مصطفى حفيظ

لا يختلف اثنان على كون اللغة الإنجليزية هي الأكثر تداولا في العالم، سواء تعلّق الأمر باستخدامها كلغة تدريس للعلوم والتكنولوجيا في أغلب جامعات العالم، أو استعمالها كوسيلة تواصل في عالم المال والأعمال، حتى في شبكة الأنترنت، تحتل الإنجليزية الصدارة من حيث نشر الأبحاث العلمية والمعلومات، لكن في بلداننا المغاربية، بالأخص تونس والمغرب والجزائر، ما تزال الفرنسية هي الغالبة، واليوم، يبدو أن الجزائر على خلاف جارتيها الشرقية والغربية، بدأت تفكّر في إزاحة الفرنسية من الواجهة ومحاولة إيجاد طريقة لاستخدام الإنجليزية بدلها، فهل هي جاهزة فعلا لذلك من حيث الواقع العملي؟ أم أنّ الأمر لا يعدو إلا أن يكون صراعا أيديولوجيا بين النخبّ المفرنسة والمعرّبة؟ 

بمجرد أن أبدت السلطة نيتها في إيلاء أهمية للغة الإنجليزية في التعليم، وبالأخص في تدريس العلوم، طفا ذلك الصراع الأيديولوجي بين الفرنكفونيين والمعرّبين على السطح من جديد، وزاد الاعلام الخاص من حدّته، وصبّ الجميع غضبه على كل ما يرمز للثقافة الفرنسية، وتحول الأمر إلى خطاب شعبوي، وخلفية ذلك طبعا كانت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المسيئة للجزائر، فهي التي حرّكت المياه الراكدة في هذا الصراع، فبالرغم من أن السلطة لها مبرراتها في ابداء نيتها في التخلي عن الفرنسية كلغة النخبة الحاكمة والإدارة التي في أغلبها مفرنّسة منذ استقلال البلاد سنة 1962، إلا أنّ الواقع العملي يتطلب المزيد من الدراسة والتعمّق والاستعداد الجيّد على أكثر من نطاق من أجل تفعيل هذا المسعى الذي يراد به الارتقاء بالمستوى العلمي والتعليمي في الجزائر، لكن إلى أي مدى يمكن تحقيق ذلك؟

لعل في نية السلطة محو كل آثار منظومة الحكم التي سبقتها، من حيث أنّ الرئيس الأسبق الراحل بوتفليقة كان أكثر استعمالا للغة الفرنسية في خطاباته لدرجة أثّر ذلك على كل وزراءه والمسؤولين من حوله في الإدارات والجامعات والمؤسسات العمومية، لقد كانت إدارة بوتفليقة مفرنسة أكثر، وكانت علاقاته مع فرنسا جيّدة، وفتح المجال وقتها للكثير من الشركات الفرنسية للاستثمار في الجزائر، لكن بعد الحراك الشعبي وسقوط حكم بوتفليقة، رأينا كيف بدأ النفوذ الفرنسي في الجزائر يتراجع، وكانت المؤسسة العسكرية السبّاقة في التخلي عن الفرنسية في مراسلاتها الرسمية واستبدلتها بالإنجليزية والعربية، والآن مثلما هو ظاهر، تريد السلطة إعادة الاعتبار للغة العربية في المراسلات الإدارية، وهو ما شهدناه مؤخرا عندما أعلنت العديد من الوزارات تعريبها لكل مراسلاتها، لكن الظاهر أنّ تلك القرارات السريعة كانت في واقع الأمر مجرد ردة فعل سياسية على تصريحات الرئيس الفرنسي المسيئة للجزائر فقط.

بالرغم من ظاهر الأمر، وهو نية السلطة في تحريك وتيرة التعليم وترقيته بما يجعل مستوى جامعات الجزائر تلحق بركب الجامعات العالمية، لكنه يبدو شعبويا في مكنونه، لأنّ غالبية الشعب تحرّكه مسألة الهوية والثقافة، ولعلل أبرز عامل يحرك هذا النوع من الحساسيات هو اللغة، ولأن الفرنسية هي لغة مستعمر الأمس، فرنسا، فإنّ أي خطاب سياسي تنتهجه السلطة أو النخبة السياسية الحاكمة يتضمن مسألة لغة مستعمر الأمس، يحتضنه الشعب فورا، أو على الأقل، غالبية الشعب، لأنّ المدافعين عن بقاء اللغة الفرنسية مهيمنة على التعليم والإدارة في البلاد، هم في حقيقة الأمر أقلية، وربما حتى أقلية حاكمة، أو لنقل، ضمن النخبة الحاكمة والنخبة المثقّفة التي تُسيطر على الإدارة، هؤلاء معروفين في الجزائر باسم "الفرنكفونيين" أو "المفرنسين"، وهم الذين تلقوا تعليمهم بالفرنسية، أو لديهم حب للفرنسية كلغة وحيدة متعالية للثقافة، بينما على العكس من ذلك، نجد الكارهين للغة الفرنسية هم من عامة الشعب، أي الذين يصطلح على تسميتهم بـ "المعرّبين" أو "المعرّبون"، وهم من مخلّفات مشروع القومية العربية المدافعين عن عروبة الجزائر وهويتها، والرافضون لفكرة "أمازيغية الجزائر"، هؤلاء، هم الذين يدافعون حاليا عن مشروع استبدال الفرنسية بالإنجليزية في التعليم، بالأخص تعليم العلوم والتكنولوجيا، بينما أغلب الوحدات التعليمية في الجامعات هي بالفرنسية، والقليل منها بالإنجليزية.

لكن، وبرغم أن النهوض بالتعليم في الجزائر، سواء في الابتدائي، المتوسط والثانوي، أو الطور الجامعي، هو حاجة أكثر من ضرورية، بالنظر إلى تلك التصنيفات العالمية لجودة التعليم في العالم، وبغضّ النظر عن مصداقيتها، إلا أنّ التعليم في الجزائر يحتاج فعلا للتقييم من حيث المناهج المستعملة، والتي في غالبها مستوردة، ومن حيث النظام المطبّق خاصة في الجامعات، وهو نظام (LMD)، وكثيرا ما طرحت مسألة مصدر هذه المناهج والإصلاحات التي أدخلت على المنظومة التعليمية في البلاد، حتى أن بعض المصادر الإعلامية الجزائرية نقلت عن خبراء في المجال، بأن الإصلاحات التي تمت في فترات حكم بوتفليقة كانت مستوردة من فرنسا، واشتغلت عليها مكاتب متخصصة فرنسية، الأمر يتعلق بقطاع التربية والتعليم.

إنّ هذه الإصلاحات لم يتم تقييمها تقييما عمليا منذ ذلك الحين برغم الحاح نقابات القطاع في أكثر من مناسبة، ونظّمت على إثرها العديد من الإضرابات، لكن لم يتم اخذ الامر على محمل الجدّ، ضف إلى ذلك عدم تقييم الإصلاحات التي أدخلت على التعليم الجامعي في الجزائر، فنظام (LMD)، المقصود به: البكالوريوس، الماستر، الدكتوراه، تم إدخاله للجامعة سنوات 2006 و2007 وهو مستمر لحد الساعة، لكن لم يتم تقييمه من حيث جدوى تطبيقه لأزيد من عشر سنوات، أي هل كان فعّالا من حيث التحصيل العلمي؟ وهل سمح للجامعة الجزائرية من تبوؤ مرتبة محترمة ضمن الجامعات العالمية، العربية، الافريقية...؟ 

نعود للسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح وهو: ممكن أن تحل الإنجليزية محل الفرنسية في الواقع العملي؟ أم أن الأمر مجرد رغبة السلطة في التخلّص من لوبي فرنسي عشعش في الجزائر لسنوات، وتغطرس مع فترة حكم بوتفليقة؟ وبالتالي، تسويق الفكرة شعبويا بحيث يحتضنها غالبية الشعب الذي يكره فرنسا ويكره لغتها التي ترمز لماضيها الاستعماري، ومثلما ذكرنا سابقا، فالمسألة هذي لها خلفيات سياسية وشعبوية، فالسياسي كما هو واضح، هو تلقين فرنسا درسا بالتقليل من تواجدها الثقافي في الجزائر، عن طريق محاربة النخبة الفرنكفونية أو اللوبي الفرنسي في الجزائر، لأن جانب من هذا حقيقي، والجانب الآخر، هو كون المسألة متعلقة بصراع الهوية واللغة في الجزائر، بين المعربين والمفرنسين، دون نسيان رائحة الاسلاموية في الأمر، لأن الاسلاموين يدعمون الإنجليزية باعتبارها لغة محايدة، وهو إن صح التعبير، انتقام عروبي/اسلاموي من الفرنسية التي ترمز في الجزائر لنخبة تُصنف على أنها علمانية ومفرنسة ومثقفة بالثقافة الفرنسية الغربية، ولها مشروع تغريبي في الجزائر، ووجب محاربتها بالتضييق على الفرنسية كلغة مهيمنة في التعليم وفي الجامعة.

لكن، وهو الأهم، هل فعلا مشكلتنا في الجزائر هي الفرنسية؟ وهل ستحل الإنجليزية المشكلة إن تم ادراجها كلغة تعليم العلوم في الجزائر؟ لكن ماذا عن اللغة التي يستعملها الأطباء؟ كيف سيدرس طلبة الطب بالإنجليزية مثلا وكل أساتذتهم من دكاترة وبروفيسورات لا يعرفون سوى الفرنسية؟ الأكيد أن قرارات جادة وصارمة من جانب السلطة قد تخلق العديد من الأزمات في الجامعة بالأخص، لأنه من غير المعقول أن يتم فرض لغة تدريس لا يجيدها من يقوم بالتدريس، وإلا فسيتم تعويضهم بآخرين يتقنون هذه اللغة، ثم هل سيتم الغاء مناهج التعليم السابقة في كل التخصصات؟ أي، هل ذلك ممكن من الناحية العملية؟ لأن الأمر يتطلب دراسات وابحاث معمّقة من جانب مختصين في المجال، سواء في قطاع التربية أو قطاع التعليم العالي، وأيضا، ما مصير كل أولئك الأساتذة الذين تلقوا تعليمهم من قبل بالفرنسية وهم الآن يدرّسون في المدارس والمتوسطات والثانويات والجامعات؟ هل سيتم اقصائهم؟ أم سيتم تقليل الحجم الساعي للوحدات التي يدرّسونها؟ 

إذن، هل ستنجح السلطة في المرحلة الراهنة في تنفيذ هذا المشروع بكل أبعاده؟ وهل سيتم فعلا تقويض دور اللوبي الفرنسي في الجزائر وتقليم أظافر الفرنكفونيين في كل الإدارات العمومية بالأخص؟ أم أن المسألة كانت مجرد هوشة إعلامية وشعبوية عبر السوشل ميديا ومن خلال الخطابات السياسية الحزبية ردّا على تصريحات الرئيس الفرنسي الذي أساء للجزائر وتاريخها؟