من المفردات العربية المتداولة أثناء الهزات التي عاشها العالم العربي عبارة (العزل)، وهي في لسان العرب تشير إلى إبعاد شيء عن شيء والتفريق بين أمر وأمر، وقد وردت في الأدب العربي بهذا المعنى مجازا وواقعا، أما استعمال هذا المصطلح القديم الجديد في عهد الثورات الملونة وثورات الناتو، فقد تحول في عهد الثوار الجدد، إلى قوانين سنها الحكام الجدد تنادي بعزل ما سموه الفلول في ليبيا، وتوسعت هذه القوانين أو مشاريعها لتشمل بالعزل وزراء و مدراء ودبلوماسيين وموظفين سامين خدموا الدولة كدولة ولم يسرقوا ولم يجرموا فكان جزاؤهم الظالم كنوع من العقاب الجماعي الذي أخل بقاعدة قرآنية كريمة وهي (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و (كل نفس بما كسبت رهينة).

بعد الإطاحة بنظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وبعد تسلم ''ثوار فبراير'' مقاليد حكم البلاد والعباد، زج بعدد من الأبرياء في السجون دون محاكمات، وقد أدى توسيع رقعة العزل على هوى الأحقاد وتصريف الإنتقام إلى عديد المظالم، واستسلمت السلط الجديدة إلى ما يسمى بنبض الشارع وإلى الكتائب المسلحة المحيطة بمقرات الوزارات أو إلى إرادة ميليشيات فوضوية تتصرف حسب إشاعات الفيسبوك، فساد الانتقام و تفشي التشفي والرمي بمجرد الظن...

''ثوار فبراير'' صادرت أملاك الشهيد معمر القذافي وعائلته، وأقربائه ورموز حكمه، ومناصريه... فور صعودهم للحكم بدلا من أن يعدلوا فهو أقرب إلى التقوى، تملكت منهم غريزة الانتقام، وبدأ مخطط تقسيم ليبيا باستبعاد أحد مكونات القبائل الرئيسية، وما عقب ذلك من فتح مظلمة تاريخية، جعلت ليبيا رهينة هذه الحرب الطاحنة الدائرة منذ 2011 وحتى الآن، والتي حصدت أرواح الآلاف، لم تزهق أرواحهم في فترة حكم الراحل العقيد معمر القذافي، أو في أي من مراحل تاريخ ليبيا في العصر الحديث.

فلم يبق لليبيا لا جيش قوي منضبط ولا إدارة ناجعة فعالة ولا جامعات علمية ولا متاحف ولا مشافي ولا نفط يضخ الخير على الناس. فكان العزل في ليبيا عزلة لليبيا، وإلى يومنا هذا لم تقم للدولة قائمة، حيث انقسمت ليبيا إلى قبائل، وهاجر من بلد المجاهد عمر المختار، مآت الآلاف، بينما تنتج أرضهم جميع الخيرات من النفط إلى الزراعة إلى الصناعة إلى أعلى نسبة في إبداع الفكر و طباعة الكتب. 

ومن باب الذكرى، فقد خضعت حكومة ''ثوار فبراير'' الهشة لتهديد السلاح، فصادق مجلسهم المنتخب على قانون العزل، وطال هذا القانون حتى محمد المقريف رئيس نفس المجلس، فاستقال الرجل وهو دامع العينين... وربما كثر ممن يتعاطونَ مع المجريات في ليبيا، يتجاهلونَ الحديث عن الهدف الأساس لإقرار هكذا قانون من أولئك الذين دخلوا ليبيا على ظهرِ ''دبابات الناتو''، وما زالوا يمارسونَ فسادهم الإداري والمالي بحقّ الشعب الليبي حتى يومنا هذا. وإقرارَ هكذا قانون والذي عملياً يتعارض مع فكرة جلب الحرية والديمقراطية للشعب الليبي لأنه يقصي ملايين الليبيين، بمعزلٍ عن رأينا بمناصرتهم وتأييدهم للنظام السابق وتوجهاته، لكن هذا القانون، ببساطة كان اللبنة الأولى لقتل ما يمكن أن يُجمع عليه الليبيون، أي فكرة العمق العروبي والأفريقي لليبيا.

للأسف الشديد، ليبيا اليوم تتصدر قائمة الدول التي تعاني من ظاهرة العزل السياسي والاستهداف والانتقام والاجتثاث، الأمر الذي أدى إلى إيقاع أفدح الخسائر المادية والبشرية والإنسانية بمآت الآلاف، ما أثار قلق منظمات حقوق الإنسان التي عدت ما يتعرض له المشمولون بالعزل السياسي بأنهم ضحايا لسياسة ممنهجة تستند إلى الكراهية والانتقام على خلفية سياسية تهدف إلى حرمان هؤلاء من حقوقهم المدنية التي كفلتها القوانين. 


لقد تعرضت مجاميع كبيرة من نخب ليبيا وعلمائه من شرائح مختلفه بعد ''ثورة ثوار فبراير'' تعرضت هذه المجاميع لحملة ممنهجة من قتل وتهجير واجتثاث وفصل تعسفي من وظائفهم والرمي بهم بغياهب السجون دون محاكمات، وهي أكبر عملية إقصاء تعسفي في التاريخ الحديث بسبب فكرهم السياسي وانتمائهم... إنّ الكفاءات الليبية المناضلة التي عزلت وسجنت وعذبت وهجرت وأهينت وفعل بها الأفاعيل... ذنبها أنها خدمت الدولة لا القذافي، وحافظت على مصالح ليبيا لا مصالح سيف الإسلام.


وأمام هكذا سياسة انتقامية لحكومة الوفاق الأخوانية، ومخاطرها على السلم المجتمعي ومستقبل ليبيا، فلابد من فضح ما يجري في ليبيا من استهداف وعزل سياسي ومصادرة الحقوق والممتلكات... إن الشروع بحملة وطنية ودولية باتت ضرورية لإنصاف المتضررين من قوانين الاجتثاث والعزل والانتقام لرفع غبن القوانين وآثارها التدميرية على المجتمع وحقوق الإنسان الليبي، في محاولة لتعطيل هذه القوانين وتداعياتها التي تحولت إلى سيف مسلط على رقاب المشمولين بهذه القرارات لأن السكوت على هذه الممارسات الانتقامية سيشجع القائمين على تنفيذها لتوقع أفدح الخسائر بشرائح أخرى...


وليس بمعزل عن ذلك، يحق القول إن العزل السياسي بالنسخة التي تطبقها اليوم حكومة ''الوفاق الأخوانية'' يمثل خرقًا للمعايير الاجتماعية، إذا أخذنا بحقائق الأمور التي تشير إلى أن أغلبها يتحرك بمضامين من الأغراض الشخصية الخالصة، أو بدافع المناكدة والإزاحة خوفًا من المنافسة مع إضافة بعض (المقبلات) المصنوعة من الافتراءات والتلفيق ليس إلا. 


 وما أحوج حكام ليبيا الجدد، أن يطلعوا على سماحة ورقي دولة جنوب أفريقيا، فقد نجحت هذه الدولة في إطلاق نسخة أخلاقية رائدة من السماحة ضمن مفهوم (عفا الله عما سلف) بالرغم من وحشية عنصرية (البيض)، وقد نجح عامل السماحة هذا في تطور البلاد اجتماعيا واقتصاديا واحتلاله منزلة متقدمة ضمن مجموعة الدول الناشئة (البريكس)، مع العلم أن القيمة الرافعة لهذا التوجه جاءت من الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا الذي اكتوى أكثر من غيره بالنار العنصرية البيضاء، إذ بقي في السجن سبعة وعشرين عاما تطبيقا للبارتهايد، وهو الحال الذي شمل الملايين من الأفارقة.


 أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما فتح مكة، قال لمن أذوه، وأجبروه على الهجرة ومن قتلوا بعض أهله، اذهبوا فأنتم الطلقاء، إنه ديدن كل من يسعى لإقامة دولة العدل والمساواة هو التسامح والتغاضي عن الأحقاد القديمة، أما من يريد التحزب الأخواني، وفرض سيادته، فلن يتمكن من ذلك، بل ستظل بلاده رهينة الأحقاد، وأسيرة الشعور بالغبن من هذه الطائفة أو تلك القومية، وستظل نعرات الفرقة هي صاحبة الصوت الأعلى، وهو صوت نشاز يضر ليبيا، أكثر مما ضرها الغزو التركي كان أم الأميركي.


إن بعض محركات الدعوة للعزل السياسي الطاغي في المشهد الليبي تشابه إلى حد ما حال من يحتمي بالعاصفة من العاصفة، أو حال من يضع أولويات يعمل عليها لإسقاط المخطئ وليس إسقاط الخطأ، وبالمقابل لا خوف حتما من إعادة الدمج، إذا أخذنا بالاعتبار المنسوب إلى بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الأسبق (إن من لا يملك رصيدا أخلاقيا صحيحا، لا يمكن أن يكون مؤهلًا للحضور السياسي الدائم)، وبموازاة ذلك، ليس من النبل أن يؤخذ بالمثل العربي المعروف (إذا سقط الجمل تكاثرت السكاكين عليه). والرأي عندي أن الدول الجديدة لا تؤسس إلا على نواة الدول السابقة أي على ما ظل منها محايدا و عادلا و مهنيا. 

خلاصة الكلام: الكاتب الليبي ''مصطفى الفيتوري'' يجيب عن سؤال بشأن جدية ''عودة القذافيين'' بالقول إنّه جرى ''إقصاؤهم من قبل الساسة المحليين والدول الإقليمية والدول الغربية، فهذه الأطراف اعتقدت منذ 2011 أن القذافي... انتهى وأنه رجل منبوذ من شعبه ويعتبر صفحة سوادء من تاريخ ليبيا''، مستدركاً بأنّ هؤلاء ''عادوا واكتشفوا أنهم كانوا على خطأ، واكتشفوا أيضاً أن ليبيا لا يمكن أن تكون ديموقراطية ومستقرة وآمنة من دون أنصار القدافي''. هذا ما يقوده إلى اعتبار أنّ ''الذي سوف يحدث، وإن كان سيأخد وقتاً، هو أن الأطراف العاقلة، وبخاصة الأوروبيين، سيطلبون من أنصار القذافي أن يتقدموا للعب دور، لأن السنوات الماضية أثبتت أنه لا مناص من إشراكهم في رسم مستقبل ليبيا، علاوة على أنّ هذا هو منطق الأشياء الطبيعي''.

إن من يتحدث عن مستقبل ليبيا، والتسوية السياسية والأمن المجتمعي، عليه أن يوقف مسلسل الثأر والعزل السياسي ومفاعيل الإجراءات الانتقامية التي طالت ملايين الليبيين قبل أية خطوة باتجاه المصالحة المجتمعية والتسوية التاريخية.

باحث وكاتب صحافي من المغرب.