سيكون على علماء النفس والإجتماع أن يبحثوا طويلا عن سر هذا الحب منقطع النظير الذي تكنه الأغلبية الساحقة من المصريين ، ومعهم ملايين العرب ، للفريق أول عبد الفتاح السيسي ، و سيكون على غير  العرب وخاصة ومن الغربيين أن يتأملوا الحقيقة التي قد تغيب عنه ،وهي  هدير العاطفة لدى الإنسان العربي ، وبحثه المستمر عن الرمز والمثل الأعلى والعنوان ، وعن الأب الحاني والحادب في قوة ، والمقتدر الذي يكبر في عيون أبنائه كلما واجه الحوادث الجسام بالقرار الحاسم في اللحظة الحاسمة .

وحب المصريين وولاؤهم للسيسي قد يكون نابعا من تعلق تاريخي بالمؤسسة العسكرية منذ الفراعنة ، مرورا بعنفوان المشروع النهضوي لمحمد علي ، ووصولا الى المشروع الناصري الذي إنبنى على أسس السيادة الوطنية وإستقلالية القرار والعدالة الإجتماعية والقومية العربية ، ولكن حتما هناك شعور وطني جارف بالإنتماء وجدوه يتجسد في شخصية السياسي وهناك بحث طال عن الشخصية الكاريزمية ذات الحضور الملهم ، ظهرت في السيسي ، وهناك خصوصية مصرية يمثّلها السيسي .

ولقد أخطأ الإخوان عندما إعتقدوا أنهم سيقودون مصر من خارجها ، أو عندما سيخضعونها للقرار الخارجي مهما كانت مرجعيته ،حتى ولو كانت مرجعية دينية ، فالمصريون ، تربوا على أن بلادهم قلب العروبة ونبضها ،وأن مصر أم الدنيا ، ولا يجوز أن تكون تابعة لأي طرف خارجي مهما كان حجمه ، وعندما جاء الإخوان ، وإنفضح مشروعهم الإقليمي والدولي ، وإرتباطاتهم الخارجية بتركيا وقطر ، وتعاملهم الواضح مع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ، وإنشدادهم الى  فكرة التحالف مع إيران ، وإستعدادهم للتخلي عن جزء من سيناء لفائدة دولة حماس المرجوّة ، وعن حلايب وشلاتين لفائدة السودان ، وعندما خرج من يتحدث عن دولة الخلافة وعاصمتها القدس ( وليس القاهرة )، وعندما حاول الإخوان تجيير الجيش المصري والمخابرات العامة لخدمة مشروع الجماعة ، وعندما برزت محاولة التفريق بين  عنصرين المجتمع المسلم والمسيحي ، وإنكشفت عداوة الإخوان لمؤسسات الأزهر والكنيسة والقضاء والجيش والشرطة والمخابرات والثقافة والإعلام ، كانت ثورة الثلاثين من يونيو الماضي التي إعتبرها المراقبون أكبر هبّة شعبية في تاريخ البشرية ، وتلتها هبّة التفويض الشعبي للجيش والشرطة بمقاومة الإرهاب ،إعلانا عن تدشين مرحلة جديدة عنوانها السيادة والإنتعاش  فالمصريون لم يثورا بسبب الفقر ، رغم الفقر  ، ولم يثوروا بسبب الجوع رغم الجوع  ، ولم يثوروا بسبب الفساد رغم الفساد  ، ولكنهم ثاروا دفاعا عن الكرامة الوطنية وعن إستقلالية القرار الوطني ، ووجدوا في عبد الفتاح السيسي عنوانا ورمزا للكرامة والإستقلالية ، الرجل الذي  لم يستشر واشنطن ولا لندن ولا باريس قبل أن ينحاز لثورة الثلاثين من يونيو ، ولم يخضع للتهديدات المباشرة وغير المباشرة ، ولم يهادن الإرهاب ، ولم يستسلم لنعيق غربان الطابور الخامس .

والسيسي عندما إنحاز لمصر والمصريين ، إنما إنحاز لتاريخ المؤسسة العسكرية العريقة التي كانت دائما صاحبة الأيادي البيضاء على الشعب ، وصاحبة التأثير الإيجابي في كل المجالات ، والمتكونة أساسا من أبناء الفلاحين والفقراء وهم أكثرية الشعب  ، وإنحاز لشعور في أعماق أغلبية المصريين ، شعور جارف بضرورة الخروج من جلباب التبعية لأي طرف خارجي ، ومواجهة ادعياء الدين بالإيمان الراسخ في ذوات المصريين مسلمين والمسيحيين ، ورفض أن يدفع بأبناء الجيش ليكونوا وقود حروب الإخوان ومشروعهم الذي يتجاوز حدود الدول .

من هنا ، أدرك المصريون أن هذا الفارس الأسمر ، يمكن أن يكون أبنا للكبير ، وأبا للأجيال القادمة ،وأخا للجميع ، وأن يعيد لمصر بريقها وجمالها وأناقتها ، وأن يحبط كل محاولات الإطاحة بدور مصر الحضاري في المنطقة ، وأن يعيد القاهرة الى قرارها المستقل والى موقعها في قلب أمتها ، وفى القارة الإفريقية ،وبين عواصم الدول الساعية لتكريس قيم المحبة والعدل والسلام .

ووجد المصريون في عبد الفتاح السياسي القائد والزعيم ذا الكاريزما والتأثير العاطفي الإيجابي ، والرمز الذي يريدون أن  يخرجهم من ظلمات الإخوان الى نور العصر والى طموحات المستقبل ، وأن يوفّر لهم الأمان ، وخيره الأمان النفسي من خلال الإحساس بوجود حاكم قوي ، يستطيع أن فرض مكانة مصرالحقيقية في قلب الزمان والمكان .

إن الديقراطية الغربية قد تكون وسيلة مجدية في الصراع السياسي والتداول السلمي على الحكم ، ولكنها في أحايين كثيرة تطيح بإرادة الشعوب وتخضعها لسلطان المال والإعلام والمصالح الخارجية التي لا تكف عن تحريك جماعاتها ولوبياتها في الداخل ، والديمقراطية الغربية قد تكون حلا ، ولكنها قد تكون مشكلا في ظل إتساع دائرة الأمية  والفقر والحاجة ، حيث تتحول المجتمعات الى مخابر لتجارب القوى الخارجية ، وحيث تتمثّل الليبيرالية الإقتصادية المفروضة في أعلى مستوياتها مما يزيد الفقير فقرا والثري ثراء ، ويضع مقدرات الدول في المزاد العلني ، وهذا ما أدركه الشعب المصري ، الذي كادت  فترة حكم الإخوان أن تعصف به دولة ومجتمعا وتاريخا ودورا ومستقبلا ، فإختار أن يربط الديمقراطية بالعاطفة والثقافة المحلية وروحية الحضارة الخالدة ،وأن يأخذ من الغرب ما يلائم ثقافته ،وأن يحافظ من روح الشرق على ذلك التعلق الإسطوري بالأب والرمز والزعيم ، فوجد في السيسي عنوان مرحلته القادمة لضمان الأمان في ظل المثل الأعلى .