مصطفى حفيظ

قد لا تهمّ السلطة في الجزائر بنتائج الانتخابات البرلمانية أكثر من اهتمامها بكيفية إنجاح العملية بحدّ ذاتها، ومدى نجاحها مرهون بنسبة المشاركة الشعبية فيها، لأنه من غير المعقول أو من غير المقنع أن تكون انتخابات ذات مصداقية ونسبة المشاركة فيها لم تتجاوز نصف عدد الهيئة الناخبة. لكن، هل ستنجح السلطة في تمرير انتخابات البرلمان إن تكررت ظاهرة العزوف الانتخابي وقاطعت منطقة القبائل هذه الانتخابات؟ مثلما حدث في الرئاسيات واستفتاء الدستور؟ وعلى ذكر منطقة القبائل، فالأكيد أن عدم تمثيلها في البرلمان سيجعل مصداقيته كمؤسسة تشريعية على المحكّ، ويُظهر من جهة أخرى بأن السلطة تعزل المنطقة، وهذا سيترك فراغا قد تستغله حركة "الماك" الانفصالية لحشد الدعم لأطروحتها. 

ما يقلق السلطة فعلا هو نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية المنتظر اجراءها يوم (12 يونيو 2021)، فاستمرار "الحراك الشعبي" وإعلان أحزاب ديموقراطية عن عدم مشاركتها في هذا الاستحقاق، قد يؤثرا سلبا على نتائج هذه الانتخابات، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نتائج استحقاقات سابقة، أولها الانتخابات الرئاسية التي عرفت مقاطعة غالبية الهيئة الناخبة، حيث سجلت نسبة مشاركة أقل من نصف عدد الناخبين المقدر بأكثر من 24 مليون ناخب، أي 39 % ما يعادل حوالي 9 ملايين ناخب، لكن للرئاسيات خصوصيتها، ونفس الشيء بالنسبة لاستفتاء الدستور، وهو أول عملية انتخابية تُنظّم في عهدة الرئيس الحالي، وبرغم نسب المشاركة الضئيلة إلا أنّ السلطة نجحت في تمرير الرئاسيات ثم تمرير الاستفتاء، لكن هل ستنجح في تمرير انتخابات البرلمان دون تصويت غالبية الشعب على من يمثّلهم في السلطة التشريعية؟ الأكيد أن السلطة سوف تجد مخرجا لذلك، لكن بأيّ ثمن؟ هل بتجاهل مطالب الأغلبية الرافضة للانتخابات؟ وهي هنا تلك الفئة الصامتة الغاضبة من الشعب الذي لا يرى في الانتخابات حلا سياسيا لمشاكله. كيف ستواجه السلطة ظاهرة مقاطعة الانتخابات في منطقة القبائل مثلا؟ إنّ هذه المنطقة معروفة بضعف نسب المشاركة في الانتخابات، ففي انتخابات الرئاسة التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 2019، خمس ولايات فقط سجت نسب مشاركة أقل من 25 في المائة، وهي العاصمة (%23.93)، بومرداس (24.73%)، البويرة (%20.61)، بجاية (%0.29)، وتيزي وزو (%0.001)، وكما هو واضح فإنّ هذه الولايات (المحافظات) هي الوحيدة من بين 48 محافظة عبر التراب الجزائري التي عرفت مقاطعة وعزوفا انتخابيا، وأغلبها في منطقة القبائل التي تضمّ محافظتين هما تيزي وزو وبجاية، فكما هو واضح من خلال الأرقام، نسبة المشاركة صفر، وهذا دليل على الرفض الشبه التام للانتخابات، وما يؤكد ذلك هو نتائج الاستفتاء الذي تم تنظيمه في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، حيث سجلت في هاتين الولايتين فقط أدنى نسبة وهي (%0.03) في تيزي وزي، و(0.28%) ببجاية، وشهدت بعض البلديات بولاية البويرة والمحسوبة على منطقة القبائل نفس الحالة، وعلى العموم فقد كانت نسبة العزوف العامة في الاستفتاء على الدستور الأدنى في الجزائر منذ الاستقلال، حيث سلجت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات نسبة (%23,7).

 لكن لماذا تتكرر الظاهرة في هذه المنطقة بالذّات دون غيرها؟ 

 يبدو أنّ السلطة في الجزائر لم تستطع على مدار السنوات الماضية اقناع سكان منطقة القبائل بجدوى الانتخابات، فدون ذكر نتائج الرئاسيات التي مكّنت لبوتفليقة الجلوس على مقعد رئاسة الجمهورية لقرابة 20 سنة، كانت نسب المشاركة في هذه المنطقة من الجزائر دوما الأدنى، لكن الآن، ومع ثالث استحقاق سياسي يُنظم بعد انتخابات الرئاسة التي أوصلت الرئيس الحالي عبد المجيد تبون للحكم، تواجه هذه السلطة هاجس المقاطعة في هذا الجزء من البلاد خاصة في ظل اعلان أهم الأحزاب الممثلة بشكل واسع في هذه المنطقة عدم مشاركتها في انتخابات البرلمان مما يضرب مصداقيتها ويعزز فرضية عزل السلطة لمنطقة القبائل في مواجهة فكرة الانفصال التي تروّج لها حركة الماك (الانفصالية). والطبيعة لا تقبل الفراغ مثلما يقول المثل. فعدم وجود تمثيل نيابي لهذه المنطقة في البرلمان يعزز من فرص تغلغل دعاة الانفصال فيها. ومؤخرا أعلن المجلس الأعلى للأمن في الجزائر أنّ حركة "الماك" الانفصالية وحركة "رشاد" منظمتين ارهابيتين. والمعروف على "الماك" بالأخص تواجده في منطقة القبائل، أو ربما له أنصار هناك، مما يعزز من فرضية محاولته ملأ الفراغ الذي تركته أحزاب لها جذورها هناك أبرزها "جبهة القوى الاشتراكية" "والتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية"، وهما حزبين أمازيغيين مناوئين للسلطة، ومعهما حزب العمال اليساري الذي يملك أنصارا في المنطقة، والذي يقاطع لأول مرّة هذه الانتخابات، منتقدا السلطة بعدم توفير الظروف المناسبة وأن الانتخابات ستقضي على المنافسة، وهناك تشكيل سياسي آخر أعلن مقاطعته وهو الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وهو حزب ذو أيديولوجية شيوعية، يرفض هذا الحزب المشاركة في انتخابات يراها مكرّسة لبقاء نفس النظام الحاكم، وكل هذه الأحزاب المقاطعة ستساهم في تعميق ظاهرة العزوف الانتخابي في منطقة القبائل وولايات مجاورة لها كبومرداس، البويرة، وحتى العاصمة، ولا يجب اغفال أنّ معظم مناضلي هذه الأحزاب يتواجدون بمسيرات الحراك الشعبي باستمرار، والأكيد أن تأثيرها يصل دون شك إلى عمق المنطقة، لكن بالمقابل، ألا يساهم هذا الفراغ في اذكاء فكرة الانفصال التي يروّج لها المعارض الامازيغي المقيم بفرنسا فرحات مهني؟ لأنّ غياب التمثيل النيابي عن سكان القبائل يجعلها بنحو معزولة، والسلطة تعرف ذلك جيّدا دون شك.  إذن كيف سيتم تجنّب المقاطعة في هذه المنطقة بينما بحسب قانون الانتخابات الجزائري كل ولاية ممثلة في البرلمان عن طريق نواب ينتخبهم الشعب في ولاياتهم. وكيف ستتعامل السلطة مع المقاعد المخصصة لهاتين الولايتين (11 مقعدا لتيزي وزو وتسعة مقاعد لبجاية)؟

بالنتيجة، لا يبدو أنّ ظاهرة العزوف الانتخابي والمقاطعة قد تتوقف، لأنّه لا يمكن مقارنة نتائج انتخابات البرلمان التي جرت في مايو 2017 بانتخابات يونيو 2021 لأسباب واضحة تفهمها السلطة في الجزائر جيّدا، لعل أبرزها هو اختلاف معطيات الواقع، فالاستحقاق الانتخابي الذي قرره الرئيس الحالي تبون بشكل عاجل بعد حلّه الغرفة السفلى من البرلمان قبل انتهاء عهدتها في 2022، يجري في ظروف مختلفة عن تلك الظروف التي عاشتها البلاد في 2017، منها أنّ الحراك الشعبي الرافض للسلطة الحالية مستمر إلى اليوم برغم تراجع عدد المشاركين في المسيرات واقتصارها على العاصمة وبعض الولايات أبرزها منطقة القبائل، وهذا وحده سبب كافٍ يعزز من ظاهرة العزوف الانتخابي، الذي يعني مقاطعة العملية الانتخابية سواء بعدم الذهاب إلى مراكز الاقتراع تعبيرا عن رفض الانتخابات كحل للتغيير، أو التصويت بورقة بيضاء للتعبير عن رفض كل المترشحين، لكن الأكثر ازعاجا للسلطة هو عندما يكون التعبير عن رفض الانتخابات عنيفا لدرجة منع الناس من حقهم في التصويت، وهو ما حدث في آخر انتخابات (استفتاء الدستور في الفاتح من نوفمبر/تشرين الأول) في منطقة القبائل بالأخص. إنّ السلطة في الجزائر أمام تحدٍّ هام في هذه الانتخابات في ظل استمرار الدعوة للمقاطعة والرفض الصريح للمتظاهرين المشاركين في مسيرات "الحراك الشعبي"، فهل سيتم تلافى ذلك؟ أم أن نتائج الانتخابات مهما كانت لا تهمّ السلطة أكثر من نجاح العملية في حدّ ذاتها؟ أي، أن تمريرها في ظروف آمنة هو الأكثر أهمية، أما ما تعلق بمن سيفوز بالأغلبية فذلك أمرٌ آخرٌ، لأنّ نجاح الانتخابات البرلمانية يعني في حدّ ذاته نجاح السلطة الحالية في الجزائر في إرساء مؤسسات الدولة من جديد بعد عامين من "حراك شعبي" أطاح برئيس عمّر في الحكم قرابة عشرين سنة.