يشكل العمل الجمعوي ركيزة أساسية  من ركائز تفعيل المجتمع المدني الذي يصبو الجميع إلى تكريس أهدافه وبلورة غاياته، وذلك بالنظر إلى الدور الريادي و الأهمية القصوى التي تنهض  بها فعاليات المجتمع المدني في ضبط العلائق مع الدولة والمساهمة " المكثفة" في إعادة إنتاج حقل السلطة على صعيد شتى تجلياتها: السياسية، الاقتصادية ،الاجتماعية وحتى الثقافية .هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع المدني هو الوجه الأخر لممارسة السلطة. ومن هذا المنطلق نجد أن المجتمع المدني والدولة ليس مفهومان متقابلان، متصارعان ومتناحران بل هما مفهومان متلازمان، متكاملان  ومنصهران في بوتقة واحدة، إذ لايمكن لهيأت المجتمع المدني أن تحقق الرسالة المنوطة بها والمرسومة في استراتيجياتها الأفقية والعمودية دون الاستناد والارتكاز على الدولة، وفي المقابل يصعب أن نبني دولة قوية بدون اللجوء إلى مشاركة الفعاليات المدنية.فلا مجتمع مدني قوي بدون دولة قوية والعكس صحيح.

على هذا الأساس اقتحمت وبقوة جمعيات المجتمع المدني عدة مجالات حديثة مكنتها من تعزيز قدراتها التدخلية، ومنها مجال الفعل التنموي الذي مافتئ يبلور تصورات استشرافية حقيقية على مستوى الأبعاد الشمولية للتنمية .هذه الأخيرة وحتى تصبح واقعا ملموسا بعد أن ظلت ولزمن طويل أملا يرتجى،عليها أن تقوم على أسس صلبة ومتينة، ومنها الحرص على الاندماج الايجابي للجمعيات، خاصة منها الجمعيات التنموية التي تمثل الجيل الأخير والجديد من الجمعيات والمتسمة بالاحترافية على مستوى المنطلقات والتدخلات والغايات والمتبنية للمنظور الأكثر شمولية وتكاملية للتنمية المستدامة من حيث خلق التوافق التام والمستمر بين النمو السكاني المتسارع ومستلزمات الحياة الأساسية.ومن بين الأسس كذلك نجد تفادي تلك الملاحظة البئيسة والموقفة لحيوية المشاركة الايجابية والمرتبطة بواقع الدول الثالثية، ومنها الدول العربية ،والخاصة بإضعاف وتهميش المشاركة الكاملة للفعاليات المدنية في تنفيذ البرامج التنموية عبر الأخذ بمكاينزمات الكولسة والتدجين والتبخيس من قيمة هذه الفعاليات على مستوى أدائها التنموي. في هذا النطاق يظهر أن تطوير أسس المشاركة سيمكن الديمقراطية التشاركية من أن تعلن عن صرختها الوجودية، وأيضا سيبرز انصهار الجميع وبفعالية في ضمان استدامة التنمية، ومن تم تترسخ بعد أن تظهر تجليات مساهمة المجتمع المدني في بلورة ودعم التزام الدولة بخلق برامج تنموية تتوخى بالدرجة الأولى محاربة كل أشكال الفقر والتهميش والإقصاء والحرمان من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق العديد من المنجزات المنخرطة في سياق السياسات العمومية والمرتبطة بقضايا الشأن العام، والتي يجد المجتمع المدني ببلادنا مثلا ووفق منظور دستوري، نفسه أمام ضرورة المساهمة فيها (إعدادا، تفعيلا وتقييما) في إطار بلورته لدعائم الديمقراطية التشاركية ( كما تنص على ذلك الفقرة الثالثة من الفصل 12 دستور 2011).

إن الوظيفة الوسائطية باعتبارها من أبرز و ظائف المجتمع  المدني هي التي ترسم البعد التشاركي لفعالياته في الصيرورة التنموية. هذه الفعاليات تلعب دورا وسائطيا ذو وجهين: الأول بين الفرد والدولة والثاني بين الفرد والمنظمات التنموية، وذلك من منطلق أنها تسعى إلى التحفيز وبايجابية على تبني ثقافة التشارك على مستوى خلق المبادرات واقتراح البرامج وبلورة المشاريع، وبالتالي دعم " الإبداع التنموي" وكل ذلك بالرجوع الى قدرتها المتنامية في القيام بدراسات ميدانية، تعطي الجواب الشافي على احتياجات الفئات المستهدفة والفعاليات الأخرى المشاركة في صياغة المقاربات التنموية( الدولة، القطاع الخاص ). في هذا الصدد تشكل جمعيات  المجتمع المدني التي قامت في وقت سابق بانجاز مشاريع تنموية على الصعيد المحلي أو الجهوي أو الوطني بنكا قيما للمعطيات ومعينا وافرا للمعلومات، مما يساعد التجارب اللاحقة على الاستفادة منها من حيث الوقوف أمام الحصيلة، والمردودية والاكراهات ،وبالتالي التوفر على القدرة الاستشرافية في إيجاد الحلول ورسم الأفاق، هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية تشكل بعض الجمعيات، خاصة تلك التي أعلنت عن دخولها في المنطق الريادي للتشبيك Réseautage  أو الأقل الانخراط في الشكل الفيدرالي،الفضاء الأمثل و الأرحب  الذي يبرز الأهمية الميدانية للمنظور التنموي من حيث القيام بالدراسات وإجراء مقابلات واستمارات تعكس احتياجات الفئات المستهدفة ومطالبها وتطلعاتها وبالتالي التمكن من القدرة على الاستجابة لها.

وعموما فدور المجتمع المدني يكمل أدوار القطاع الحكومي والقطاع الخاص والمواطن، في عملية تحقيق التنمية الشاملة للساكنة، وإدامة تلك التنمية وضمان استمرارية منطلقاتها وأهدافها للرفع من مستوى الافراد، وذلك بالحرص على إيجاد حلول موضوعية لمعضلات تنموية عويصة من حجم الفقر، وذلك عبر دعم الخدمات والحاجيات الاساسية المختلفة التي يحتاجها المجتمع وترتبط بها أسس ازدهاره ولما لا بقاءه. فكل مشاركة حقيقية وحرة واستباقية واستشرافية للمجتمع المدني في تدبير شؤون الحياة العامة ومنها على وجه الخصوص الحياة التنموية بامكانها أن تمنحنا الاحساس بوجود ملموس لمفهوم الحكامة، والعكس صحيح .فالحكامة من هذا المنظور التنموي تطرح نفسها وبالحاح شديد كأسلوب جديد في الحكم الرشيد والتدبير المعقلن والتسيير الفعال.انه الأسلوب الأكثر قدرة على جمع وتوحيد الجهود عن طريق تبني اليات التشارك والشراكة والمشاركة كآليات حكاماتية، والانطلاق من أسفل إلى أعلى ،أي الاستناد الى رؤية العمل القاعدي المرتبط بالفئات الهشة والمقصية والمحرومة والمعزولة والموجودة في العالم القروي أو في العالم الحضري على مستوى الاحياء الشعبية أو الأحياء الغير المهيكلة أو الناقصة التجهيز، خاصة وان هذه الأخيرة ما فتئت تعرف خللا بنيويا- تنمويا عميقا والمتجلي في انتفاء شروط التنمية الحضرية الحقيقية ( غياب التأهيل والمرافق والتجهيزات الأساسية من ماء وكهرباء وتطهير سائل..) وبالتالي انعكاس كل ذلك على مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية برمتها.

من هذا المنظور الذي يلامس الواقع المعاش يمكن الحديث عن انبثاق دور المجتمع المدني في ارهاصات الحكامة التنموية التشاركية ببلادنا وذلك عبر ثلاث محطات يمكن تجسيدها في المثلث  الحكامة.        

ان مثلث الحكامة التشاركية هذا يجد تبلوره التفسيري في المحطات الكرونولوجية التالية   :                          

  • الميثاق الجماعي ل 13 أكتوبر 2002 : يجسد هذا الميثاق خطوة ايجابية في مسارات إشراك الحركة الجمعوية في تدبير الشأن المحلي، فلأول مرة يشير فيها المشرع إلى دور الجمعيات في التنمية المحلية، الاقتصادية والاجتماعية وذلك بتعاون مع باقي الفاعلين من إدارات عمومية وجماعات محلية وهيئات عمومية وخاصة  ،وهو مايبرز من خلال مراحل انجاز المخطط الجماعي للتنمية( المادة 36 من قانون78.OO) كما ان الميثاق الجماعي يؤكد على دور المجلس الجماعي في ابرام الشراكة مع الفعاليات الجمعوية في اطار الاختصاصات الذاتية المخولة له (المادة41 من نفس القانون ) .وهنا ترتبط المقاربة التشاركية على صعيد التنمية المحلية بمفهوم الحكامة المحلية وما يرتهن بها من تحولات عميقة في الانساق النظرية الكبرى لمختلف براديغمات الفعل العمومي المحلي وما يتبعها من تغير واضح وجلي في وظائف الدولة على الصعيد المحلي في الوقت الراهن.
  • دورية الوزير الأول حول الشراكة ل2003: تترجم هذه الدورية الصادرة بتاريخ 27 يونيو 2003 تحث رقم 07/2003، إرادة الدولة في جعل سياسة القرب الإنمائي، والرامية إلى محاربة كل أشكال الفقر والحرمان، وتحسين ظروف عيش المواطنين في وضعية هشة أو صعبة خلال تلبية حاجياتهم الأولية عن طريق استهداف دقيق للمشاريع و المستفيدين.
  •  المبادرة الوطنية للتنمية البشرية(2005) : شكلت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية المعلن عنها في الخطاب الملكي المؤرخ في 18 ماي 2005 مشروعا مجتمعيا طموحا ورغبة تواقة وإرادة تابثة، تتوخى القضاء على الفقر والتهميش بمختلف مستوياته، وذلك عن طريق خلق دينامية جديدة تدعم مجهودات السلطات العمومية في مجال التنمية الشاملة، مما يبرز أهمية هذه المبادرة في مساهمتها في تطوير العمل الإجتماعي بالمغرب وجعل المجتمع المدني يحظى بمكانة لائقة على مستوى الدور الطلائعي الذي أضحى يضطلع به من خلال المشاركة في الغايات التنموية للحكامة القائمةعلى اشراك جميع الفاعلين بمافيهم الفاعل المدني        هذه المحطات، وإن أثبتت وبشكل جلي عن رغبة الدولة في جعل نمط الحكامة التشاركية نمطا لا محيد عنه لابراز الافاق التنموية، فإنها كذلك أبرزت مظاهر قصور واختلالات كثيرة جعلت نموذج التنمية ببلادنا يوصف بالنموذج " المعطوب". الشئ الذي يجعل الجميع يطالب وينادي بضرورة تبني آليات تخرج هذا النمط من حالة " العطب".

هكذا يظهر للعيان أن الحكامة التشاركية تستلزم بالضرورة الارتكاز على المشاركة الواعية والانخراط الحر لجميع المؤسسات، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني في رسم الاختيارات الاستراتيجية على الصعيد التنموي وصياغة السياسات العمومية ومراقبة القائمين والمشرفين على تدبير الشأن العام التنموي وتقييم أدائهم والعمل على تقوية ودعم العمل التضامني وتثمين التوجه الاجتماعي لجمعيات المجتمع المدني الساعية لخدمة الفئات الاجتماعية الأكثر احتياجا والاستجابة لمطالبها الملحة في سبيل العيش الكريم، والعمل وبكل مسؤولية وأمانة على ايجاد الحلول الناجعة للمشاكل المطروحة في اطار تشاركي، مع ضرورة الحرص على بناء مجتمع تحترم فيه الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الشئ الذي يجعل التنمية مسلسلا تشاركيا ديناميكيا وحيويا، شاملا، وتراكميا من أجل احراز تقدم فائق في الاستجابة العادلة والمتضامنة والمستديمة والمندمجة للحاجيات الأساسية المتراكمة والتي تفرض على المؤسسات الاجتماعية وفاعليها وعلى رأسهم الفاعل المدني، تبني استراتيجية بعيدة المدى تتجاوز الخلافات وتتحد في الغايات وتقف أمام المنظور الايجابي لتنافسية الادوار،  وفي نهاية المطاف التأسيس لنمط حكامة تنموية رائدة.