أصبحت الإختلافات بكافة مستوياتها الأكثر إنتشاراً، وأصبحت الحروب بين الشعوب ذاتها أكثر من الحروب بين الدول، ولقد حوّل العنف وتلك الصراعات منذ عام 1945 ،علي اقل التقديرات والبيانات، أكثر من 12 مليون شخص الي لاجئ، وتسببت في مقتل أكثر من 11 مليون نسمة، وفق ما ذكره الباحث "ديفيد وليش" في كتابه السياسات المحلية والصراعات الإثنية، كما أكد السيد كوفي عنان، الرئيس الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة، بأن أكثر من نصف المتضررين في الحربين الأولي والثانية  كانوا من المدنيين أو غير المقاتلين، وزادت تلك النسب وترتفع اليوم لتصل  الي ثلاثة أرباع المتضررين هم العزل والمدنيين والنساء والأطفال.   

يجرنا الحديث في متابعة المشهد الليبي والصراع العسكري الدائر حول مدينة طرابلس للحديث بشكل علمي واقعي عن الأطر الحقيقية التي عمقت مفهوم المركزية، في القرار السياسي والإقتصادي للدولة في ليبيا منذ سنوات عديدة، متسائلين عما كان سيكون عليه الوضع لو أعدنا الحالة الليبية لما قبل عام 1963 وقبل التحول من كون الدولة فيدرالية الي دولة مركزية بحكم تدخل الحلفاء والأمم المتحدة وطفرة إستكشافات النفط حينها. 

فلماذا نرفض الفدرلة دون معرفتها؟، ولماذا لا تضع مسودة دستورنا الفيدرالية ضمن مستقبل قراءتها؟ ولماذا لا نجري استفتاءًا شعبياً لمعرفة ما يطلبه شعبنا؟ ولماذا لا توضع الفيدرالية في مواجهة سياسات أخري لكي يجري تقييمها؟،  في حين أن مركزية الحكم عمّقت كل شئ، واعادة مأساة الماضي في تهميش كل المدن، بل نقلته من كونه سياسي إقتصادي الي صراع سياسي عسكري دائم ومستمر... فإن لم يكن هناك مركزية محلية ودولية، هل نواجه نفس مصير الصراع العسكري الحالي  في طرابلس؟ في حين أن القادة يمتلكون خيارات سياسية أوسع لمنع الإنفصال من خلال تمكين الخيارات الأربع وهي؛ إستيعاب النزاعات، والدعم الحكومي، والدمج الحزبي او القبائلي، والإكراه في بعض الأحيان. 

نضع أمام القارئ والباحث مدخل مقالتنا "البحثية" وذلك لإثراء المعرفة والاقتراب وإعادة النظر، في مسارات الدولة الليبية لتحقيق هدف الاستقرار والتنمية والسلام، ومحاولة درء مخاطر الإنقسام وتخفيف حدة التوجه نحو ارضيات خصبة لحروب طويلة توصف أحياناً بالحروب الأهلية في ظل عدم التناغم وإضمحلال التجانس المجتمعي. وهو ما يدفعنا للتفكير بشكل أكثر الحاحاً في تأثيرات الفيدرالية، ودراستها بشكل أفضل والتطرق اليها بزوايا عديدة ومتنوعة وأهمها الدراسات والقراءات والبيانات العلمية... وهو ما سنأتي عليه بالمحاور الست لقياس الفيدرالية في مواجهة المركزية.  

مخاوف الإنزلاقات 

لقد جرّت المجادلات حول الفيدرالية أولئك الذين يدرسون الأنظمة السياسية وبالأخص ما بعد مرحلة إنتهاء الشيوعية. إن مجرد النظر الي العنوان يجعله مثيراً للجدل والريبة، فالصراع في "كشمير" وتقسيم "يوغسلافيا يذهب بنا (بمفهومهما الضيق) بأن الصيغ الفيدرالية للإستيعاب قد تكون مدمرة أو محدودة. ولذا نتفق أحياناً كثيرة مع المخاوف الوطنية المضادة والطاردة للفيدرالية، وهو تخوف يؤيده بعض الباحثين ومنهم "فاليري بونيس"، حيث يذهب في كتابه (الإتحادية الوطنية–الإنفصال) Federalism, Nationalism, and Secession ، للقول" إذا ورثت الديمقراطيات الجديدة، هيكلية فيدرالية وطنية، فهي تميل لأن تكون أكثر عرضة للضغوطات الإنفصالية". في المقابل، وفي الكثير من الديمقراطيات وبالأخص في المجتمعات المقسمة، كما كان الحال في سويسرا وكندا وإسبانيا، قوضت الفيدرالية التوجه نحو الإنفصال، وساعدة في الحفاظ علي الولايات. وبعيداً عن المجتمعات الصناعية المتطورة، نأتي للهند والمكسيك ونيجيريا، ورغم اختلاف زمن التجربة  وتنوع النتائج في تلك الدول، الا أنها تمكنت من القضاء علي الإنفصال الإقليمي، وهو ما حدث أيضا في شأن روسيا بإستثناء الشيشان، الأمر الذي يضفي نظرة إيجابية جيدة وتستحق المزيد من البحث والتمحيص. 

وهذا ما ذهبت اليه دراسة دولية تبناها العديد من الباحثين والباحثات عام 2000 ومنهم "نانسي بيرينو، وأغلو أموريتي" بشأن الفوائد النسبية للفيدرالية في مواجهة المركزية، وبالأخص في مجتمعات منقسمة (وهو ما تمر به ليبيا)، ولقد أجمعت استنتاجات تلك الدراسة بأن المؤسسات الفيدرالية تشجع التسويات الناجحة، وهو ما يتوافق مع مفهوم "الاتحاد طويل الأجل" وفق ما وصفته الباحثة "نانسي بيرنيو"  لتوحيد السيادة دون التخلي عن الهوية الفردية... وهو ما يؤيد أيضاً مضمون تصور "التراكب والذاتية".

فكيف يمكننا التوفيق بين النظرة المتشائمة والمتفائلة؟، وكيف نستطيع الإستفادة دون المجازفة للوصل الي شاطئ النجاة؟ وتحقيق الهدف دون خسائر أو انزلاقات؟ فالفيدرالية Foedus))، او الميثاق والإتفاق مبدأ طوعي يتطلب حسن الشراكة كمطلب جوهري أول، وعدم التدخل او تمكين الضغوط الخارجية والتعدي علي السيادة كمطلب ثانٍ.  

المحاور الست للقياس لـــ تيد روبيرت ...الفيدرالية في مواجهة المركزية

من خلال الجدول التالي (مقاييس تسوية النزاعات) نلقي نظرة فاحصة للأرقام والبيانات المتعلقة بالمحاور الست وهي... النزاعات المسلحة، التمييز السياسي، التمييز الاقتصادي، المظالم السياسية، المظالم الاقتصادية، والمظالم الثقافية، وهو ما سيمنح نوعاً من الفهم والتحقق من الأفضلية. 

لقد قدم الباحث "تيد روبرت غار" دراسته تحت عنوان "أقليات في خطر" والتي تم نشرها بـ "معهد السلام الأمريكي بواشنطن عام 1993، حيث وضع من خلالها بعض المقارنات الأولية ضمن اطاري التضرر والاستفادة، في حين اننا سنركز في تحليلنا ومقالتنا علي الأهم بما جاء بالدراسة وهي المقاييس الست لأدوار الفيدرالية في مقابل المركزية.  

مقاييس تسوية النزاعات،،، 

فيدرالية

مركزية

نزاعات مسلحة

1.3

3.14

تمييز سياسي

1.54

1.95

تمييز اقتصادي

1.33

2.00

مظالم سياسية

1.67

3.11

مظالم اقتصادية

1.87

2.56

مظالم ثقافية

1.96

2.32

















 النزاعات والثورات

تمنحنا البيانات شق اولي من المقارنة المنهجية، كما تقدم لنا فرصة ومؤشر لرسم الإستنتاجات ودراسة الحالة او الإعتراض عليها. لقد سجلت الأنظمة الفيدرالية مقابل المركزية معدلات أفضل للنواحي الست المذكورة، الأمر الذي يجعلنا نؤيد بأنها تفسح مجالاً أوسع للمساومة السلمية، وركيزة أفضل للمؤسسات السياسية. تُظهر الأرقام أيضاً تدني مستويات النزاعات المسلحة في الأنظمة الفيدرالية بالمقارنة بالمركزيات، حيث تشير هذه الدراسة وبعض الدراسات الأخرى الي انخفاض اندلاع الثورات المسلحة بمعدل النصف بالمقارنة بالأنظمة الأخرى. 

كما تذهب الباحثة "نانسي بيرينو" في مقارنة الديكتاتوريات الفيدرالية والمركزية، بتفوق النظام الفيدرالي من حيث تخفيف حدة الثورات والتوترات، وتتضاعف الأرقام السلبية والمحفزة لإندلاع الصراعات في المقابل، لتصل الي أربعة اضعاف في أنظمة الديكتاتوريات المركزية، بلحاظ ايضاً إنخفاض معدل مشاركة الأقليات في الانظمة الفيدرالية في دعم الثورات، حيث يتقلص سجل الثورة للأقليات في ديمقراطيات فيدرالية الي حوالي نصف السجل في ديمقراطيات المركزية، باستثناء الهند. 

تفاضلات سياسية واقتصادية

تبين الأرقام بأن التمييز السياسي والاقتصادي اقل بالأنظمة الفيدرالية، ومربط الفرس هنا يتمثل في تلك الحقوق المرتبطة بالشكوي، سواءً الحقوق السياسية اوالاقتصادية اوالثقافية، حيث تكون أقل وأكثر تفاعلاً في الدول الفيدرالية وتحديداً الفيدرالية الديمقراطية. 

لقد تطرقت الدراسة للعديد من الجوانب الأخري، وبينت أيضاً المستوي الايجابي لصالح الفدرالية مقابل المركزية في تحديد الناتج المحلي لدخل الفرد، حيث رصدت الدراسة أربعة عشر حالة  لدول فيدرالية، يتجاوز الناتج القومي المحلي للفرد قيمة 3000 دولار أمريكي مقارنة بدول مركزية بلحاظ معدلات الاستيعاب الأكثر تعلقاً بشكل مباشر بالحياة الاقتصادية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين أن الدول الأفقر، والتي لا يصل الناتج المحلي الإجمالي للفرد فيها معدل  3000 دولار امريكي، سجلت الدول   الفيدرالية أقل معدل من الدول المركزية، ومن هنا تصبح فوائد المقارنة مع المركزية اقل تجانساً، الأمر الذي يطرح إشكالية، فبالإمكان أن تكون الفيدرالية مفيدة وهامة في بعض الدول أكثر من دول أخري.   

الآثار الفعلية والمتوقعة للفيدرالية

التخوف من الإنزلاق نحو التقسيم والتجزئة له أسبابه ومبرراته، فالفيدرالية ليست ترياقاً وحلاً لكل مشاكل المجتمعات، ولكن المهم عدم رفضها لأسباب زائفة ومن غير الدقة العلمية بأن توصف كونها داعم للإنفصال دونما اجراء مزيد من البحث المقارن لمعرفة متي تكون الفيدرالية مرتبطة ومتي لا تكون ...فالواقع يبرز العكس، ويبين بإن الحركات الإنفصالية او التقسيمية، في معظم الأحيان، وليد للتهديدات والصراعات والنزاعات المسلحة أكثر من التنازلات. بل يذهب الكثير من الباحثين الي أبعد من ذلك، مؤكدين ان رفض الفدرلة هو ما يثير عادة حركات الإنفصال ودعاة التقسيم، حيث ذهب الباحث "بيتر وود" فيما يخص الأحداث في السودان، مؤكداً بأن بعد رفض التحول الي الفيدرالية، تبني السودانيون الجنوبيون الإنفصال، فالرفض كان أحد الأسباب الداعية للتقسيم وليس العكس،  كما أكد الباحث " دونال هورويتس"، بأن (التاميل) دعموا الإنفصال والتقسيم  في سيرلانكا عام 1976 بعد رفض الفيدرالية، ويشير الباحث" كنت ويفر" بأن النزاع المسلح للإستقلال في اريتريا مطلع الستينيات نتج عن الخرق الفاضح والإلغاء النهائى للإتفاق الفيدرالي. 

في العادة، إن كل نظام فيدرالي تفكك أو تحول لـ مركزية، كان مفروضاً من قبل قوة خارجية (إستعمارية) علي غرار الأنظمة التي تمزقت وانهارت في أوربا ما بعد الشيوعية، وهو ما يعرفه الباحث "ستيبان" بالفيدرالية الإكراهية، ويؤكد علي قواسم مشتركة أخري، فكل دولة فيدرالية فاشلة خلقت حرباً أهلية (معظمها إنفصالية)، سواء ديكتاتورية صريحة او نظام شبه مكتمل بقيادة غير ديمقراطية. ومن تلك الشواهد، ما حدث في إتحاد أفريقيا الوسطي 1953-1963 بتدخل بريطانيا، وما حدث في الكونغو 1960 بتدخل بلجيكا، وما حدث في بورما 1953-1962 بتدخل بريطانيا، وما حدث في اندونيسيا 1950 بتدخل هولندا... وما يؤكده بعض الباحثين بأن الغاء النظام الفيدرالي الليبي عام 1963 كان وليداً لتدخلات خارجية معظمها أتي بدافع إقتصادي بعد الإكتشافات النفطية بعيداً عن مساق الإستقرار وتوحيد الدولة، وهو ما دفع الي تحول لدولة مركزية تثير صراعاتها اليوم مخاوف التقسيم بدلاً من التقاسم والإنزلاق في دوامات ومنعطفات الحروب الأهلية.

وختاماً، 

نعزز خاتمتنا بقول الشاعر "جهاد جحا" "من سار في الدنيا بغير طريقه ...فقد بات والاوهام سم يداخله، تناول من الاغصان ما تستطيعه... ودعك من الغصن الذي لا تطاوله"

لا يمكننا الجزم بأن هذا النظام أو ذاك سيكون العلاج الناجع، والدواء الشافي لمستقبل البلاد ورؤيتها، وهذا يحتم أن نضع كل الخيارات والبدائل والطروحات تحت مجهر النقد والدراسة للتحقق من مستوي الكفاءة والملائمة، بالرغم من أن الآثار الفيدرالية ما زالت غير معروفة، الا أن من الواضح أن الإداراة الناجحة للإنقسامات المناطقية والإقليمية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمؤسسات السياسية، والدعم المؤسسي فيدرالي –ديمقراطي، هذا ليس الا القسم الأول، فهناك تغييرات مؤسسية ضمن مفهوم الديمقراطيات والفيدراليات يمكن أن تكون سبيلاً للفرق بين النجاح والفشل وهو ما نعرفه (بالثقافة المجتمعية)، من خلال رسم الحدود والإختيار بين هيكليات الأغلبية، وتصميم القوانين. فالخطأ قد يودي بنا كما أودي بـــ نيجريا لفقدان مليون شخص، عندما وضعت دستورها بشكل غير صحيح، نجم عن دخول البلاد في منعطفات وحروب طويلة الأمد. 

علينا أن نعرف أي التغييرات التي تناسب مراحل الإنتقال بشكل علمي، فالفيدرالية (طويلة الأجل، الإكراه، السوق، السلام) قد تكون ضمن الدراسات والمعرفة المقارنة القادمة لإحلال نوع من السلام والتوافق والتعايش وتعمق مفهوم الإستقرار وضمان الحريات والحقوق وتحقق الأهداف.


تقديري وإحترامي 

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة