برهان هلاك

كتب الدكتور رضا بوكراع تدوينة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك كان موضوعها قراءة لحركة الرئيس التونسي قيس سعيد ليلة 25 جولية 2021، بما أنه يعتبر أن ما أتاه قيس سعيد من فعل هو متعالٍ عن القانون و الدستور و وظيفيّتهما في التعاقد السياسي بين مختلف الأطراف بعد المصادقة على الدستور التونسي في جانفي 2014. و الدكتور رضا بوكراع هو عالم إجتماع تونسي و أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس. و قد التحق بهذه الجامعة بعد مناقشة أطروحته في علم الاجتماع في جامعة السوربون بباريس، ليترأس قسم علم الاجتماع بالكلية ثم منصب عميدها إثر ذلك.

و بحكم أن المنشور قد أتى بلسان فرنسي، فسنقدّم ترجمة لهذه التدوينة التي أتت بعنوان " قراءة سبينوزية لبادرة قيس سعيد ".

يورد الدكتور رضا بوكراع إقرار حازما في مطلع منشوره مفاده أنّ ما قام به قيس سعيّد هو فعل فوق ـ قانوني و فوق ـ دستوري و فوق ـ وظيفي، في تدلال على أنّ الأمر برمّته هو ترجمان لمسألة حقيقة وجود الشعب أكثر منه لمسألة صدقيّة جوهر القانون في حدّ ذاته. و يسرد إثر ذلك جوانب من التفاعل الإعلامي مع ما حدث ليلة 25 جويلية 2021، ليقول بأنّ مبعوث صحيفة " لوموند " كان قد وصف حركة الرئيس سعيّد بأنها انقلاب، مشيرا إلى عدم اعتراضه على هذا التوصيف بالقول بأنّ ما جرى هو ذاك بالفعل. و لكن الدكتور بوكراع يستدرك ليؤكد على أنّ كل ما جرى لا يمكن حصره في الدلالات السياسية و المؤسساتية للانقلاب، إذ يعتبر أن مجريات الأمور قد مثّلت انقلابا معرفيا و مفاهيميّا؛ يقول في هذا الصدد أنّ فعل الرئيس في تلك الليلة قد مثّل، إجرائيا، ثورة كوبرنيكية على القوانين المصوغة و المصادق عليها و المعمول بها في البلاد منذ سنوات. (و الثورة الكوبرنيكية تأتي نسبة إلى الراهب وعالم الرياضيات و الفيلسوف والفلكي البولندي، نيكولاس كوبرنيكوس، الذي أحدث ثورة فلكية بصياغته لنظرية مركزية الشمس و اعتبار الأرض جرما يدور حول الشمس و أنها ليست مركزا للكون كما شاع الاعتقاد). الأمر متروك، في هذا المستوى، للمجتمع للتوافق مع جوهر القانون، إذ يجب على هذا المجتمع أن يدرك كنه الديمقراطية في مواجهة خطر الزوال. و إن البرلمان لهو أساس ثابت في جوهر الديمقراطية و بالتالي يجب أن تتم موضعته في مجال التقديس و المقدّس، بل و يجب أن يخضع له المجتمع. و يستأنف الدكتور بوكراع تبيان الجذور العميقة لإضفاء القدسية على وجود البرلمان، إذ يقول بأن هذه المواضعة لهي ضاربة بجذورها عميقا في العصور القديمة (منذ شيشرون)، و في عهود المسيحية ( و بالأخص فيما يتعلق بفلسفة و تعاليم الراهب و الفيلسوف المسيحي توماس الأكويني) و الذي يمثل رافدا قديما لتيار " الوضعية الحديثة " التي تدعو إلى إخضاع المجتمع للقانون العقلاني الذي صاغه فقهاء متخصّصون، أي أولئك الذين أضحوا " كهنة معاصرين " يقبضون على جوهر القانون و يتحكمون فيه و يطوعونه ( في إشارة لتيار الفقهاء الشكلانيين الذين عارضوا حركة 25 جويلية 2021 و اعتبروها انقلابا غير قانوني و ندّدوا بما اعتبروه ليّ عنق النص الدستوري و بعض فصوله في تأويل وسموه بغير المصيب بالمرّة).

و يواصل الدكتور رضا بوكراع، بلغة فلسفية متينة و رصينة، وصولا إلى وظيفية القانون في تجسيد العقل، فيقول بأن هذا القانون يتنزّل في إطار  عقلنة اجتماع بشري غير معقلن. إلا أنّ هذا الوضع قد يفضي إلى إشتغال متوازٍ و منفصل للقانون والمجتمع؛ فقد عاشت تونس، على مدى عشر سنوات، هذا الوضع الشاذ الذي تعتمد فيه شرعية السلطة على مفهوم الحق أكثر من اعتمادها على الوازع الشعبي. و قد كانت بذلك هذه السلطة قانونية ولكنها لم تكن شرعية، ليهدف انقلاب قيس سعيد إلى استعادة شرعيتها من خلال انتهاك قانونيتها. و يجدر الذكر بأن هذا التصور يجد رافدا له في أفكار الدكتور بوكراع التي طالما صاغها، و نذكر في هذا الخصوص ما خطه في مقال صادر بموقع " التونسيون " بتاريخ 27 أفريل 2020 بعنوان " اللحظة الشعبويّة واللحظة الديمقراطية في عالمنا اليوم "، يقول فيه أنّ الدولة تجسّم العقل الذي يتحرر من قيود الدين ويتجسد في الحرية. و إن هذا المسار التاريخي يعمل في أعماق المجتمع، كما تعمل القوى البركانية في جوف الأرض. واللحظة التاريخية مثلها كمثل البركان تشكل في بروزها على سطح الفضاء ـ الزمن تعبيرة متأججة لِلغليان الباطني الفاعل في أعماق المجتمعات، و اللحظة التاريخية هي انفجار الحدث الذي يتحول إلى عنوان للمنعرج الجذري لديناميكية التاريخ.

و يقلب قيس سعيد الموقف بإخضاع جوهر القانون لوجود المجتمع. و من هذا المنطلق، فإنه من الضروري أن يكون المجتمع هو من يتحتّم عليه أن يعيد اختراع القانون و يطوّع جوهره خدمة لوجوده، و لا يجب أن يجيّر جوهر القانون المجتمع لخدمة وجوده و استمراريته. و لأن فعل قيس سعيد يتجاوزه، فإن القانون لا يستطيع أن يواصل وظيفته ويتمثل، و يستوعب، الثورة الكوبرنيكية التي حدثت للتوّ. و بذلك يعيد قيس سعيد الاتصال بجوهر الشعب و الوازع الشعبي كأساس للفعل السياسي و في إطار تسيير مؤسسات الدولة، مدفوعا برغبته في تجسيد غريزة الحياة و إرادة الشعب في الوجود و الاستمرار

و لكن يستدرك الدكتور بوكراع فيقول بأنه، و على الرغم من كل ما تقدّم شرحه، فإن قيس سعيد، ككائن و وجود ذاتي بشري، يظل محترما للقانون؛ فهو يحرّر نفسه من القيود الاقتصادية ليضحي حبيس القانون. و يفاجئ عالم الاجتماع القارئ بإعلان مهيب مفاده موت الدستور التونسي لسنة 2014، و أن قيس سعيد لا يجرؤ على دفنه، بل و يستمرّ في التملص من التصرف في جثته. و هذا هو السبب في أن قيس سعيد لا يمكن أن يكون زعيما شعبويا راديكاليا. إذ أنه، و لكي يصبح كذلك، فإنه يتحتم عليه أن يجسّد الشعب في التحام مطبق بشكل جذري و أن يتحدث القانون نيابة عنهم بينما يكونون هم، بما هم مصدر القوانين، صامتين.

و في عودة بالزمن على حدث انتخاب الرئيس التونسي قيس سعيد في الإنتخابات الرئاسية لسنة 2019، يقول الدكتور بوكراع بأن هذا الحدث قد مثّل انعطافة بالسياسة و الحكم في تونس نحو الشعبوية؛ فرئيس الجمهورية غير متحزب، بل و رافض للأحزاب و للديمقراطية التمثيلية، ولم يخف مناداته بديمقراطية مباشرة تنطلق من القاعدة المحلية لتصل إلى قمة الدولة، و ليبقى مرجعها الأوحد الشعب.

و قد نشأت بعد ثورة  14 جانفي 2011 في تونس ديمقراطية تمثيلية مريضة و مشلولة، عاجزة على إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها و التي تفاقمت بعد الثورة. فالديمقراطية لا تقتصر و لا تُختزل في الانتخابات و حريّة الصحافة و التعبير، فهي إذا كانت فاقدة لفعالية الانجاز فإنها ستخلق بالضرورة " قائدا شعبويّا "،أي أنه مُنتَخبٌ لا لأدائه بل عقابا للطبقة الحاكمة العاجزة والمطعون في نزاهتها و صدقها. و من هذا المنطلق، فإن أزمة الديمقراطية التمثيلية، التي يعتبرها الدكتور بوكراع زائفة، هي التي خلقت إمكانا قبليّا لبروز " حراك مطالبة بالديمقراطية الحق " حسب تعبيره، و الذي تبناه و تماهى معه الرئيس قيس سعيد و كانت تدابير ليلة 25 جويلية 2021 ترجمانا له.