إن التنمية هي مصطلح اقتصادي نعني به مجموع القرارات والإجراءات والمشاريع التي تهدف إلى الاستغلال الأمثل للإمكانات المادية والبشرية بهدف تحقيق التطور الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية لأبناء المجتمع ، في حين أن مصطلح التقدم يعني الحركة نحو الأهداف المنشودة والمقبولة والتي يتحقق من ورائها تطور إيجابي نحو وضع أفضل ، ويُعد مفهوم التقدم أرقى واشمل من مفهوم التطور من حيث الثقافة والقدرة الإنتاجية والسيطرة و الاستغلال الامثل للموارد الطبيعية، ونقيضه التخلف والذي يعتبر ظاهرة تختصّ بها البلدان التي تعاني ضعف النمو الاقتصادي ، ولعل ابرز سمة للاقتصادات المتخلفة هي التركيزعلى إنتاج المحاصيل الزراعية و استخراج المواد الأوّلية من باطن الارض مقابل ضعف الأنشطة الصناعية التحويلية و نقص الخدمات ، وانحدار خدمات التعليم والصحة.

ان الشعوب المتخلفة على وجه العموم هي تلك الشعوب التي تنظر إلى مافي باطن الارض كمصدر عيش وقوت لابديل عنه ، والادهى من ذلك هو ان الشركات الغربية هي التي تقوم باستخراجه إما بنسب مشاركة اوبنسب ارباح عالية ، لتنشأ بعد ذلك صراعات على عوائد هذه الموارد والتي تعتبر في جوهرها رخيصة نوعاً ما لانها لازالت خام وغير جاهزة للاستهلاك ، فالنفط الخام على سبيل المثال رغم سعره العالي نسبياً حالياً الا ان تكريره سيرفع من قيمته الى اضعاف مضاعفة ، وان مناطق الانتاج بالقارة الافريقية تتوزع في شمال وغرب وجنوب غرب القارة، وانه يُصدر كخام ليتم تكريره في اوروبا وامريكا الشمالية والشرق الاقصى ليعاد تصديره لبلدان الانتاج نفسها في صورة نفط مكرر ، او سلع جاهزة ، او مواد انتاج نصف ُمصنعة او شبه نهائية ، وهذه المنتجات المتنوعة هي اغلى بكثير من سعرالخام نفسه .

تُعرف قارة افريقيا بأنها احد قارات العالم القديم الثلاثة ، وواحدة من قارات العالم الستة ، كما عُرف عنها ايضاً بأنها اكثر القارات تأخراً عن ركب الحضارة الانسانية بالرغم من انها من بين الاغني بالموارد على الاطلاق، ناهيك عن الموقع المميز والمناخ المعتدل ، وكان وسيبقى الانسان هو المحور الرئيسي في هذا الوضع البائس لهذه القارة ، وبدون ادنى شك يُدرك الغرب المستعمر بأن التعليم هو المفتاح في نهضة اي امة ، وبالتالي فقد عمل على مدار قرون على الحفاظ على معدلات متدنية من التعليم والصحة في القارة الافريقية وبالاخص في المنطقة الواقعة بين المدارين حيث الموارد الطبيعية الهائلة من حيث الحجم والنوع ، وبالتالي فبمجرد تعلم ابناء هذه الدول وتفتحهم على العالم فإن ذلك سيرفع لديهم الحس الوطني والشعور بالمسؤولية، وبالتالي سينهوضون ببلدانهم وان يجعلو مافي باطن الارض مصدر عيش للسكان الاصليين ، ولعل النهضة التي شهدتها بعض الدول في اقصى طرفي القارة يصب في هذا الاتجاه.

ان الحروب في القارة الافريقية سببها في المجمل اما قبلي (ديني / صراع نفوذ/ مناصب....الخ) او صراع على الموارد ، وهذا النوع من الصراع يقود للصراع القبلي او حتى للتطهير العرقي ، وكما اشرت فان التعليم هو المفتاح لحل كل هذه المشاكل والصراعات، ولنا في نهضة الصين خير مثال ، فالصين التي كانت دولة متخلفة قبل أربعون عاماً هاهي اليوم تُعد الدولة الاكثر تصنيعاً وتصديراً في العالم وثاني اكبر اقتصاد في العالم متفوقة على جارتها اليابان بسبب الزاد البشري ومساحة الارض ورخص اليد العاملة ، وبنظرة فاحص لسبب هذه الطفرة نجد ان التعليم كان هو كلمة السر ، فالمسؤولين الصينيين ادركو مطلع الثمانينات ان الانغلاق خلف الجدار الشيوعي سيخلق مزيد من المشاكل في بلد يشكل عدد سكانه 6/1 سكان الكوكب وعدد المساجين به يناهز ربع سكان الوطن العربي ، فرسمت الصين سياسات متنوعة مبنية على اساس علمي صحيح تكون فيه مصلحة الصين فوق الجميع ، وسنت قوانين صارمة كان اولها اعدام اي مسؤول مهما كان منصبه او مركزه ثبت انه مسؤولاً عن فساد او اهدار موارد البلد.

إن القارة السمراء كانت ولازالت تمزقها المجاعات والحروب الاهلية في مشهد عبثي ومتكرر كنتيجة مباشرة للجهل والتخلف ، ولكن هناك تجربة لدولة افريقية تستحق الذكر والاشادة لانها حققت طفرة شبيهة من حيث الشكل بطفرة الصين وان كانت بعيدة كل البعد عنها من حيث المضمون (لأن الصين قوة عالمية عابرة لحدودها) ألا وهي رواندا والتي أُشير اليها دائماً في كل مقالاتي كنموذج يحتذى وقريب للحالة الليبية ، ولكن مايميز التجربة الرواندية هو أن المسؤولين الروانديين تفوقو على نظرائهم الليبيين ، فكفائتهم وحسهم الوطني المرتفع منذ توليهم زمام الامورعقب انتهاء الحرب الاهلية كان هو المعيار، واذا كانت العبرة بالنتائج فإنه على النقيض من ليبيا فان ماتشهده رواندا اليوم هو نهضة وطنية  شاملة بكل المقاييس.

لقد كانت سمة الاقتصاد الرواندي هي الحروب والمجاعات والفقر والتخلف، حيث أدت الحرب التي وقعت بين عامي 1990 – 1994 إلى إبادة جماعية لقبيلة التوتسي ونجم عنها مقتل أكثر من 800 ألف شخص من طرفي الصراع (التوتسي والهوتو) وهي بالتالي نقيض الثورة الفرنسية التي أتت على الاخضر واليابس وحصدت مئات الالاف من الارواح كان اولهم اولئك الذين هتفوا لها وبحت حناجرهم من اجلها ، ولم تُؤتي أكلها الابعد عقود ، ولكن الارث التاريخي والثقافة العامة للشعب الفرنسي لعبت دوراً هاماً في اعادة الامور الى النصاب الصحيح ، لتعود وتتبوأ فرنسا مكانتها العالمية المعهودة. من زاوية النموالاقتصادي: فالاقتصاد الرواندي من

الاقتصادات التي لا تعتمد على الموارد من أجل النمو (عكس الاقتصاد الليبي تماماً) ، لكنه يتقدم مع تبني الإصلاح الاقتصادي الرشيد (الحوكمة) وبالمناسبة فرواندا هي الاولى في هذا الجانب افريقياً والسادس عالمياً بنهاية العام 2017 ، بالاضافة الى تعزيز القدرات التنافسية لجميع الجوانب الاقتصادية، وبلغة الارقام يُعد الاقتصاد الرواندي واحد من أسرع الاقتصادات نموًا في أفريقيا، حيث بلغت نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي 8% على اساس سنوي بين عامي 2001 و2017، ويتوقع صندوق النقد الدولي نموًا مرتفعاً بحلول نهاية العام 2018 ليفوق 8%، وبالطبع تعتبر هذه المعدلات عالية جدًّا مقارنةً بمتوسط نمو الاقتصاد العالمي الحالي، ووفقًا لصندوق النقد الدولي أيضاً فإن نمو الاقتصاد الرواندي خلال العقد الأخير قد أعتمد بشكل رئيسي على قطاعات البناء والزراعة والصناعات التحويلية لكن مع تباطوء صادرات التعدين ، وعلى المدى الطويل فإن الحكومة الرواندية تهدف لتحويل البلد من الاقتصاد القائم أساساً على الزراعة (ذات المردود المنخفض) إلى اقتصاد متنوع وموجه نحو الخدمات القائمة على المعرفة بحلول عام 2020 ، وتجدر الاشارة الى ان هذا هو مانوهت عنه في اكثر من مناسبة وعبر اكثر من مقال وهو ضرورة تبني بدائل اقتصادية حقيقية للدولة الليبية بعيداً عن الريع ، كما انني قدمت بدائل واقترحت ان يكون اقتصاد المعرفة واقتصاد الخدمات هما الاساس في الاقتصاد الليبي الجديد ، مع التوسع في منح التسهيلات والقروض للاسر والشركات الصغيرة التي تعتمد على المواد الخام المتوفرة محلياً ( وبالاخص مصانع التمور وتعليب الاسماك ومعجون الطماطم وتعبئة المياه والمشروبات....الخ ) وهذا يتم بالتزامن مع تشجيع الموظفين على ترك الوظيفة العامة ، كما كنت قد اشرت ايضاً الى ضرورة الاستفادة من موقع ليبيا الجغرافي اقتصادياً والمتمثل في ضرورة انتاج وتصدير الطاقات المستخرجة من مصادر نظيفة ومتجددة ، والتوسع في نشاط الصيد البحري والمزارع السمكية ، وخدمات النقل بأعتبار أن ليبيا تمثل عمق اوروبا في القارة الافريقية على أن تشمل هذه الخدمات على سبيل الذكر لا الحصر انشاء المناطق الحرة ، والمراكز اللوجستية ، والمناطق الصناعية ، والمواني البحرية ، والموانئ الجافة ، و خدمات النقل الجوي ، وتحسين الخدمات بالمطارات.

أما من زاوية الفقروالبطالة ، وبحسب احصاءات البنك الدولي فقد انخفضت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في رواندا من 57% في عام 2005 إلى 45% في عام 2010 (مستوى خط الفقر يعني دخل الفرد أقل من 1.25 دولار لليوم)، ويُعد هذا الانخفاض من بين الأسرع في الدول النامية ، فيما بلغ معدل التضخم بنهاية العام 2015 نسبة 2.5% ، كما بلغ معدل الدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بنهاية نفس العام نسبة 33.7% ، و الدين الخارجي لرواندا حوالي 1.7 مليار دولار.

وبعيداً عن الاقتصاد فإن المؤشرات الاجتماعية في رواندا قد تحسنت كثيرًا ، حيث أزداد معدل متوسط أعمار السكان ، وتشير منظمة اليونيسيف ولكن دون ذكرها لاي ارقام او احصائيات الى أن رواندا لديها أعلى معدلات التحاق بالمدارس الابتدائية في أفريقيا جنوب الصحراء، بالتزامن مع تحسن ملحوظ في الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية ، وتُركز الحكومة الرواندية في  قادم السنوات على تحسين نوعية التعليم (التعليم التقني والفني) وبناء القدرات بالاعتماد على جودة المدخلات ، هذا فضلاً عن البرامج الناجحة المبذولة لمحو الأمية والتي تعد من اكبر الهواجس بالبلد ، وفي هذا الاطار فقد نوهت عبر أكثر من مقال الى ضرورة أن تتبني الدولة الليبية نظامي التعليم التقني والفني بشكل أوسع ضمن خارطة تعليمية وطنية تتفق مخرجاتها مع خارطة اقتصادية وطنية معدة مسبقاً طبقاً للموارد المتاحة ، وبشرط ان يتم بالتزامن مع تحديد سقف لبرامج الدراسات العليا بالداخل والخارج (ماجستير ودكتوراه) على ان تكون مخرجاته متناغمة مع حاجة سوق العمل وبجودة عالية ومقاييس عالمية ، وعدم الاكتفاء بتخريج اعداد غفيرة بعقول جوفاء لاتحمل الا شهائد كرتونية.

واذا كان التعليم هو مفتاح النهضة فانه مكافحة الفساد هي احد غاياته ، وفي هذا الجانب وبحسب مؤشر الفساد «CPI» لعام   2017الصادرعن منظمة الشفافية الدولية فإن رواندا تُعد أقل البلدان فسادًا في أفريقيا وتحتل المركز 50 عالميًّا، وعلى النقيض من ذلك فان ليبيا من أكثر الدول فساداً في العالم وتحتل الترتيب 170 من اصل 176 دولة شملها المؤشر، ويُشير التقرير ايضاً الى التحسن الكبير في محاربة رواندا للفساد والى عزم الحكومة على اتخاذ المزيد من الخطوات لتصبح رواندا خالية تماماً من الفساد ، وهذا التحدي يمثل قوة الارادة ورجاحة الحس الوطني للحكومات الرواندية المتعاقبة في بلد بائس وجائع نهض للتو من براثن حرب اهلية .

أختم بالقول..... إنى أرى أن الفرصة مواتية في ليبيا للانطلاق نحو تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، وعلى الساسة الليبيين (إن كان ثمة ساسة أصلاً) ان يتركو الخبز لخبازه:- فالاقتصاد والتعليم والصحة (على الاقل) بحاجة الى متخصصين واكفاء يكون همهم الاول الوطن وغايتهم خدمة المواطن ومنهجم في ذلك هو البراغماتية (وهو مصطلح يعتبر نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة، ويربط بين التطبيق والنظرية) ، واما الحكم ومن يحكم فهو اخر مايهـم العقلاء و المتعلمين او حتى عامة الناس، لان السياسة والحكم لايخضعان لمعاييرعلمية أو حتى للمنطق في بعض الاعيان.

كاتب ليبي 

الخبير الليبي في اقتصاديات النقل والتجارة الدولية

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة