برهان هلّاك


 
* هذا النص هو تحية لروح صديقي محمد الكمالي الهادئة اللطيفة، والذي ركب بحرا عاتيا هربا من جحيم فكرة الوطن وضيقها نحو الإنسانوية الأوروبية، على علّاتها! * 

إن البحر، بوصفه مسطّحا مائيا، واحد ثابت الماهية غير متعدد إلا من جهة امتداده الجغرافي. لنجد على سبيل المثال البحر الأبيض المتوسّط، الذي تطلّ عليه السواحل التونسية على امتداد 1300 كيلومتر. وإن هذه الكيلومترات الألف والثلاثمائة قد عاينت من التراجيديا بقدر يضاهي تراجيديا أساطير سواحل الإغريق. كما كانت مسرحا كبيرا لآمال وآلام وتطلعات طفولية بسيطة في التنظير، لا تبالي بأي تعقيدات قانونية أو عقبات لوجستية قد تتضمنها عملية الإبحار غير الشرعية أو " الحرقة "، كما نسميها نحن في تونس.

إلا أن نفس هذا البحر يكون متعددا من جهة زوايا النظر إليه. فبالنسبة لي مثلا، لطالما اعتبرت البحر من أعظم الخلّان الحقيقيّين للإنسان: إمّا أن يحثّك على الانبثاق كوجود حرّ، وإمّا أن يغريك بالبحث عن الدّفء في منتصف شتاءات مدن الغيب المعمّم، إذ أنّ للشواطئ والأنهار وظيفة جنسيّة يستحضر فيها الحالم الأنثى حول ضفاف ماء قطع إبيستيمولوجيّا مع خصائصه الأحيائية من حيث انعدام الرّائحة إذ صار مختلطا بروائح الغبطة والرغبة، كما يزعم " غاستون باشلار ". وإمّا أن يتحسّس فيك تبرّما بالوجود فيبتلعك في سكون دون أيّما اعتبار لمشاعر الأسى عليك. فهو يتعالى على رثاء محدود الغيريّة يبكي فيه الإنسانُ الإنسانَ، لا لفقده وإنّما لخوفه ممّا قد يلحق به عند غياب ذاك الغير، وذلك مبحث آخر في إيتيقا الموت والسّعادة.

ولكن، مثل هذا الاهتمام بالبحر لا يشاركه معي العازمون على الحرقة، بل لا أظن أن غير العازمين يتشاركونه معي أصلا. ولذلك تداعبني الرغبة في النظر إلى ركوب هذا البحر في قوارب متهالكة من فرط ثقل الأجساد المتراصة فوقها وثقل الأحلام الوردية، التي تحملها تلك الأجساد، حتى وإن كانت على درجة الصفر من الرقي وغارقة في مادية حسية غير عابئة بما تمثله أوروبا – الأرض  المقصد شمال الماء من قيم التنوير والعلمانية والحداثة، التي كسرت الوصاية على العقل والجسد، أو حتى نبيذها العذب وماء الحياة الزلال وشوارعها النظيفة والمِبْوَلَات المزخرفة بشكل بديع في الشوارع الفرنسية المصنوعة لحماية المباني من أخطار البول!

طالعني في المدة الفارطة خبر مهيب يحدث زعزعة، لم يعد حدوثها بالأمر الهين منذ سنوات ببلدنا. فلقد وصل 170 قاصرا إلى السواحل الإيطالية موفّى الأسبوع الأول من شهر جويلية عبر رحلات هجرة غير نظامية حملت 418 تونسيا إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط. كما أنّ هجرة القُصّر باتت تشكّل ظاهرة ملفتة، حيث تمكّن 2962 مهاجرا غير نظامي من الوصول إلى إيطاليا في ظرف ستة أشهر، بينهم 700 قاصر. فضلا عن تمكّن 200 قاصر من مجموع 601 مهاجر غير نظامي من الوصول إلى إيطاليا خلال شهر مايو الماضي، حسب ما صرّح به الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر يوم الأربعاء 7 جويلية 2021.
 
وباعتبار أنني لست من هواة الاختزالية السمجة في النظر إلى مسألة الخواء الإيماني العظيم بالوطن عند هؤلاء، الذين لم تتجاوز أعمارهم السبع عشرة سنة. ولست ممن يرجعون الظاهرة- بدافع كسل فكري وترّهات غير مقنعة- إلى أسباب اجتماعية واقتصادية و سياسية تمثل قاسما مشتركا بين أغلب المهاجرين (على الرغم من أهمية هذه الخلفيات!). كما لا ألقي بالا إلى بعض الأسباب الخاصة بالأطفال، أهمها الانقطاع المبكر عن الدراسة، وذلك لأسباب ذاتية جدا تتعلق بالمنحى الذي ستسير فيه محاولة الكتابة هذه. فإنني   سأحاول تجيير هذا النص لخدمة التعبير عن يأس عميق من فكرة الوطن والوطنية. وذلك على لسان أحد هؤلاء الأطفال، بواسطة تخييل تام لا يورد ما قاله أحدهم. بل ما سأقوّله إياه بلغتي، وليسامحني هذا الطيف ممن نشاركه هذا البلد إذ أقول عبره ما يعتمر بذاتي أيضا.

يقترب هذا الطفل من حجرتين فيصففهما فوق بعضهما مهيّئا بذلك مكانا للجلوس. ويجلس في تؤدة تشي بعمر افتراضي ناهز الستين. ويشبك يديه ببعضهما، وهو مطأطئ الرأس. ثم ينظر إلى أعلى في غفلة شاخصا بصره صوب ممرّ ضيق بين بنايتين يطل من ورائهما البحر، ويقول

ليس هذا الوطن مبغى، كما يتساءل مظفّر النوّاب. ففي المبغى ما يدعو للحبور، وذاك معلوم لدى كل من ارتاد تلك الأماكن. وليس هذا "الوطن" مجرى صرف صحي نتن، أيضا، فذاك موطن للحشرات، التي إن كان لديها حسّ انتماء وفخر بالهوية- وهو ما لا يستبعده كافكا- فهي ستكون حتما فخورة به، إذ يتوفّر فيه الحد الأدنى من السعادة الحسيّة على الأقلّ .وليس هذا "الوطن" كذلك حاوية قمامة. ففي القمامة فوائد جمّة، وهي تمتاز عن هذا "الوطن" بقابليتها لإعادة التّدوير، ومن ثمة الإفادة في مواقع أخرى. وليس هذا "الوطن" حتّى رقاقة "خري" في دبر خنفساء روث. فهذه الأخيرة تدحرج روثها أمامها في اقتناع تامّ بأن لها حاجة بذاك الروث، على عكس الكثير منّا في ما يتعلّق بهذا الوطن.. لا أعلم بالضبط ماهيّة هذا  الوطن. ولكن المؤكد في الأمر أنه لا يجب أن يتجاوز مجرد كونه مصدرا للحنين إلى بعض التفاصيل الحميمية فيه. وليس ذلك إلا لأن الحنين وليد الأحداث والأزمنة، التي تستلزم بدورها مكانا فقط، أي أن المكان معطى فُرض لأسباب منطقيّة، لا غير. بالإضافة إلى كونه ماكينة جبّارة للقضاء على كل الأحلام. ففيه أجهزة وأفراد ورؤى وسياقات وخلفيّات وثقافات قائمة على العدم!

ليس المؤلم أن تعيش في وطن لا تحلم إلا بالخروج منه، كما يحلو لبعض السطحيين القول. بل الأشدّ إيلاما أن تعيش في وطن تتلذذ فيه بإطفاء سجائرك على أرضه، علّ أرضه تحسّ ببعض ما يحرقك فيه.

الوطنيّة، في اعتقادي، تربية موضوعيّة ولا تمتّ للذات بشيء في أزمنة العولمة العنيفة. أنت لن تكون وطنيا إلّا إذا غادرت هذه الأوطان، فعندئذ فقط تدرك أن النجاح نقيض البقاء في تلك الرّبوع وأنّ النجاح، كما قطع الغيار وقراراتنا السياديّة، يُصنع خارج أوطاننا، وأنّنا أسخياء بشكل مبالغ فيه في توفير أسباب الفشل. عندئذ تتعلّم أن تلعن الوطنيّة لأسباب موضوعيّة في بيئة حاضنة للفشل و الخواء، وتتمنّى أن تهاجر حتّى تعود وطنيّا، كما يعود علية القوم ليحكمونا بدافع من "غيرة على الوطن" (ويسخرون منّا إذ لا يوضّحون إن كانت الغيرة شعورا قوميّا صادقا أم تلك التي يُلصق بها النجّار قطع اللّوح في ورشته كما يُلصق هذا الشّعب أزمنة اغترابه ومآسيه بالأمل في الخلاص).

إن هذا الوطن يخيفني، بل إنه يرعبني بسبب ما أضحى يُمرّر لنا في النشرات الإخبارية من اعتداء على طفولة مفترضة لنا على أرضه. فعندما يدافع قاصر عن نفسه إزاء محاولة الاعتداء عليه جنسيا من قبل "إطار أمني سامٍ"  يصبح بدفاعه المشروع ذاك متهما يحال على قضاء بلدنا بتهمة الاعتداء على من عقد العزم على الاعتداء عليه. إن ذلك يملؤني إحساسا بالفزع والعجز الناتج عن صعوبة الاختيار بين الانقياد وراء نزوة المعتدي ضمانا للسلامة القانونية وبين المنافحة عن السلامة الجسدية غير آبه بالتبعات القانونية .. أي اختيار هذا، الذي توفّره لي يا وطني!
 
لسنا، نحن الحراقة، مهزومين ولا هاربين. بل آثرنا ألا نكون شهودا على موت بلاد لا قيامة مرتقبة لها. ولم نرتض لأنفسنا أن نظل معطيات غير مبوّبة في متاهة المعلوماتية للمنظومة الوطنية. ولم نرد أن تتقاذفنا الحكومات الهجينة الناتجة عن تزاوج مصالح الحاكمين بأمر الله والملّاك القدم للدولة وإدارتهم المتوحّشة، التي احترفت "صناعة الجوع " بعبارة جوزيف كولنز وفرانسيس مور. نحن لا نريد تعويضا من الدولة، ولا تعويضا أخرويا بجنّات موعودة. نحن نريد المغادرة فحسب، فهل هذا من باب الشّطط في الطّلب؟!

بهذا السؤال الاستنكاري يختم الشاب، وأختم من وراءه الحديث، ليقف على إثرها بمثل حزم الهبات الشعبية في بوليفيا، وليواجه علم البلاد المرفرف فوق أحد مراكز الإحاطة بالشباب القريبة بإصبع مرفوع، وهو غير الإصبع الذي يتمّ تغميسه في علبة الحبر الانتخابي. ثم يتوجة نحو البحر .. وذاك هو البحر لمن أدمن التواجد بقربه. إنه يجذبك، كما تجذب النار حشرة العتّة، علما أنها تحترق بنارها في الأخير.