لم أكن مطلقا أستغرب ما نراه في ليبيا من تجاذبات سياسية أو مناكافات وصل الحد الأعلى فيها إلى المطالبة بإسقاط المؤتمر الوطني العام الجسم الأكثر شرعية في تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر إذ تأسس المؤتمر بعد عملية انتخابية لم يتم الطعن في شفافيتها وسلامة إرادة من اختار أن يشارك فيها من المواطنين.

غير أن بوادر التنازع سرعان ما تسارعت ساعات بعد بدء ظهور النتائج الأولية لانتخابات 7 يوليو 2012 عندما خرجت عدد من القنوات الإعلامية المؤيدة أو المملوكة من الاتجاه غير الإسلامي لتكتب بـ “البنط العريض” عن فوز ساحق لليبراليين على الإسلاميين شاركت فيه حتى قناة العربية غير الليبية وخرج عدد من المنظرين للاتجاه الليبرالي في ليبيا وعدد من النخبة المنتمية إليه على الشاشات تحاول أن تفسر “الانتصار الساحق” منوهة أثناء ذلك على اختلاف التجربة الليبية عن المصرية والتونسية.

هذا الأمر يظهر مستوى الإرادة لدى تلك القوى في الالتزام بإظهار المعركة على أنها صراع فكري خاصة إذا علمنا أن أكثر من ينظر ويتحدث عن الليبرالية اليوم في ليبيا كانوا من الشيوعيين الذين عمل بعضهم في تنظيمات شيوعية فلسطينية راديكالية متهمة بتنفيذ عديد العمليات “الإرهابية” رغم تلك الشخصيات الليبية تهاجم اليوم الإرهاب وترمي به كل من يختلف معها لكن بعد سقوط جدران برلين وانتهاء الحرب الباردة ولوجودهم في الغرب الرأسمالي انتقلوا نحو الانتماء إلى الليبرالية مع الاحتفاظ بفكرة الصراع الطبقي الصفري التي تشكل أحد أهم أسس الفكر الاجتماعي والسياسي لدى الشيوعية (لست هنا بصدد إصدار أحكام على الأديولوجيات بقد ما أحاول ترسم المشهد من جهة منطلقاته الفكرية).

ولقد كنت ممن تحدث مبكرا في شهر أبريل 2011 على أهمية بناء العملية السياسية في ليبيا على المنطق الليبي الداخلي الذي كان يشكل حالة من الفطرة والبكورية إذا ما استثنينا جزئيا قيادات اللجان الثورية ومكتب الاتصال فإن ثورة الليبيين كان مبهرة بل وملهمة للكثيرين حول العالم حتى جعلها أقرب لوضع استثنائي إلان أن تصريحات وكتابات مليئة بالأيدولوجيا قالها وكتبها شخصيات لا يخطئ أحد في نسبتها إلى الاتجاه الليبرالي حاليا والشيوعي سابقا قد حملت مبكرا وظيفة تنميط الأحكام ضد الإسلاميين بحيث تم جمعهم في سلة واحدة ووصفهم بالتطرف ثم الإرهاب مما أعطى شعورا بصعوبة تصور أن تنتصر الطبيعة الليبية التي تأثرت بنشأتها المحلية (رغم تشوهات عميقة فيها من جهة مفهوم الدولة والقانون) على تلك الأفكار التي نرى نتائجها اليوم ليس فقط على المشهد السياسي بل تحويل الكثير من العلاقات الاجتماعية إلى مستوى صفري مما قد يؤثر لعقود على السلم الأهلي.

أما من الناحية الموضوعية فلابد أن أعترف أن ما يحدث في ليبيا ليس مستغربا من جهة غياب عقد اجتماعي سياسي متكامل يعيد تنظيم العمل والعملية السياسية ويضبط العلاقات الرأسية والأفقية في المجتمع ويحدد علاقته بالسلطة وحدود تمدد السلطة على التراب والمجتمع. ولعل الأخطر هنا من يحق له وضع تلك الوثيقة التي تسمى دستورا في ظل هذا التطور الهائل من تقنيات الاتصال والتواصل والتعبير عن الأفكار التي ظهرت جلية فيما يسمى الربيع العربي الذي اعتمد أساسا على عمليات سابقة ظهرت في مصر خاصة تسمى الحملات التي كانت تنسق عبر الهاتف المحمول والمدونات ثم ظهر موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر ليغيران معا منطق العلاقات ويمنحان لمئات الملايين من الناس الذين عاشوا فقط على تلقي كلمات النخبة فرصة الإدلاء بآراءهم بل ويقودون الناس. وبات ظهورهم طبيعيا على شاشات الفضائيات حيث يخرج محللا للأوضاع من لم يكتب مقالا فضلا حتى عن المستوى العلمي ولكنه يمنح أوقات كانت في السابق حكرا على من يسمون النخبة وربما الأكثر غرابة هي حضور المنتمين للنخبة بالمفهوم الكلاسيكي مع المتحدثين الجدد في جلسات حوارية يفقد فيها المثقف القدرة على الإمساك بخيط مرجعي لذلك الحوار يمكن الاستناد إليه في الحكم على مخرجات الحوار.

وليس مفاجئا أن يتحدث من لم يلم بأصول النقاش والمناظرة والكتابة الاحترافية والبحث العلمي مع الالتزام أمام جمهور ومتابعين بأخلاقيات تفرض على المثقف أن يتحدث بما يعتقده هو حرية تعبير فينقل المعلومات بلا توثيق ويستعجل الوصول إلى النتائج ويطلق عشرات الأحكام المطلقة في الدقيقة الواحدة خاصة وأن عديد القائمين على وسائل الإعلام لا يلمون أصلا بأصولها وقواعدها وضوابطها الاخلاقية. وهذا الواقع والتحول الجديد يعني ضرورة الالتزام بالتشاور الأوسع عند جمع الآراء حول المسائل الدستورية قبل الشروع في صياغتها وعدم الاكتفاء بشرائط النخبة الطبقية.

لكن لعل الإشكالية التي تواجهنا في ليبيا تتمثل في الإدعاء المفرط بأننا ندرك التحولات التي حدثت في سياقها ما نسميه نحن ثورة ربما من باب تعميق إحساسنا باحترام الشخصية الجميعة لنا كليبيين رغم أن ما نجترحه من أفعال لم ترتق إلى مستوى الأعمال أو ما نصدره من أصوات التي عجز كثير من منها أن يصبح فكرا له أصوله المرجعية وبنيته الفكرية ثم خطابه المعبر عنه.

لعل السياقات التي حدثت فيها ثورة فبراير تمثلت في التحولات العميقة في مفاهيم الثقافة والمثقف التي أثرت فيها على الأفكار التي تطرح ومن يملك حق طرح الأفكار حتى إن الانتساب للنخبة بات يؤسس على من يستطيع التأثير على أكبر شريحة من الناس وليس من خلال مستوى الأفكار التي يستطيع توليدها عبر عمليات تأمل وتفكير تلتزم مناهج كانت حتى قبل ثورة المعلومات والاتصالات معيارا لتحديد مفهوم النخبة والمثقف وبالتالي من يسمح له بالتعبير عن الأفكار ومن يحق له خلق خطاباتها المتنوعة. هذا الأمر اقترب من أن يصبح قديما لا يعول عليه.

محليا ليبيا باستثناء عدم تورطها في ديون خارجية فإن كل المؤشرات الدولية لقياس جودة المجتمعات والدول في كل الجوانب فإنها كانت تحتل المراتب الأخيرة وهذا لا يعكس أزمة السلطة بل هو انعكاس أيضا لأزمة المجتمع الذي حيدته السلطة عن الانفعال الإيجابي مع ما يطوره البشر من حوله من أفكار وخطابات إذ صنفت الخبرة الإنسانية في عهد المنظومة السابقة على أنها رجعية لا يمكن لنا التواصل معها.

حتى السلطة في ليبيا لم تعتمد على العنصر الأساسي في مفهوم الدولة الحديثة وهو قوة الإكراه القانونية بل اعتمدت على قوة الإكراه الأمنية فسقط القانون في ليبيا مما اضطر المجتمع بلا قصد إلى العودة إلى ماكينزمات بدائية في تنظيم وجوده من حيث العلاقات في جابها الإيجابي كالتعاون والتكافل أو السلبي كالانتصار لعلاقة الدم وبمرور الوقت أصبحت الهايكل القانونية محكومة لقوة التنظيم الاجتماعي البدائي فيسهل إنهاء قضية داخل أروقة محكمة بتدخل قوة العلاقات الاجتماعية. ولعل هذا يفسر نسبيا علو الأصوات المطالبة بالمؤسسة الأمنية ولم نسمع نفس الحماس للمطالبة بدولة القانون.

وجاءت الثورة والحالة الوجدانية تجاه القذافي والمقربين منه في أوج عنفها وتحركت الناس تقودهم مشاعرهم تلك ورغبتهم في استرجاع ما حرمهم منه القذافي ولكن لم يكن لديهم الوعي الكلي أو رؤية واضحة تحدد ما الذي يريدونه مثل مسألة الدستور. وربما هذا ما قادهم للتعلق بالشخصيات التلفزيونية التي كانت تظهر إبان شهور الثورة أو تلك التي ظهرت أمامهم بتولى مسؤوليات الثورة السياسية وغاب بشكل كبير عن المشهد تلك الجموع التي اختارات المعارك القتالية التي أصبحت تسمى ثوارا ثم استطاعت تلك بعض تلك الشخصيات التلفزيونية والسياسية أن تعيد رسم الصورة الذهنية بشأنهم من خلال مجموعة من الأعمال والأقوال التي يبدوا فيها ملمح الاتفاق ظهرت في شكل حملات إعلامية أو تحركات في الشارع استفادت مما يحدث في مصر على وجه الخصوص وكذلك وجود قوى إقليمية ودولية أبدت مخاوفها مما يوصف بالإسلام السياسي حتى في نسخته التركية التي تمثل الانفتاح الإسلامي.

ونظرا لضغوط الوعي الظاهر لدى الناس اندفع غالبية من الليبيين يقودهم المجلس الوطني الانتقالي بتركيبته التي فرضتها شروط المقاومة إلى وضع الإعلان الدستوري الذي حث فيه حتى قدامى الشيوعيين بالمجلس الانتقالي رفاقهم على التصويت لصالحه بما في ذلك المادة (30) التي مثلت خارطة الطريق التي نادت بها الدول الداعمة ليبيا في اجتماعهم في يونيو 2011 باسطنبول التركية.

ووضح ابتداء أن الإعلان الدستوري وخارطة طريقه لم يأخذا بعين الاعتبار تلك السياقات التي تحيط بالثورة وكذلك في ظل غياب كامل لمفهوم التغيير المراد تحقيقه في ليبيا بعد إسقاط القذافي وعدد من رجال نظامه فهل التغيير الثوري ينتهي بسقوط القذافي وبعض أعوانه أم يتسع ليشمل البنى الفكرية والسياسية وأسس العلاقات. وبدأت النزاعات تقودها في البداية النخبة القادمة من وراء البحار مع تمثلات لها في الداخل فظهر مبكرا النزاع بخصوص قانون انتخابات المؤتمر الوطني العام حيث خشي الليبراليون من زيادة مقاعد الأحزاب فصارعوا ليقللوا عدد أعضا القوائم إلى أقل عدد ممكن. لكن بعد حصول قوائم تحالف القوى الوطنية على أكبر عدد من أعضاء القوائم عاد الدكتور جبريل يروج ويدافع على فكرة الأحزاب والقوائم رغبة في استمرار تحقيق نتائج مهمة للتحالف. كما راجت مشكلة الدوائر الانتخابية ثم قاد المؤيدون للتيار الفيدرالي رفضهم لما يتعلق بلجنة الستين ونادوا بانتخابها بدل تعيينها ولم يتم سياسيا الاتفاق على طبيعة المؤتمر الوطني العام هل هو تأسيسي فقط أم تشريعي.

واستمرت النزاعات المؤسسة على غياب التوافق على الدستور (الوثيقة الأم) حتى بعد إجراء الانتخابات فاختلف رئيس الحكومة المؤقتة علي زيدان مع المؤتمر الوطني بخصوص البلديات والمحافظات ما بين التعيين كما يريد زيدان والانتخاب كما قنن المؤتمر بل تأخر تفعيل الانتخابات المحلية على خلفية هذا الاختلاف، وأدى ذلك إلى تعطيل شبه كامل لميزانية المجالس المحلية حتى المنتخبة مثل مصراتة وبنغازي والزاوية وغريان وزوارة وغيرها.

وربما يمكن التلميح إلى أن الإعلان الدستوري لم يوضع ليتناسب مع تفاصيل التحولات والتغييرات التي كان ينبغي أن تتوقع بعد سقوط النظام وإعادة توحيد ليبيا تحت قيادة سياسية منبثقة عن الثورة ولأجل ذلك تعرض الإعلان إلى عديد التغييرات بناء على ضغوطات التنازعات السياسية الوطنية والجهوية والتي أدت إلى بقائه مضطربا غير قادر على التعبير عن الوضع الليبي في عمقه وليس فقط في بعض ما يظهر منه. ولأن الجميع يخاف من أن يوصف بأنه يتلاعب بمصير الدولة فإنه لم يكن هناك أي طرف فضلا عن كل الأطراف يملك الشجاعة الكافية ليقترح أهمية إما إصدار إعلان دستوري ثاني ولكن بآلية أكثر توافقية عن الأولى يصار فيها إلى الناس وإشراكهم في تصورات الإعلان على أن يركز على تنظيم المرحلة الانتقالية من خلال أولوية وضع دستور البلاد الجديد الذي يتوقع أن يصدر مؤقتا بسبب الفشل في تحقيق المصالحة الوطنية في الواقع. 

أما التصريح فهو أن من أنه يوجد بين من يقود اليوم حملات إسقاط المؤتمر الوطني وإلغاء الإعلان الدستوري والعودة خطوات واسعة للوراء من خلال اقتراح هياكل استبدادية للدولة مثل المجلس الرئاسي هم أنفسهم من كانوا طرفا رئيسا في الإعلان الدستوري وقانون انتخابات المؤتمر الوطني أي بعض أعضاء المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي وعلى رأسهم السادة مصطفى عبدالجليل وعبدالحفيظ غوقة ومحمود جبريل ومحمود شمام. ولا يمكن القبول بأن ما ينادون به الآن بني على أن آخر يوم عمل في المؤتمر هو 7 فبراير بناء على العد الحسابي للمدد وليس من خلال النظر إلى المهام الموكلة للمؤتمر والتي كانت نقاشا إلى وقت قريب من خلال طرح تساؤل طبيعة المؤتمر الوطني.

لا أدري إن كانت هناك ضغوط تمارس على المنادين بإسقاط المؤتمرالوطني يوم 7 فبراير بحيث تم تدوير الصراع بالمنطق الماركسي أي الصراع الوجودي خاصة بعد إعادة التموضعات في الساحة الليبية إثر الانقلاب في مصر وانتقال عديد المناهضين للإسلاميين للعمل خاصة إعلاميا من قلب القاهرة عاصمة النكوص عن استحقاقات الثورات في عالمنا العربي. حتى إن هؤلاء المتجمعين في مصر لم يتذكروا ما كانوا يرمون به خصمهم الصفري من الارتباط بالخارج والارتهان لأجنداته فكيف سيفسرون وجودهم في مصر والإمارات بشكل خاص.

إذن نحن أمام واقع مشوش إلى حد أنه يصعب التوصل إلى توقعات مطمئنة بسبب حدة التنازع المبني على 7 فبراير ليس فقط قد يؤدي إلى احتراب أهلي بل الأخطر أن التوقعات السالبة قد تتسع في ظل التحولات الواسعة التي يشهدها العالم والإقليم في المستوى الاقتصادي والثقافي والسياسي فتضرب أصل مهمة العملية السياسية الحالية من حيث الوصول إلى وثيقة دستورية مؤقتة تمهد للعلمية السياسية الدائمة التي تتكفل لاحقا بوضع الدستور الدائم.

وأرجو أن لا أكون مخطئا برغم إقراري بالصعوبات والإشكالات الموضوعية في أساس ما يحدث في ليبيا من أن تحالف القوى الوطنية وعشرات من النخبة المتساوقة مع ما يطرح ورئيس الحكومة المؤقتة وعشرات المؤسسات التي تصف نفسها بالمدنية وقنوات وصحف ومواقع وآلاف صفحات الإنترنت قد شاركوا جميعا في إيصالنا للحال غير المستقر الذي نواجهه بلا أي رؤية واضحة سوى الاستمرار في التقابل مع الخصم في معادلة صفرية قد أصبحت نتائجها العدمية تتضح وكأننا في لعبة إسقاط اليد لا تنتهي إلا بفوز طرف على آخر مما يوسع الصراع إلى مستوى وجودي تضمحل فيه معدلات الثقة وتختفي مصطلحات التوافق والحوار لتحل محلها الإقصاء والإنهاء والتلويح بخياري النصر أو الهزيمة.

لقد تمثل خطأ التحالف الأول في الإصرار على الحديث بمنطق المنتصر المطلق في انتخابات 7 يوليو ثم جاء الخطأ الثاني عندما لم يحقق ما يصبو إليه في الانتخابات الداخلية للمؤتمر فيما يتعلق برئاسة المؤتمر ثم الحكومة عاد ليعتبر ذلك تآمرا عليه باعتباره المنتصر الوحيد ورفض حقيقة أن النظام السياسي الليبي المؤقت يسمح للمؤتمر باعتباره كلية انتخابية التنصيب في المناصب السيادية عبر الانتخاب أو التوافق أو التعيين ثم استمر التحالف في توجيه حملات لم تتوقف حتى الآن إلى خصومه سواء عبر قنواته التلفزيونية أو تلك التي تدعمه وتبث من الخارج وتقود قيادات التحالف التي تغيب عن التواجد في ليبيا منذ قرابة 8 أشهر جهود شيطنة الخصم بأسلوب بات يغيب عنه المنطق والتفكير المنهجي الذي ينظر في مآلات الأمور ومصالح الناس وأهمية إفساح مجال للتعايش مع الخصم وعدم نقل الصراع إلى المعادلة الصفرية.

ووجب التنويه إلى أن الخروج المنمق أحيانا في وسائل الإعلام والحديث بمصطلحات رخوة لا يمكن قياسها مثل الوطنية بحيث يصف بها قادة التحالف أنفسهم على الشاشات رغم أنهم يغيبون عمليا وسياسيا عن الحضور في جلسات حوار جادة يتم ليس للاتفاق الشكلي بناء على الوطنية التي احتكروها لأنفسهم ولكن بتنظيم الاختلاف والتنازع من خلال تبني القوالب والآليات الديمقراطية والسلمية.

لقد أظهرت جولات التفاوض الأخيرة التي انتهت إلى انسحاب وزراء العدالة والبناء وبيان الـ 99 في المؤتمر الوطني مدى تخطي مفاوضي التحالف حدود الشراكة إلى محاولات الاستحواذ شبه الكامل على الدولة. وفي حال ناقشتهم في المبالغة التي يرفعون بها سقف مطالبهم توقع حملات إعلامية متصاعدة تتهمك بعدم الوطنية وغيرها من الأوصاف التي تتأبى عن القياس.

رغم ذلك يمكن أن نستفيد من هذا الشطط السياسي الذي قاده التحالف بما في ذلك الشكل الحالي لقانون العزل السياسي بحيث قاد تشدده ومناكفاته إلى صدور قانون لم يكن يتوقع الدكتور محمود جبريل أن يصادق عليه أعضاء المؤتمر لأنه سيشمله متصورا أن شعبيته في الشارع قد تضغط على أعضاء المؤتمر ليعدلوا القانون قبل إقراره ولكن تفاجأ بالتصويت لصالح القانون الأمر الذي قاده إلى ردة فعل لا تزال تؤثر في فعله وقوله السياسي بل واعتكافه خارج حدود الوطن.

ليس أمامنا الآن إلا تنفس الصعداء والعودة إلى طاولة المفاوضات بعيدا عن المعادلة الصفرية التي تقود للشروط التعجيزية التي تبدو كأنها توضع لإفشال الحوار والتفاوض السياسي فإذا ما سلم كل طرف ولو نظريا بحق كل طرف في أن يحقق بعض المكاسب بعيدا عن المزايدة في استخدام هلامية الوطنية بل من خلال بناء شراكة سياسية تتوافق في ترك هيكل الدولة التنفيذي يعمل في كل مستوياته بلا عرقلة وحصر التنازع في المستوى السياسي المتعلق برؤى ومفاهيم كلية ولكن لا يحق لأي طرف قبل وضع الدستور أن يفرض تلك المفاهيم والرؤى على هياكل الدولة.

وهذا يعني أهمية أن يعاد الاتفاق على حجب الثقة عن السيد رئيس الحكومة الذي استطاع أن يستفيد من هذا التنازع في تأسيس حالة سياسية اجتمع فيها من حوله شخصيات غير كفؤة واستقطاب عدد من رجال الأعمال وجذب أعضاء من المؤتمر ليحصن نفسه ضد أي محاولة لمساءلته فضلا عن حجب الثقة عنه. وهذا يجب أن يصحبه أمر أساسي هو الاتفاق على معايير تولي هذا منصب رئاسة الحكومة بحيث يرشح فيه من يتوافق أكثر مع تلك المعايير مما يوجب عدم التعرض للحساسيات الفكرية والسياسية إن كان الامر يتعلق بالوطنية كما يصرح بذلك قادة التحالف.

إن الأصل الأصيل في العملية السياسية اليوم هو الدستور وليس تغيير شكل النظام السياسي ليشمل منصب الرئاسة أو إعادة توسعة مدة المرحلة الانتقالية لتصبح 4 سنوات وكل ذلك مما فاوض عليه تحالف القوى الوطنية طبعا بعد الإصرار على إما تعديل قانون العزل السياسي أو تجميده ليعود جبريل للسياسة وينافس على منصب الرئاسة كل ذلك قبل الوصول إلى دستور مؤقت يتم وضعه بطريقة صحيحة وكأنهم يستعجلون المكاسب السياسية بعيدا عن صدى الوطنية.

وهكذا يجب أن نتفاوض الآن من أجل الاتفاق على توفير البيئة السياسية الداعمة لوضع الدستور المؤقت من خلال تهيئة التوافقات التي يطلبها الأمازيغ ومن ثم انتخابات لجنة الستين ودعمها في مهمتها لوضع مسودة الدستور مع أخذ الاعبتار لكل التحولات التي أشرنا إليها آنفا. فإذا ما نجحنا في إجراء انتخابات حرة ونزيهة للجنة الستين وتمثل فيها كل الطيف الليبي على الأقل في داخل ليبيا يمكن حينها دعم الحكومة المؤقتة الجديدة في أداء مهامها التنفيذية الرئيسية المتمثلة في بسط الأمن وحماية السيادة وتحسين الخدمات.

وهذا ما يحملني دوما على التساؤل عن المغزى من عشرات المبادرات ذات التوافق التام في المضمون التي تصدر عن مجموعات أهلية محسوبة على الاتجاه الليبرالي تدعو جميعها إلى إسقاط العملية السياسية التي شارك وأشرف على وضع أسسها رفاق وقادة لهم في المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي. ولذا من المهم أن يدرك المتابع أن تلك المجموعات تصدر عن نبع واحد وتنتهي إلى ذات المصب وشخصيا أعرف بعض الأصدقاء ممن يحمل عضويات متعددة في تلك المجموعات.

أختم حتى لا أطيل  أكثر بأن التحالف ومن يحالفه داخل المؤتمر وخارجه المسؤولون على إعادة تصحيح العملية السياسية لتركز على الهدف الرئيس وهو وضع الدستور من خلال المحافظة على الهيكل السياسي دون أي محاولات لهدمه ومن ثم بنائه وفق رؤيتهم الخاصة المنطلقة من المعادلة الصفرية والمؤسسة على شيطنة الآخر وجر الجميع إلى صراعات وجودية ستزيد من تعقيد المشهد وتجعل اتجاه تنبؤاتنا منحصر اضطرارا في السيناريوهات السالبة.