قمتُ عبر بوابة افريقيا الاخبارية بنشر عدد من المقالات، والتي تناولتُ فيها تحليلاً تنبئياً لتبعات فرض رسوم على بيع العملات الاجنبية ، بالاضافة الى مقال آخر عن ضرورات التنوع في الاقتصاد مع طرح بدائل اقتصادية حقيقية وممكنة ، ومقال ثالث عن المرتبات في ليبيا مع اقتراح بعض الحلول المؤقتة (معالجات) للحد من آثار هذه المشكلة، وعلى الرغم من أنني قد حاولت عرض بعض المعالجات إلا أنها تبقى حلول مؤقتة تعمل عمل المُسكن دون أن تقضي على الداء في مكمنه، وهذا راجع في المقام الأول للفوضى التي تمر بها الدولة الليبية، بالتزامن مع غياب الارادة الحقيقية لأجل النهوض بالبلاد من تحت الركام، وهذا طبيعي بحكم الخلفية التي أتى منها من إعتلوا سدة الحكم وصناعة القرار، والبعيدة كل البعد عن المهنية وأبجديات ادارة الدولة، فإدارة الدولة تحتاج الى مهارات خاصة، وهي في الاساس فطرية وتصقل بالخبرة التراكمية عبر الزمن، دون أن نغفل طبعاً عن دور العلم في هذا الجانب.

 

أنا أُدرك أن الخلل الاقتصادي في ليبيا يكمن في الهيكل، وأن الاقتصاد الليبي بحاجة لتغيير في جوهره، ولكن هذا التغيير لـن يحدث الا بعد الاستقرار السياسي المتبوع بالاصلاح الاجتماعي أولاً، وجبر الضرر ولملمة الوطن بعد التشظي ثانياً، وبالتالي فإن الاصلاح الاقتصادي بمعناه الحقيقي والمنشود لايُمثل أولوية في المرحلة الراهنة. إن التضخم الرهيب في بند المرتبات هو نتيجة طبيعية للاقتصاد الريعي بل أنه أحد أبرز سماته، وهو ناتج عن تزاوج الفوضى والمرض الهولندي (أو لعنة النفط كما يسميها البعض) ، ولسائل أن يسأل ماهو الاقتصاد الريعي ، وماهي مصادره ، وماأهم خصائصه؟

 

تتعدد نُظم الاقتصاد والسياسات المالية والنقدية، وسبل تحقيق الدخل القومي، وتنسيق الموازنة العامة داخل أي دولة، ومن ضمن تلك السياسات الاقتصادية الشائعة ما يسمى بالإقتصاد الريعي، وتُعد الثروة النفطية في الوقت الراهن من أكبر الثروات التي تحتل مكانة مهمة على المستوى المحلي والاقليمي بالنسبة للدول التي تمتلكها أو التي لاتمتلكها على حدٍ سواء، كون أن النفط يدخل في أغلب مجالات الحياة كالسياسة والاقتصاد والصناعة وغيرها، والاقتصاد الريعي في اللغة يُقصد به الأراضي الكثيرة الثمر، أما إصطلاحاً فيعني أحد أثنين : الاول هوالاقتصاد الذي يعتمد في دخوله النقدية على العالم الخارجي كنتيجة لتصدير الموارد الأولية (الخام) والتي تتسم بتذبذبها وإنخفاض مرونة الطلب عليها، وبعبارة أخرى ذلك هو ذلك الاقتصاد المدعوم بالإنفاق جوهرياً من قبل الدولة، إذ تصبح الدولة وسيطة بين القطاع الريعي والقطاعات الاقتصادية الاخرى، أي أنها تستلم العائدات الريعية ومن ثم تخصصها إلى فروع النشاط الاقتصادي الاخرى داخل الدولة من خلال برامج الانفاق العام، وأوضح مثال على ذلك هو الدول التي تصدر النفط والغاز، أما المصطلح الثاني للاقتصاد الريعي فهو مصطلح يتم إطلاقه على السياسة المالية للدولة التي تعتمد اعتماداً كبيراً على مصدر واحد للدخل، ويٌقصد بالمجتمع الريعي هو جميع الفئات الاجتماعية المستفيدة من الريع، وتعمل هذه الفئات على تعميق الحالة الريعية لحماية المصالح الشخصية وإن كان على حساب الفئات الاخرى في المجتمع ، وقد تنشأ هذه الفئات نتيجة الصلة أو القرابة بالسلطة الريعية الحاكمة.


يُعد الريع مكونًا أساسيًا لآلية عمل أي اقتصاد كان، وأي مداخيل سواء كانت عامة أو خاصة، ولكن تكمن الإشكالية في كيفية تملك وإدارة هذا الريع واستخدامه لمصلحة المجتمع والتقدم التقني والعلمي، وبالتالي فإنه حتى في البلدان المستقرة في حال انعدام الرؤيه الاستراتيجية وغياب الإدارة الكفوءة والإرادة الحقيقية لدى أصحاب القرار والمسؤولين الحكوميين فان اعتماد الاقتصاد على الريع الخارجي سيُولد الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، كما أن إستمرار عملية البحث واكتشاف البدائل هي بمثابة جرس إنذار للاقتصادات النفطية التي لم تسـًعِ دولها لإيجاد بدائل أو بناء قاعدة إنتاجية متينة تحل محل النفط عند انخفاض أهميته الاقتصادية أو نضوب كميته ، ومن جانبه رأى الدكتور محمد الشحاتي أن ثروة النفط في ليبيا تلعب الادوار الآتية:-

1-  دور النفط في الاستقرار وعدم الاستقرار السياسي ونشوء الفوضى في الدولة الليبية.

2-  دور النفط في تهميش القطاعات الاقتصادية الأخرى فيما يسمى بالمرض الهولندي Dutch Disease

3-  طبيعة صناعة النفط من حيث كونها صناعة كثيفة رأس المال، و قليلة الكثافة من ناحية القوى البشرية والتوظيف.

4- فشل أجهزة الدولة الليبية في الخروج من معضلة المرض الهولندي أو(لعنة النفط) وتتمثل في الوقوع في أسر الاقتصاد الريعي.

5- دورات تسعير النفط، وكيفية ادارة العجز ، واستثمار الفائض الناتج منها في ظل مبدأ نضوب النفط و تنافسية مصادر الطاقة البديلة.

6-  ماهو مصير وطبيعة الاقتصاد الليبي في قادم السنوات في ظل كل هذه المعطيات؟

 

المصادر الأساسية للاقتصاد الريعي

مما سبق ذكره يُمكننا تقسيم مصادر الاقتصاد الريعي الى داخلي وآخر خارجي:-

فالاقتصاد الريعي الداخلي هو ريع يكون في الأغلب معتمداً على خدمات تقدمها الدولة لخدمة قطاعات أخرى بها ، حيث أنه وكنتيجة لاقتصاد الريع فقد يتحول هذا القطاع الى مقدم الخدمة للقطاعات الأخرى، بل أنه اصبح المُورد الأكثر إدراراً لخزانة الدولة من غيره وفي بعض الأحيان أصبح هو المورد الوحيد لخزينتها وبالتالي لأفراد الدولة، أما الاقتصاد الريعي الخارجي هو ريع يكون في الغالب ممثل في اعتماد الدولة على تلك الثروات أو المواد الخام الموجودة بأرضها مثل الذهب والبترول والغاز والمعادن، أو تميزها بمناطق سياحية ، او وجود معبر بري أوممر مائي حيوي يمر عبر أراضيها تقوم منه بتحصيل رسوم على العربات / السفن المارة به ، ومن ثم تجني الإيرادات بدون تعب أو جهد.

أنواع الريع

توجد عدّة أنواع للريع، وكلٌّ منها يُساهم بدورٍ معين في النظام الاقتصاديّ نذكر منها:

ü      الريع الدائم وهو الدخل الناتج عن قرض صادرٍ مقابل دفعات شهريّة أو سنويّة تظلُّ مستمرةً مدى الحياة.

ü      الريع العقاريّ: هو الريع الأساسيّ الذي اعتمدت عليه النظريّة الاقتصاديّة في تأسيس مفهوم الريع، ويُعدّ الريع العقاريّ عبارةً عن دخل ناتجٍ من العناصر الإنتاجيّة، ويُقسم إلى نوعين هما:

 الريع المُطلق وهو الناتج عن ملكيّة للأراضيّ؛ حيث لا يسمح أصحابها للمستثمرين باستخدامها دون حصولهم على مقابل، ويُعتبَر هذا المقابل عبارةً عن ريعٍ يضيفه المستثمرون إلى التكاليف الإنتاجيّة، ونسبة الربح الخاصة بهم.

الريع التمايزيّ والذي يُعرَّف أيضاً باسم الريع الفرقيّ؛ وهو الناتج عن الأراضيّ ذات الخصوبة المرتفعة، ولكن مع ارتفاع عدد السُكّان والطلب على المنتجات الغذائيّة تُستخدم الأراضيّ ذات الخصوبة القليلة في الإنتاج الزراعيّ.

 الريع المنجميّ وهو الدخل الذي ينتج عن الاستثمار في الثروات الطبيعيّة سواء أكانت سائلة أو غازيّة، والتي تُستخرج من الآبار أو المناجم، وتتميّز بإنتاجيّة مرتفعة مقارنةً بالمصادر الأُخرى ذات الإنتاجيّة الضعيفة، وتُحدّد أسعار كلٍّ من الفلزات، والغاز، والنفط، والذهب بالاعتماد على تكاليف إنتاج الثروات ذات الإنتاجيّة الأقلّ.

ü      ريع الموقع وهو ريع يظهر نتيجةً للعوائد الخارجيّة التي ترتبط مع الموقع الخاص في وحدات النشاط الاقتصاديّ، مثل الوجود بالقرب من وسائل النقلّ كالسكك الحديديّة؛ ممّا يساهم في تقليل الأجور المترتبة على النقلّ.

ü      الريع الوظيفيّ وهو من أنواع الريع الحديثة ويظهر نتيجةً لمميزات عينيّة يتميّزُ بها الموظفون، مثل الحصول على سكنٍ مجانيٍّ، ووسيلة نقلّ كالسيارة، ومجموعة من الخدمات والسلع ذات الأسعار المُخفضة، وتعتمد هذه المميزات العينيّة على الدور الوظيفيّ للموظف؛ أيّ المنصب الخاص به، وليس مع كمية أو نوعية العمل المُقدم من خلاله؛ لذلك يسعى الموظفون إلى الوصول لمناصبٍ أعلى في وظائفهم؛ من أجل الحصول على أكبر كمية ممكنة من الريع الوظيفيّ.

ü      ريع المُضاربة وهو الدخل الذي ينتج دون تقديم عمل، حيث أن المضارب يتعرض للخسائر الماليّة، ولكنه يحصل على دخل مرتفعٍ جداً في أغلب الأوقات، ممّا يؤدي إلى جمعه للكثير من الثروات التي تصبح مصدراً مهماً للدخل، ويظهر ريع المُضاربة بشكلٍ واضح في سوق الأوراق الماليّة أو السوق العقاريّ.

 

خصائص الاقتصاد الريعي النفطي

كما أشرت أعلاه، من بين أشهر الاقتصادات الريعية هي الدول النفطية، وإستناداً إلى ذلك فيمكننا تلخيص خصائص الاقتصاد الريعي المعتمد على النفط في الاتي:
-1 
اقتصاد متذبذب 
فالاقتصاد النفطي هو اقتصاد ريعي وبما ان النفط يتميز بتذبذب اسعاره كنتيجة لاسباب سياسية واقتصادية ومناخية لذا فان الاقتصاد المعتمد على النفط سيكون متذبذب أيضاً خصوصاً في ايراداته ونفقاته وصادراته واستيراداته وانتاجه الاقتصادي واحتياطياته النقدية وغيرها، ولا يمكن للحكومات الوطنية أن تحدد أسعاره أوحتى تثبيتها ، لان أسعاره تتحدد في الاسواق الدولية.
-2 
اقتصاد غير عادل
من المعروف إن النفط ثروة وطنية عامة تشمل الاجيال الحالية واللاحقة ، ولا يحق لأحد التصرف فيها وفقاً لمصالحه الخاصة لا حكومة ولا أفراد، ولكن في الواقع فان الثروة النفطية تقتصر على الحكومات الحالية ومن يرتبط بها، وهذا ما يؤدي الى غياب العدالة بين افراد الجيل الحالي من جهة ، وأن استمرار الاعتماد على النفط وعدم التفكير في إيجاد مصادر أخرى للإيرادات سيؤدي إلى نضوب النفط وبالتالي حرمان الاجيال اللاحقة من حقوقهم النفطية من جهة اخرى ، وتسعى الحكومات جاهدة الى انشاء صناديق ثروة سيادية تستثمر فيها جزء من عائدات النفط والتي تستخدم عوائده لصالح الاجيال القادمة.
-3 
اقتصاد عام ومركزي او (اقتصاد دولة)
السمة الغالبة في البلدان النفطية وخصوصاً النامية منها هو كون أن الاقتصاد تابع للدولة وهي المتحكمة فيه ، فتقوم بتصدير النفط وتحويل العملات الاجنبية الناجمة عنه إلى المجتمع عبر نافذة الانفاق العام وخصوصاً الانفاق الاستهلاكي الغير مرشد في المالية العامة غالباً أو مايعرف (بالانفاق التشغيلي)
-4 
اقتصاد الإقصاء
إن الاعتماد على النفط في تمويل الاقتصاد سيسهم في إقصاء القطاعات الاخرى وعدم الاهتمام في تفعيلها ما دام النفط هو المُلبي للاحتياجات المحلية فضلاً عن صعوبة رفع الايرادات الضريبة او خفض الانفاق العام وخصوصاً الانفاق الاستهلاكي ، ومن جانب آخر فطالما ان الدولة هي المُتحكمة )إقطاعية الدولة) فسيؤدي ذلك حتماً إلى إقصاء القطاع الخاص وتهميشه كي تزيد فرض سيطرتها على الاقتصاد والمجتمع.

وفي المجمل فالدول الريعية تكون شعوبها في الغالب حانقة على سياسات دولها، وتكون كذلك ناقمة بسبب انتشار البطالة وعدم توافر فرص عمل للشباب، وهي مبررات واقعية جداً, لانها وحدها هي الحكومة من تجني ثمار تأجيرها أو بيعها لتلك الثروات والمقدرات لكن الشعب لا يرى منها إلا شيئا قليلاً، وتلك لا تُعد سرقة من الحكومة بالقدر الذي يُعد تفريط في ممتلكات البلاد من المال العام وعدم استغلاله الإستغلال الأمثل او مايعرف بخلل ادارة الموارد الوطنية، وبالتالي فلاعجب ان نرى تكدس لموظفي القطاع العام في هذا النوع من الاقتصاد ، ومن ثم إرتفاع اجورهم وحصولهم على الضمان التقاعدي مع عدم توفر هذا الاخير لدى العاملين في القطاع الخاص ، وبالتالي يضمن هذا التكدس التنعم بالأجور والمعاش الضماني التقاعدي والتأمين الصحي (في بعض وليس كل مؤسسات الدولة الريعي).

 

مما تقدم فان هناك حلول عديدة ومتشعبة تساهم في مجملها بشكل او بآخر في الدفع بالاقتصاد بعيداً عن الريع ، نذكر منها :-

 -1 تفعيل القطاع الخاص، وعدم اقصاء دور الدولة بالكامل وأولها دور الاشراف والتوجيه للقطاع الخاص.

-2 تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد انتاجي، وذلك من خلال توفير المناخ المشجع للمستثمرين (المحليين والاجانب) على الاستثمار في القطاعات الانتاجية والخدمية على حد سواء، او بعبارة اخرى: توفير بيئة استثمارية مناسبة تكون أساس للتقدم نحو بناء الاقتصاد الانتاجي والخدمي وتشمل على سبيل الذكر تبسيط الاجراءات الادارية والضريبية وتأهيل الجهاز المصرفي لتمويل عملية بناء الاقتصاد الانتاجي وتوفير البنى التحتية اللازمة.

-3 ضرورة قيام المؤسسات المتعلقة بالرقابة والمحاسبة والضبط بمراقبة ومتابعة الحكومة فيما يخص تنمية واستغلال الثروات الوطنية وبكل حزم.

-4 الاهتمام برأس المال البشري وذلك من خلال الاهتمام بالتربية والتعليم والصحة والسكن، وضرورة توفيرالتعليم الاساسي المجاني مع التركيز على التعليم التقني والحرفي، وتوفير التأمين الصحي لجميع افراد المجتمع.

5-  انشاء الصناديق السيادية وادارتها بكل كفاءة لانها من حق الاجيال القادمة في الثروة الطبيعية الحالية.

 د. عبدالله ونيس الترهوني     خبير اقتصاديات النقل

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسية البوابة