عندما حل المجلس الرئاسي على ساحة الوطن رحب معظم الليبيين بالقادم الغريب، رغم أنه كان غريباً في كل شئ. غريب في شرعيته التي لم يستمدها من الليبيين، وغريب في تشكيلته التي حولته إلى نادي صغير للجدل والخصام، فلا يمكن أن يكون هناك مجلس قيادي في دولة صغيرة يتكون من تسعة أشخاص، وأيضا غريب في تركيبته التي اعتمدت أساسا على معايير جهوية قبلية ، قبل أي معايير أخرى. 

رغم هذا القصور القاتل رحب الليبيون به لأنهم لا يملكون خيارا آخر، فقد أهلكت حرب فجر ليبيا الأخضر واليابس، ووطنت حكومة مصطنعة كانت خليطاّ غير متجانس من كل ألوان المغامرين..!

حل المجلس الرئاسي في مارس 2016 في قاعدة أبي ستة، وكان الليبيون على شوق وترقب للقادم الجديد. واستغلالا لهذا الترحيب الصامت، شرع السيد رئيس المجلس في حملة علاقات عامة لترطيب أجواء قبول القادم الغريب، فخرج يعانق الليبييين كباراً وصغاراً في ميدان الشهداء وحواري المدينة القديمة، ويتنقل بين مساجد طرابلس العتيقة محيياً ومصافحاً ومعانقاً، وكان يعرف أن مثل هذه الخطوة لها وقتها المحدد ولا يمكن أن تستمر طويلا، فتوقف عنها من تلقاء نفسه.

وسط صخب محتد وجدل عقيم، أنتقل الرئاسي إلى مقر مجلس الوزراء بطريق السكة، وشكل وزارته وفق الطريقة الليبية المعتمدة منذ عصور بعيدة وهي المحاصصة القبلية وأصبح في مدينة طرابلس- على الأقل- حكومة أمر واقع تؤيدها حشود من الجماهير الصامتة في انتظار أن يتغير المشهد إلى الأفضل. وإلتزمت الجماهير مجبرة بفضيلة الصمت والصبر والتحمل، عسى أن يتغير واقعها فعلا إلى الأفضل.

شرع المجلس الرئاسي في نشاط محموم فحواه الاجتماعات المتواصلة والمتنوعة مع مختلف سفراء الدول الأجنبية، المهمة وغير المهمة؛ من الاجتماع مع سفراء دول مثل أمريكيا وبريطانيا إلى سفراء دول مثل المجر والسنغال وتشاد. إضافة إلى السفر المتواصل لحضور مؤتمرات تهم ليبيا، وأخرى لا تهمها، مؤتمرات القمة العربي والافريقي، ومؤتمرات اقتصادية أوروبية، وأخرى تتعلق بالسياسة الدولية في مواضيع المناخ والبيئة، وكأن ليبيا قد حلت كل مشاكلها ولم يعد لها من مشكلة إلا مشكلة البيئة. هذا النشاط السفري المحموم يمكن أن يكون مقبولا لو صاحبه، حتى بنسبة 10 إلى 1، أي انجاز في ساحة الوطن.

حتى هذه الساعة لا يستطيع المجلس الرئاسي أن يدعي أنه ساهم ولو بنسبة واحد بالمئة في حل أي مشكلة حياتية تواجه الليبيين، وهو بهذا وبلا مبالغة يسجل الرقم القياسي في الفشل الذريع الذي لم تقع فيه أي حكومة ليبية، لا بعد فبراير ولا قبلها، منذ أن استقلت ليبيا  وصار لها كيان ودولة.

يستطيع أبسط مواطن ليبي أن يرفع صوته متحدياً المجلس الرئاسي المؤقر وحكومته العتيدة، بأن يذكر له مشكلة واحدة ساهم في إيجاد حل لها أو حقق فيها انجازاً مهما كان صغيراً.

سلسلة طويلة من المشاكل والأزمات وقف أمامها المجلس الرئاسي موقف الحائر المتفرج، حتى أن بعضها تحول إلى معضلات مزمنة، رغم أن عذابات المواطن اليومية وشقاءة الذي فاق كل الحدود كان يستلزم البحث عن الحلول جادة بأي وسيلة، أو إعلان العجز التام ومغادرة المشهد السياسي الليبي بهدوء. 

لا يمكن لعاقل أن يصدق أن مشكلة توفير اسطوانات الغاز التي باتت تذل المواطن وتأكل   من وقته وعمره وصحته الشئ الكثير، في دولة تحرق الغاز في الهواء الطلق وتصدر منه ما يكفي ايطاليا، غير قابلة للحل. مثل هذه المشكلة لا يتطلب حلها أكثر من استيراد مليون اسطوانة غاز بمبلغ لا يزيد عن عشرين مليون دولار، وتصبح اسطوانات الغاز متوفرة في كل ناصية شارع وركن زقاق. نفقات سفر أعضاء المجلس الرئاسي السنوية كانت كفيلة باستيراد المليون اسطوانة، فأين المشكلة..؟

العجز المزمن في الكهرباء الذي أصبح البعض يعتقد أنه قدر من السماء لا يتطلب ايجاد الحل له أكثر من بناء أربع وحدات توليد اضافية تلحق بمحطة غرب طرابلس، بقدرة توليد مقدارها 250 ميغازات لكل وحدة، لا تكلف هذه الوحدات الأربع أكثر من 500 مليون دولار في أسوأ الاحوال، وقابلة للتنفيذ في غضون ستة أشهر، وكحد أقصى سنة.

مشكلة طوابير السيولة والنظام المصرفي المتخلف قابلة للحل بطرق متنوعة، ولا تحتاج إلى أكثر من استدعاء المتخصصين من الداخل أو الخارج لدراستها، ووضع الحلول المناسبة لها، وتنفيذ هذه الحلول بدقة وأمانة. ولعله من المفيد أن نشير إلى أن تبنّ وزارة المالية بالتعاون مع المصرف المركزي اصدار صكوك مدفوعة الرصيد مشابه للصكوك السياحية يؤفر على المواطن الازدحام على الصكوك المصدقة، ويخفف على المواطن عذابات الطوابير.

عشرات المشاكل الصغيرة والكبيرة يمكن إيجاد حلول لها بكل سهولة لو توفرت النية الصادقة عند السادة أعضاء المجلس الرئاسي. لكن الذي يظهر لكل الناس أن السادة الأعضاء ليسوا في وارد البحث عن حل لأي مشكلة ولا تعنيهم عذابات المواطن. لماذا..؟ 

لأنهم لا يقفون في طوابير المصارف، وهم غير معنيين بتوفير اسطوانات الغاز لبيوتهم فهناك من يوفرها لهم دون جهد، وهم غير معنيين بطوابير الوقود لأن سياراتهم ووقودها وحتى سائقيها من الدولة، وطبعا لا يشعرون بغلاء الاسعار يلسع جيوبهم لأن مرتباتهم من الحجم بحيث لا يؤثر فيها الغلاء. هم أيضا غير معنيين بتجمع القمامة في الشوارع والطرقات، لأنها غير موجودة أمام بيوتهم ومكاتبهم.

بصراحة شديدة، بشر تبلد فيهم الاحساس بعذابات مواطنيهم إلى درجة أن لا يحركوا ساكناً، أو أنهم لا يستطيعون تحريك ساكناً، لا يعد لبقائهم في مناصبهم مبرر، وعليهم المغادرة باسرع ما يمكن حفاظاً على ماء وجوههم، قبل أن يجبروا على ذلك جبراً.

كاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة