إذا كانت الأدوات والأساليب المحلية موجودة او موروثة او نتيجة أخطاء الحاضر فإنها مجرد نواة لا تعمل بفاعلية لمواجهة الدولة الا بسند خارجي. فالدولة الفاشلة هي دولة ذات سيادة او إستقلال ولكنها لم تعد قادرة علي الحفاظ علي كيانها السياسي والإقتصادي، ولا تمثل المرتكزات الأساسية للبناء والإستمرار في ظل فقدانها لـ "القاعدة-القوة-الشرعية"، وهو ما نلحظه اليوم في كثير من الدول المتدخل بشأنها. 

نوايا مشروع برنارد لويس للشرق الأوسط،،، إيجاد الأسباب وتوظيفها

أشار رالف بيترز في مقال "حدود الدم" بأن المجموعات الدينية والإثنية في الشرق الأوسط مارست اندماجها، ولكن يتوجب إعادة رسم حدودها لإنصاف الأقليات والإثنيات الموجودة"، ويذهب الي أن الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي هو ليس صراعاً علي الوجود بل علي الحدود، ولهذا يري حسب وصفه تقديم بديل وخارطة جديدة لإعادة الترسيم ومن ثم التقسيم. 

لقد قدم برنارد لويس مشروعه التقسيمي عام 1983 والذي اقره الكونجرس الأمريكي بشكل واقعي، واضعا العديد من الخرائط وفق تقسيمات جغرافية بشكل إثني-ديني- قد تجد طريقاً وتأييداً- رغم شذوذ أفكارها. 

كما طال المخطط الكثير من الدول العربية والإسلامية او دول الشرق الأوسط الكبير، حيث نجد بأنه يهدف بشكل عام لإدخال المنطقة ككل في صراعات متتالية، وخلق أجواء من الفوضى الهدامة، وتدمير البنية الثقافية القومية، وتحريف المنهجيات الإسلامية، للإنتهاء بتلك الشعوب لحروب الوكالة، وتوازنات القوي، ومستنقعات الكراهية والبغض والتشظي وقبول الحلول المطروحة (دون الخوض في  أسبارها)، والتدافع لتحقيق مصالح شبه جماعية (إثنية-دينية-عنصرية..الخ) دونما النظر في مستقبل الصالح العام للأمة، كما أمدت الثورات العربية الطاقة الدولية لإعادة التفعيل والتدويل، وتوظيف الأحداث تحت شعارات إنسانية ومبادئ أخلاقية في بعض الأحيان، وإيجاد المخرج الناعم للخروج من إتفاقيات ومعاهدات تم إقرارها والمصادقة عليها. 

فما هي حقيقة المخططات وفق خرائط برنارد لويس وزميلاتها؟

نذهب لمعرفة التوجه العام للمخطط قبل أن ندخل في تفاصيل الخرائط التقسيمية للشرق الأوسط الكبير، حيث يذهب "لويس" (بوضوح، لا يكبدنا معاناة التحليل والتفسير) في لقاء مع إحدي وسائل الإعلام عام 2005  وفق ما ذكره الباحث "مجدي كامل" نصاً "إن العرب والمسلمون قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، واذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات، وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها ان تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة، لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية الي وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم او التأثر بأفعالهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا إما أن تضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم ان تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب الشعوب علي الحياة الديمقراطية... يجب تضييق الخناق علي هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية" 

ما يهمنا في الحقيقة ليست الخرائط في حد ذاتها، فهي قابلة للتبدل والتغير، انكمشاً وتمدداً، أيضاً فإن حدودها القادمة -ان وقعت لا قدر الله- فهي خاضعة للمساومات والتجاذبات والمصالح، فهي لوحة قبيحة لمستقبل غامض.  

جدير بنا أن نعمق الفكر، ونثري النقاش، وندرس الواقع، وجدير بنا أن نعرف ما يحاك لأمتنا، فقد طالت أفكار المُخطِطِ دولاً كثيرة، من النيل الي الفرات وأبعاداً أخري، (في نواياهم ووفق مخططاتهم)،   فـــ "مصر"  ستذهب الي اربع دويلات؛ سيناء وشرق الدلتا، لتمثل الإمتداد الإسرائيلي، ومن جنوب بين سويف وحتي جنوب أسيوط كدويلة مسيحية، ودويلة النوبة لتضم أراض سودانية التحاقا بدول البربر جنوب المغرب وحتي البحر الأحمر، وآخرها مصر الإسلامية، وهو ما تبقي من مصر اليوم، كما تذهب الخرائط الي السودان لتفتيت ما تبقي منها ليكون السودان اربع دويلات تمثل دويلة النوبة، والشمال السوداني، والجنوب السوداني ودارفور، شرقاً-غرباً-شمالاً-جنوباً، وقد تحقق الي اليوم التقسيم الثنائي. واذا ذهبنا الي العراق، في رؤية "لويس"، حيث يذهب به الي ثلاث دويلات – الأمر الذي يتحقق حالياً – فالدولة السنية تقع في وسط العراق وحول بغداد، ودويلة كردية في شمال وشمال شرق الموصل، ودويلة شيعية في الجنوب حول البصرة. 

يشمل المخطط سوريا ولبنان والأردن، وعلي نفس الوتيرة والمنهجية، فـ "سوريا" الي ثلاث دويلات؛ السنية (حلب ودمشق)، والعلوية الشيعية (امتداد الشاطئ) والدروز (الجولان)، غير أن لبنان يطاله الحد الأقصى من التفتيت والتجزئة ليذهب وفق الخريطة الي ثمان دويلات او كانتونات عرقية ومذهبية، ويتلاشي الأردن كدولة واستقلال، ويتحول الي أرض فلسطينية تضم فلسطيني الداخل، وتتصل باليمن حيث تفترض نهاية المخطط تلاشي اليمن وضمه للحجاز. ويستمر المخطط ليشمل تقسيمات أخري تشمل دول المغرب العربي، وتركيا وباكستان وأفغانستان. 

إستمرار مساقات حروب الجيل الرابع وما بعدها...إستراتيجيات الحرب علي الإرهاب

يذهب الاقتصادي "ميلتون فريدمان" بالقول "إن التغييرات الجذرية لا يمكن أن تحدث الا إذا طرأت حالات إستثنائية قهرية"، ويقارب الحالة بشكل العواصف او البراكين، فصنع الحدث او الإستفادة منه واستغلاله قد يوفر ظروف التقدم في المشروع، برغم من محدودية النطاق في مواجهة سيادة الدول ومصالحها. 

فالإستراتيجية الجديدة تم تفعيلها منذ ان تم إيجاد كلمة السر لفك الشفرة وانطلاق الولادة الجديدة تحت ما بات يعرف بـ أحداث سبتمبر عام 2001، وانفجار برجي التجارة العالمية بـ"نيويورك". لم يختلف الساسة حينها علي الإجراءات والتوجهات، وكأنها مُجهزة مسبقاً، فلقد حان وقت تلاوتها والمضي قدما "للحرب علي الإرهاب"، كما لم يعد بوسع كافة الدول الأعضاء بالأمم المتحدة أن تمنع الولايات المتحدة الأمريكية "الغاضبة" في الدفاع المشروع (دون اذن مسبق من مجلس الأمن الدولي) في توجيه الضربات العسكرية في كل إتجاه تزعم تحت شعار مكافحة الإرهاب والحفاظ علي حياة الأمريكيين ومصالح الدولة، بأنها كفيلة بردعه، وهي خطوة إكتسبتها الولايات المتحدة الأمريكية في رفع المعوقات القانونية دولياً -ممارسة السياسات الخارجية دون رادع-، كما منحت الرئيس الأمريكي خلاصاً تدريجياً من رزمة القوانين الداخلية وعدم خضوعها لموافقة لجنة الدفاع والأمن بالكونجرس الأمريكي. وقد ذهب الأمر لمنح مزيد من الصلاحيات علي حساب الملف الإنساني والحقوقي لنري كيف تم مأسسة الإعتقال والإستجواب والتعقب والتجسس، ومنح صلاحيات لوحدات العمليات الخاصة واختطاف القرار الديمقراطي الأمريكي-ممارسة صلاحيات غير دستورية-. 

التدويل...واليات الجيل الجديد من الحروب

لقد تعزز إيمان الولايات المتحدة الأمريكية بصحة منهجية الفوضى الخلاقة بعدما نجحت تجربتها في إحتلال العراق عام 2003 كما يري الكثير من الباحثين، وفي وجهة نظري وبشكل أكثر إنسجاماً وواقعية، فقد شكل إحتلال العراق شبه صياغة مستحسنة ونسخة مطورة لمفهوم الفوضى وتوظيفها دون المساس بأهدافها، غير أن ما يلفت النظر وبعد المقامرة الأمريكية بـ "أفغانستان" ومن ثم حروب الخليج وبالأخص الحرب الثانية- أصبح تأثير الفوضى الخلاقة ينعكس بشكل سلبي ومباشر علي السياسات الخارجية الأمريكية-، حيث كان ولا يزال دافعاً لإعادة النظر في ترتيب الأوضاع والتنسيقات والتحالفات والتدخلات العسكرية التي ارهقت ميزانية الدولة الأمريكية وهيبتها وهزة ثقة ودعم مواطنيها، وشكلت اخفاقاً اقتصاديا في مواجهة قوي أخري كــ "الصين"، وبشكل عام، شكّل الحدث تغير المنهجية والأدوار الحاضنة لأنظمة الحكم القائمة آنذاك والمدفوعة والمحمية تحت نطاق سيطرتهم وهو ما دعي للبحث عن طرائق وذخائر للغزو الشامل بشكل مغاير بعد معرفةٍ حقيقيةٍ بعدم القدرة لتحمل أعباء منهجية عسكرية مباشرة ومستمرة. 

ومن هذا المبدأ والمنطلق فقد أوجدت نظرية الفوضى الخلاقة شكلاً آخراً لإعادة التشكيل تحت مفهوم حرب الجيل الرابع والخامس وما بعدهما، وكان من ضمنها اليات وإستراتيجيات أهمها؛ حروب إفشال الدولة، والحرب بالوكالة، والحروب المعلوماتية والإستخباراتيه – الهجومي للحماية، والدفاعي ضد الدول المستهدفة -، والتوظيف الإعلامي - منابر إعلامية تقليدية ومجتمعية -، وعمليات إختراق لجماعات بأنماطها المتنوعة - لخلق الأزمات -، وإستخدام التقنيات والتكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي (الديمقراطية الرقمية وممرات التكنولوجيا)، أو ما يطلق عليه صناعة الدول في القرن الواحد وعشرين. 

الجماعات المسلحة... الرباط المصلحي والرباط المنهجي

كما أشرنا، فإن الهدف النهائي هو التقسيم ومن ثم الريادة لتحقيق الإمبراطورية، ومن خلال إضعاف وزعزعة أنظمة الحكم وأمنها، وغرس جماعات ودعمها مهما كانت التوجهات – فيما عدا الاستقرار – ستصب جميعاً في روافد المصلحة وتحقيق الأهداف. 

أبدت بشجاعة غير مسبوقة "كريستينا دي كيرشنر" الرئيسة الأرجنتينية في خطاب لها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2014 بالقول " "رحبتم بالربيع العربي ودعمتموه في تونس ومصر وليبيا وغيرها وأوصلتم الإسلام المتشدد للحكم في هذه البلدان بقراراتكم، وما زالت شعوب تلك الدول تعاني العبث"، كما اردفت "اليوم نجتمع لإصدار قرار دولي حول تجريم داعش ومحاربتها، وداعش مدعومة من قبل دول معروفة وأنتم تعرفونها أكثر من غيركم وهي حليفة لدول كبري في مجلس الأمن".

الأمر يؤكده الدبلوماسي الأمريكي الأسبق والمؤلف "مايكل سبرينجمان" عن دور وكالة الإستخبارات الأمريكية "CIA" بإنشائها تنظيمات إرهابية تابعة للقاعدة ومنها "دولة الخلافة الإسلامية"، كما يشهد من خلال لقاء له في وكالة الأنباء "روسيا اليوم" بأن الولايات المتحدة الأمريكية جنّدت ودربت الإرهابيين وارسلتهم لمحاربة الإتحاد السوفيتي في أفغانستان، ويذهب بالتأكيد بأن هؤلاء تم استخدامهم لزعزعة الاستقرار في العديد من الدول، كما اُرسِلوا الي يوغسلافيا – سابقا –، ثم الي العراق وبعدها الي ليبيا، وعبر ليبيا تم تمويل جماعات أخري في سوريا ونقل الأسلحة عن طريق الطائرات والسفن"، والأمر يعود عكسياً هذه الأيام وفق تصريحات العديد من الدول وعلي رأسهم الرئيس الحالي  لروسيا "بوتن" والذي أكد (بأن هناك انتقال لإرهابي "سوريا-ادلب" قدموا الي ليبيا) في خطوة لتقديم العون لجماعات خارجة عن شرعية الدولة ومقاومة الجيش الليبي في تحرير طرابلس. 

إن الكم الهائل والإنتشار الكبير من الأسلحة التي تتحصل عليها الجماعات المسلحة- بشكل مباشر، واحياناً بإنزالات جوية عند الضرورة، كما حدث في ليبيا-بنغازي، وحدث في العراق-الموصل (وتم تبريره بأنه خطأ استراتيجي)، او عبر صفقات تجارية مشبوهة، وتوظيف عوائد بيع النفط، فكل الشواهد تؤكد تورط تلك الجماعات في مساراتها الضدية لإستقرار الدولة، كما تؤكد إرتباطها بقوي دولية لتحقيق مصالحها بشكل توافقي مصلحي ومنهجي. 

لقد انتقد "بيرجي شتينيباك" نائب رئيس الحزب العمالي للعدالة الاجتماعية بأمريكا ما ذهب اليه الرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما" بطلب الكونجرس الأمريكي تخصيص مبلغ نصف مليار دولار لدعم ما أسماه "المعارضة المعتدلة" في سوريا   وفق تصور إستراتيجي يعرف بــ" الصبر الإستراتيجي، او صناعة الموت وهزيمة الطرفين"، وهو ما تم فعلياً، وانتهي بتوقيع اتفاقاً أمريكيا في 19 فبراير عام 2015، لتدريب عدد (1000) عنصر كخطوة اولي ليصل فيما بعد الي (15000) عنصر، بقاعدة أمريكية بتركيا، وتزويدهم بالمعدات العسكرية... وهو ما دعي "شتينيباك" لنشر مقال بموقع الحزب يري بأن ما تقوم به أمريكا ليست دعماً للسياسيين بل هو دعماً لمجموعات من المتطرفين تعزم أمريكا تدريبهم وتسليحهم. 

كما نشر الكاتب بصحيفة الصنداي تلغراف البريطانية "كون كوجلين" مقالاً بعد أعوام من الثورات العربية، يبين آثار الصراعات السياسية والتقاتل علي السلطة، والذي اتخذ منعطفاً طائفي بين اكثر الطوائف تشددا (السنة والشيعة) او ما يصفهما بالفصيلين اللدودين، ويؤكد بأن الصراع أصبح دموياً في الدول العربية بداية من سوريا واليمن ومروراً بالعراق ولبنان وليبيا والبحرين. 

من خلال التطابق التام بين ممارسات التنظيمات والجماعات الإرهابية والمسلحة بصفة عامة وبين أهداف الجيل الرابع والخامس للحروب وما بعدها، يثبت بما لا يدع ريباً، بأن هناك تعاون أمني مخابراتي، وتخويل القتال بالوكالة (إتفاق-توافق)، فالاهداف المشتركة تُتحقق يوما تلو الآخر، في تشويه الصورة العامة للثقافات الإسلامية وغيرها، وزعزعة الاستقرار بالتمرد علي الأنظمة والخروج عن القانون العام والأعراف والتقاليد، وتفعيل الفوضى، والإقتتال، وتدمير البني والمؤسسات، ومن ثم تفعيل محفزات دينية ومجتمعية، أي بإستخدام كافة الضغوطات عسكرياً وسياسيا وإجتماعيا واقتصاديا، وكلها يقع ضمن إستراتيجة نهائية لتعميق التفتيت والتجزئة، والعمل علي المشروع الأكبر "الشرق الأوسط الكبير أو الجديد". 

ختاماً، 

أختم حديثي بما قاله أول صاحب مشروع للتقسيم للبلاد العربية وتحديداً في العراق "دايفيد بن جوريون" رئيس وزراء إسرائيل عندما أعلن عن قيام دولته وأمام الجمعية التأسيسية ليهود فلسطين عام 1948 قائلاً " ليست قوتنا بالقنبلة النووية لكنها بتدمير ثلاث دول (العراق-مصر-سوريا) وهذا لن يتم بذكائنا بل بغبائهم". 

تقديري وإحترامي 

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة