عبد الستار العايدي

فيما لا يزال النقاش محتدما بين الجبهتين داخل المشهد الاقتصادي، الأولى تقول أن رفع دعم الدولة للبضائع الأساسية ورفع الأسعار في البضائع الأخرى والرضوخ لمطالب الصندوق الدولي هو الطريق الصحيح للحصول على القروض من الخارج وتجاوز الأزمة الاقتصادية التي كسرت الزجاجة أصلا واستقطاب الاستثمار الخارجي وتحريك نسبة النموّ وتفادي الوقوف في نقطة الصفر منذ إعلان قيس سعيّد عن تطبيق الإجراءات الاستثنائية، في حين أن الثانية تواصل التأكيد على رفضها الدخول في هذا المنعرج الخطير الذي قد يفاقم الوضع الاجتماعي المحتقن منذ فترة طويلة وينزع عن الدولة أحد أدوارها الرئيسية التي تم إرساءه منذ أواخر الستينات حيث أن دعمها للبضائع الأساسية وضمان أبسط ضروريات الحياة للمواطن هو من شروط الإستقطاب الناجع للإستثمار الباحث عن اليد العاملة زهيدة الثمن وخفض كلفة البضائع لتشجيع التجارة وإتساع السوق الاستهلاكية، تنطلق حكومة الرئيس في إعلان شعار مرحلة جديدة "الاستجابة لصمود الأمن الغذائي".

المصادقة على قرض من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لإستيراد كميات مهمّة من الحبوب في إطار مشروع الإستجابة لصمود الأمن الغذائي يفصح أن الوضع المالي العام للدولة قد تجاوز المرحلة الأولى إلى خط الإنذار الأحمر الذي يوشك على إعلان إفلاس الدولة تماما تحت غطاء دولي وذريعة الحرب الروسية الأوكرانية، قد يكون هذا من الحلول المؤقتة التي ستنقذ الموقف السياسي للحكومة في المقام الأول وجزءا من الموقف الاقتصادي حيث أن ذلك سيبرّر إرادة الحكومة وسعيها لرفع الدعم وتهديد الامن الغذائي فعليا خلال الفترة القادمة وسيكون هذا الحلّ هو نفسه حبل المشنقة الذي سيلتفّ حول فكرة طرح هذه السياسة العقيمة التي فشلت إبان فترة الحكم لعشرة سنوات السابقة لتاريخ 25 جويلية 2021 المعتمدة أصلا على الإقتراض من أجل توفير المواد الاستهلاكية عوض الإنتاج، هذه السياسة القديمة المتجدّدة تحت أسماء وشعارات تتماشى والمرحلة الحالية، فالاسراع إلى طرق باب مثل هذه الحلول سيضع الحكومة وسياستها أمام الامر الواقع وهو اللجوء دائما لطلب القروض من اجل الغذاء وهو ما سيكون مطبّا صعبا في طريق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إستنادا إلى فشل الحكومات بعد سنة 2019 في إيجاد طرق صحيحة وحقيقية لتجاوز هذا المشكل الذي يهدّد غذاء ملايين الناس في تونس.

حاولت النظم الحاكمة في تونس ومن ورائها الحكومات المتعاقبة منذ السبعينات، سنوات نهاية نجاح الدولة في توفير الاكتفاء الذاتي، عدم الوقوع في هذا المأزق وفتح أي منفذ للتطرق إلى مسألة الأمن الغذائي رغم إختلاف السياسات الاقتصادية العامة والسياسات الزراعية بصفة خاصة وذلك لسببين الأول منهما هو أن ذلك يهدّد وجود صورة الدولة التي يحكمها النظام الواحد والسبب الثاني أن الأمن الغذائي هو المحدد الرئيسي لكل المخططات التنموية والمشاريع الاقتصادية رغم فشل أغلبها وأهم القلاع التي تضمن عدم قيام ثورة الجياع، أما بعد الثورة وإلى حدود سنة 2019 فقد حولت الحكومات مواصلة نفس السياسة الاقتصادية والزراعية مع تعويض الفشل بإثقال كاهل الدولة بالتداين لتغطية العجز الناجم عن ذلك، اليوم ومنذ سنة 2019 لم تجد الحكومات سبيلا لترقيع ما آلت إليه السياسة الزراعية وتراكم تجارب السياسات الاقتصادية قصيرة الأمد رغم محاولة إسترجاع قسم كبير من ممتلكات الدولة من الأراضي الصالحة للزراعة والفلاحة عموما إلا الكشف عن هذه الصورة المشوّهة وإعلان أن الأمن الغذائي، ضمان أبسط مقومات الحياة للمواطن في تونس، قد أصبح مهدّدا وأن شعار الحرب على الإحتكار والفساد لم يعد يجدي نفعا في المرحلة المقبلة خاصة وأن السياسة الزراعية الحالية قد تسببت في خفض قيمة المنتوجات الزراعية في مجال الحبوب مثلا من ثمانية مليون قنطار سنة 2021 إلى سبعة مليون قنطار سنة 2022 وذلك من إجمالي 33 مليون قنطار إحتياجات الدولة من الحبوب.

يرى بعض المتابعين والمختصين في الشأن الاقتصادي أن هذه "الأزمة الحاصلة في القطاع الفلاحي هي نتيجة لعقود من سياسات تهميش هذا المجال وضرب منظومات إنتاجه، وهو تهميش ممنهج هدفه تجويع الشعب التونسي وإخضاعه لدوائر اقتصادية خارجية"، حديث متداول ولا شكّ في موضوعيته ولكن الحلول التي تم تقديمها قد خضعت لطريق واحد وهو أن تعود للدولة سبل السيطرة التامة على هذا القطاع الحيوي وخلق الأطر المناسبة لتشجيع المستثمرين التي هجرت نسبة كبيرة منهم منذ عقود هذا المجال إلى مجالات السياحة والخدمات والتجارة البينية، هذا الطريق وإلى حدّ اليوم لم تجد له حكومات الرئيس قيس سعيّد منفذا مناسبا بسبب العجز عن توفير السيولة المالية الكافية لوضع سياسة زراعية ناجحة، ولعلّ ما يعانيه المستثمر المحلي أو بعض المستثمرين الأجانب في قطاع الفلاحة من صعوبات على مستوى الانتاج أو التسويق والتصدير وبيروقراطية الجهاز الاداري بعض المسائل التي لم تحاول الحكومة النظر فيها عن كثب وتجفيف المنابع أمام الأباطرة من رجال الأعمال المنتفعين من تدهور قطاع الفلاحة. 

فشل السياسات الاقتصادية العامة، قطاع الزراعة، وفشل السياسة المائية بتحويل النسبة المهمة من المياه لمجالات غير حيوية وعدم الحفاظ على الأراضي الصالحة للزراعة والتفويت فيها لمجال العقارات كذلك عدم الحفاظ على المواد الأصلية من البذور وتعويضها بأخرى تمت معالجتها كيميائيا ضمن المخابر، ضعف دعم وتشجيع المشاريع الصغرى مقابل دعم العاملين في مجال إستيراد المواد الأساسية والغذائية،  كل هذا وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي تشكّل منظومة متكاملة للقطاع الفلاحي والتي يجب على الحكومة الحالية مراعاتها قبل الغوص عميقا في تجربة "التداين من أجل الغذاء" عوض شعار الاستجابة لصمود الأمن الغذائي.