برهان هلّاك

يمكن تمثل مفهوم الديكرانوي باعتباره الانسان ذي الرؤوس المتعددة و المتضادة و ذات الفكر و التفكّر الفاسد مضمونيا و المعطوب إجرائيا و المبتذل شكليا. و يسكن الديكرانوي عالم الظلال و الأوهام البارد و الموحش، و لا يظفر، طالما لم يتوفر على إرادة حقيقية في التنوير، بنور التعقل و التفكيك و التبصر أبدا، فيما يشاكل قاطنة الكهف الأفلاطوني في أمثولته الشهيرة

و أما عالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لوبون فيسمي هذا الرهط من البشر لفيفا متجمهرا، معتبرا أنه يشارك القطعان الحيوانية سمات متعددة من أهمام الاندفاع غير العقلاني وراء الأشياء و الهتافات، و انعدام التفكير و الانسياق وراء الأهواء متى كانت مغلفة بشعارات لها ثوب بلاغة أنيق و دواخل مضمونية هزيلة.

و أما عن ابن رشد، فقد أسماهم " سفلة الداصة و الدهماء " و اعتبرهم شرا أعظم، بل و حارب إقحامهم لأنوفهم " المفلطحة و الدنيئة " في شؤون الخاصة، حتى انتهى به الأمر جثة يجوب بها حمار الآفاق، و ذلك ما جناه عليه غضب و شرّ العامة

و أما في تونس، فلم يبارح شر العوام " القابلين للبرمجة " مقام الخطر الداهم. لقد إستحال الكثير منهم مصائب فادحة على العقلاء، و إلا فما الذي يجعل من بعضنا كمائن لاهوتيّة تعلنها قيامة على كلّ ماهو مغاير؟ و ما الذي يصيّرنا كوارث أخلاقيّة على كلّ ممكن إنسانيّ فينا فنركن إلى الفساد و الإفساد حدّ الإستخفاف بأقدس المقدّسات ألا و هو الإنسان؟! كما لم يعد للفيف المتجمهر التونسي من مشترك " قيميّ " إلّا الإنحطاط و التّواضع حول اللّامبالاة، لا بوصفها صفة من صفات الأمل، بل بوصفها دليلا يفضح الإنسانية المتقهقرة و الركون إلى مهادنة القبح الذي صرنا نتفنّن في إظهار جماليّته في خطاب عنيف ضمنيّا و منمّق ظاهريّا.

و إننا إذا ما ملنا لتفكيك بعض أوجه التضارب المرضي بين مختلف رؤوس هذا " الديكرانوي التونسي "، فإننا سنجد أنه

رافض للمصالحة مع السارقين و من نهبوا المالية العمومية و لكنه غير ذي سعي لكشف حقيقة هذا النهب و غير ذي تصور لمآلات عملية المصالحة : 

طالعنا الرئيس قيس سعيد متحدثا عن حجم سرقات المال العام بتونس ( و هو يلقي بالأرقام كأنما يؤجج لهيب الديكرانوي الذي يعيش في عوالم الرقم المنزوع من أي تفسير و الملقى دونما أي سياق توضيحي ). و لكن السواد الأعظم التونسي لا يدري، بل لعله ليس له أي رغبة في الدراية أصلا، بأن فعل المصالحة بين طرفين يتطلّب معطيين قبلييّن و هما وعي الطرّف المهضوم حقّه بأنّه كان موضوعا للعنف و إنتهاك الحقوق الإقتصاديّة و الماليّة، و سعي المُنْتَهكِ إلى التكفير عن ذنبه عبر الإعتراف العلنيّ و تكريس مبدأ النّدم لا بإعتباره مفهوما أخلاقيّا بل مفهوما ثقافيا كما أسّس لذلك سبينوزا؛ و بالمحصّلة يضحي فعل المصالحة أرضية ملائمة للتأسيس المواطني على قاعدة التساوي أمام القانون. و بعدم توافر هذين المعطيين القبليّين، و تلك هي الحال هنا، فسيصبح أيّ مسعى للمصالحة خاليا من أيّ معنى، بل و قائما بشكل مفتضح على نزعات إنتهازية و خاضعا لرؤى سياسويّة مبتذلة.

 *خاضع لخطابات السلطة المتهافتة أصلا و التي تقولبه كيفما شاءت: فعندما يتحدّث " صاحب السلطة " ( بغض النظر عن خلفيته و توجهاته و تموضعه في التاريخ السياسي للبلاد التونسية ) عن الحقّ في الإختلاف، مثلا، فإنة يقصد في الحقيقة رغبته في أن يحلّ الخلاف بلا معنى و لا مبرّر، و ذلك حتّى يلتهي به الدّاصّة و بعض المدّعين من الخاصّة الذين يتسمون بالانفعالية و الذين تستبد بهم أنفسهم الغضبيّة و الشهويّة. و تنقسم " نخب " هذا اللفيف المتجمهر إلى قسمين؛ أوّلهما المولعون بالميتافيزيقا و الشغوفون بما ورائيات السياسة و النوايا الطيبة للحاكمين بأمر الله (سابقا). و هم ذاتهم من اعتبروا حركات الرفض و الاحتجاج خروجا عن الحاكم محرما شرعا و ألصقوا تهم الزندقة و الهرطقة و الكفر و عداء الإسلام لكل رافض للانصياع لأفكارهم البالية و الضيقة و ذات مدلولات الاستغلال و الاستعباد. و هم ذاتهم من مرجوا تعاليم كتاب سمته القداسة بفعل يومي سمته السياسة، و استثمروا في الجهل المقدّس بتوظيف المشاعر الدينيّة لنشر المغالطات و إكساب الجهل المعرفيّ غلافا دينيّا مقدّسا. و إن هذا الصنف لهو مسؤول عن كل الخيبات و الانتكاسات و أي تعطل محتمل للمسار التحرري لما بعد 14 جانفي 2011 بتونس.

و أما القسم الثاني فيشغله المهووسون بفانتازمات النقاء الأخلاقويّ و التصوّر المثاليّ، غير البشريّ بالضرورة، للسياسة و الحكم ممّن يدّعون حسن قراءتهم لمشروع الدكتور " هشام جعيّط " (و هو الذي يعلن أنّ " السياسة شرّ كلّها فهي الخديعة و المؤامرة و المكيدة .( 

إن هذين الفريقين هما من مارسا، و يمارسان حتى اليوم، أعتى أنواع التضليل، فهم يمجّدون الحقّ في الإختلاف بينما ينطوي إيمانهم ذلك على مغالطة مفادها أن إختلافهم هو من أجل الإختلاف في حدّ ذاته، و أن اختلافهم يقتصر على كيفيات التذيل و الخضوع و الاقتناع القائم على الرهبة و الافتتان بصور و خطابات الزعامات. و إن حدث و أن إختلف معهم، الصحفي التونسي هيثم المكي على سبيل المثال،  فإنه سيضحي خائنا و عميلا و ذا أجندات مشبوهة و مرتزقا و هلمّ جرّا و رفعا و نصبًا من تلك الملصقات الجاهزة شديدة الرداءة و الفقر اللغوي.

إنك عندما تنبري لنقدهم و فضح ممارساتهم القائمة على المغالطة ضدّ الحق في الإختلاف إنّما أنت لفاضح لما يصدرون عنه من منطلقات قيمية و إيتيقية مفترضة في دفاعهم عن الحقّ، و إنما أنت لمشير إلى جوهر الحق في الاختلاف، الذين يجب عليهم بالفعل الدفاع عنه، أي مجمل تلك المبادئ التأسيسيّة لهذا الحق من قبيل الإدارة السلمية الديمقراطيّة الأخلاقيّة للصراع، عوض الإتهام و التلفيق و تبييض الزعامات و خطاباتها و تنزيهها عن الغلط.

و يقول الصحفي و الأنثروبولوجي التونسي، محمد بالطيّب، بأن الحشود لم تصنع يوما التاريخ، و إن التاريخ تصنعه النخب والمعرفة والعباقرة والعلماء. كما أن المراهنة على الحشود والجماهير كانت دائمًا رهانات فاشلة، طال الزمان أو قصر،  إذا ما لم تكن مؤسسة على فكر نخب، و فكرة صلبة عقلانية مسنودة بمراكمات الحكمة و التجربة و الخلاصات العلميّة. و إن العواطف الهادرة و الشعارات و الصراخ و الحماس و اللّغو الفضفاض لم يفض إلى أي نتائج معقولة و مأمولة. و لذلك فإن أي مراهنة على ما اصطلحنا على تسميته بالديكرانوي التونسي، أي هذا الجسم المتضاد و المتضارب و غير راجح العقل، لهي من الخطورة بمكان. و إن الأمر يزداد سوءًا في وضع تونسي دقيق و خطير جدا تبرز فيه معضلات هيكلية عميقة يستشكل في ظلها إمكانية الإصلاح عبر عملية تغيير ديمقراطي شاقة، أو تصحيح مسار مفترض يهدف لتجنّب سيناريوهات فوضى معمّمة.

و يجدر القول في الأخير بأن البقر قد تشابه علينا، و ذلك من جهة أن نفس " نخب " هذا اللفيف المتجمهر هي التي تتناحر فيما بينها على احتكار مشروعيات خطابية سواء بتبني مقولات الإسلام السياسي و فتاواه أو باحتكار مشروعية محاربة هذا الخطاب السياسي الديني. و إننا إذا ما قررنا تعرية و تفكيك هذه الخطابات فسنجد أنّ لها ما يجمعها أكثر ممّا يفرّقها؛ يقول الصحفي و الأكاديمي التونسي مختار الخلفاوي بأن هؤلاء هم من حاربوا الإرهاب في الجبل و هادنوه في السهل بالأمس، و هم نفس الأشخاص/المنظومة التي تعادي الإسلام السياسي في الهتافات و الشعارات وتتعايش معه في منظومة التشريعات والممارسات اليوم.