولى المناصب في السلطة الانتقالية الجديدة أمر  مغاير تماماً و بعيد كل البعد عن عقلية الأمريكي وتفكيره وتطبيقه أصلاً.

فالحقيقة التي يجب أن تكتب وتقال للتاريخ هنا و يتم الإشارة إليها أن أمريكا التي ترفض المحاصصة في نظامها السياسي الداخلي و آليات الحكم باعتبارها من رواسب التخلف ما قبل الحداثة هي أمريكا ذاتها التي تحرص على تطبيقها في سياستها الخارجية و التاريخ المعاصر و يؤكد ذلك عمليا هو الدور الإجرامي والكريه  "لبول بريمر"  الحاكم   العسكري الأمريكي للعراق إثر إسقاط نظام صدام حسين في 2003  في غرس و تطبيق  المحاصصة المذهبية والعرقية هناك بتقسيمه للعراق إلى ثلاث فئات مذهبية وعرقية

( الشيعة والسنة والأكراد) والذي لا يزال العراق الشقيق يعاني من مصائبه و تداعياته الخطيرة على تماسك نسيجه الاجتماعي إلى اليوم وحتى لحظته. 

كما أن من غرائب الصدف أو هكذا أظن حتى لا يتهمني أحد بالسذاجة أو قصر النظر أن من غرس وطبق المحاصصة في ليبيا وفقاً لاتفاق ملتقى حوار جنيف و أفرز السلطة الجديدة  على هذا النحو من التقسيم الاقليمي ثلاثي الأضلاع هي   المبعوثة الأممية 

(السيدة الأمريكية ستيفاني ويليامز) ويعلم الله وحده والراسخون في العلم ما هي الآثار السلبية المدمرة التي ستترتب على تطبيق نظام كهذا على البنية الاجتماعية والسياسية الليبية على المدى الطويل.  وآمل مخلصاً ألا يحل بنا ما حل بإخواننا العراقيين الذين أصبحوا صيداً سهلاً للتفتت و التنازع المذهبي والعرقي الذي لم يساعدهم حتى تاريخه ولن يساعدهم في مسعاهم لإقامة دولتهم المستقرة والآمنة ذات السيادة المطلقة على أرضها وقرارها.

هذه دروس وعبر من الواقع المعاش لدول طبقت  نظام المحاصصة فلم تَرى استقراراً و أمناً على الإطلاق، و لا أنسى الوضع  اللبناني المهترئ بعد مأساة العراق مثال لا تخطئه عين كل مراقب وطني شريف غيور.

حيث لم يعد لبنان بعد عقود من تطبيقه (لاتفاق الطائف) الطائفي إلا كمن أخذ جرعات كبيرة  من دواء الكرتوزون في غير موضعه قد أراحته حيناً من الدهر، لكنها كانت سبباً  كارثياً   في ما حل به من أسقام وعلل ليس من السهل الشفاء منها  بعدها!!!

إذا فإن المحاصصة السياسية ما هو إلا إعداد و تجهيز لخريطة الشرق الأوسط الجديد الذي بني على أساس تقسيم المقسم و تجزئة المجزئ، مع صناعة صراعات و حروب أهلية مبنية على أسس طائفية و عرقية و قبلية و جهوية. 

مع كل سالف الذكر هل ستذهب ليبيا لمرحلة  صنع القرار و إعادة الإعمار!!) أعتقد بأن فرضية صنع القرار الوطني السيادي و إعادة الإعمار، هما أمران مهمان.

 فماذا أعددنا لهما كجانب ليبي من أوراق و تقارير و ملفات عن آخر تطورات التعاون الثنائي والمسائل العالقة وكيفية تسويتها؟!

وما هي المسائل التي يجب على الجانب الليبي  الحرص على طرحها والتمسك بها خاصة تلك التي يعانى  منها  مواطنونا مع الدول الأخرى والتي يجب  فيما  أرى أن تتصدر جدول المباحثات؟!  

فلا يعقل أن تطلب دولة  ما و تسعى آلى تعزيز تعاونها الثنائي مع الدولة الليبية ومواطنونا على سبيل  المثال يعانون الأمرين في  زياراتهم لها أو يعاملون معاملة سيئةً في مطاراتها دونا عن مواطني الدول الأخرى، أو دولة تحتجز مواطنا ليبيا لدوافع سياسية انتقامية لم يكن لهذا أو ذاك المواطن شأن بها.

علينا أن ندرك بأن العلاقات السليمة والصحية   هي تلك التي تبنى على أسس الندية والمصالح المشتركة. فلن يدفعنا ضغط أو ابتزاز دولة ما مادام جبهتنا الداخلية قوية و إرادة العمل وإعلاء شأن ليبيا ومواطنيها هو رائدنا وهدفنا المطلق المبني على أسس سليمة لنظام سياسي معياره الكفاءة الوطنية والوظيفية وليس المحاصصة السياسية كما هو الآن، من التمسك و دون تراجع أو تخاذل بإدراج قضايا كهذه تمس مباشرة المواطن والوطن  على رأس جداول أعمالنا مع الدول الاخرى. وبغير هذا فإنه من السخف والسفه القول بأننا نبني علاقات متوازنة مع الدول الأخرى خاصة دول الجوار الجغرافي والعربي والإقليمي التي تجمعنا بها قضايا عدة ليس أقلها أهمية القضية والجانب الأمني والإنساني فيها.

فالجهات المعنية الليبية وعلى رأسها وزارة الخارجية مطالبة اليوم وبشكل سريع وحاسم تحديث ملفاتها التعاونية وإعدادها إعداداً جيدا  وتضمينها بالتعاون مع الوزارات والمؤسسات الأخرى، يكون أساسها ماذا تريد الدولة الليبية؟ وما هي احتياجاتها ؟ استعدادا لزيارات مقبلة  ومفاوضات متعددة ستكون المسائل الأمنية و على رأسها المواطنون الليبيون المسجون لدى تلك الدولة مهما كانت قضيته أو شخصيته الاعتبارية، المهم أن يكون حامل للجنسية الليبية، وهذا شرط يكفل له حق دولته في الدفاع عنه ، كما لا ننسى المسائل المالية والتعاونية والاقتصادية والتجارية من ضمن بنودها الأساسية.

أما أن نستمر بهذا الضعف والتشرذم  والتيه عما ماذا نريد في أي مفاوضات مقبلة أمام نظراء يدركون جيداً ماذا يريدون وماذا يستهدفون من زياراتهم إلى ليبيا والمدى الذي يريدون التوصل إليه في علاقاتهم التعاونية معنا وهناك من يتحدث في هذا الوقت المبكر وملفاتنا غير جاهزة عن ملف استثماري بين ليبيا و دول أخرى،  فهذا أمر لا يليق بنا  ويجب أن يتوقف تماماً و كفانا من الإذلال الذي عشناه في السنوات العشرة العجاف  الأخيرة في علاقاتنا الدولية في ظل إدارة داخلية و خارجية فاشلة إن لم نقل الأفشل على الإطلاق، حيث ليس لدينا رؤية أو خارطة طريق للتحرك  في عالم متشابك المصالح والعلاقات حتى الآن مع زيادة حدة نظرية تقاسم الكعكة داخليا و خارجيا.

فإذا كانت الظروف السابقة قد ساعدت وساهمت بشكل كبير فيما وصلنا إليه من سوء حال و وضع مزري يبعث على الأسى الشديد  على كافة الصعد فإن التطورات السياسية الإيجابية التي أفرزت رئاسة وحكومة جديدة و إن كانت لا زالت تشوبها المحاصصة السياسية، والتي كنا أسلفنا ذكرها، بأنها جزء من مشروع التقسيم الذي يستهدف ليبيا و المنطقة العربية بالكامل.  يجب ألا تسمح بهذا وعليها أن تستعد بتجهيز تقاريرها وإعداد مفاوضيها وعناصرها الكفؤة خارج نطاق اختيارات المحاصصة المقيتة للمرحلة القادمة المفصلية و التي بدأت فعلاً، والتي تبدأ بمجرد تسليم السلطة لحكومة و قيادة وطنية ليبية منتخبه من الشعب الليبي دونما إقصاء لطرف على حساب الطرف الآخر و التي بدورها يجب أن تعمل على تجيير كل الظروف الإقليمية والدولية لإعادة البناء  دون أن تنسى أو تتغافل لحظة أمام حقيقة قائمة أن أمامنا خيارات عديدة للحراك والبحث عن شركاء في التنمية وإعادة الإعمار و كل قابل للشراء مهما علا ثمنه و لسنا بهذا محصورين في جهة محددة، وكل ما هو مطلوب الإرادة الحقيقية  للبناء و وضع دائما مصلحة وخير البلاد فوق أي إعتبار .

فلنتذكر دائما ونضع نصب أعيننا بأننا لسنا مجبرين على الانصياع لأي أجندة تعاونية من أي دولة إذا كان يصاحبها ابتزاز أو ضغط ما.

كما أنن لسنا مجبرين على اتخاذ قرار في أي مجال وفي أي تعاون طالما أن ملفاتنا و تقاريرنا غير جاهزة على النحو المطلوب، و كذلك لسنا مجبرين على أن نفتح باب زيارات كهذه ومهما كانت الأسباب قبل أن ننتهي من إداد وتهيئة البيت الداخلي وتحددت رؤانا وبشكل علمي حول ماذا نريد ومن الجهة الأقوى و الأنفع لنا و الأكثر حداثة واستجابة لاحتياجاتنا ومتطلباتنا الفعلية.

كنا أنه يجب ألا ننسى بأننا كنا و سنكون دولة ذَات سيادة حريصة على احترام قرارها في كافة المجالات بما فيها قرارها الحر مع من ستتعاون وتتعامل بعيدا عن تأثير أو سياسات الابتزاز و الوصاية التي قد تقوم بها أي دولة!!

وأخيراً :

للتاريخ الحذر ثم الحذر من 

الالتزامات المتسرعة غير 

المدروسة في علاقاتنا الثنائية

يجب ألا ننسج قيدنا بأيدينا.


الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة