برهان هلّاك

يبرز قاسم مشترك بين الوضع الصحي الوبائي الطارئ والأوضاع الاقتصادية بتونس ألا وهو تحديق مذعور في هاوية سحيقة من الانهيار تخطو نحوها البلاد باستمرار، إذ تشهد تونس ارتفاعا مخيفا لعدد الإصابات وتراجعا مستمرا لطاقة استيعاب المستشفيات والمؤسسات الصحية في القطاعين الخاص والعام. وهي قدرة محدودة ،أصلا، في ظل بطء نسق تلقيح التونسيين وضبابية الإستراتيجيا التطعيمية. إضافة إلى نصب الأعين نحو إفلاس قادم، لا محالة، إذا ما ظلّ الوضع الاقتصادي على ما هو عليه. فلقد تعطلت الآلة الإنتاجية، وارتفع التضخم المالي، الذي انعكس على المؤشرات الاجتماعية سلبا، من حيث الأرقام الصادمة عن نسب الفقر بالبلاد.  لذلك تجب الإشارة إلى علّة هذا الإخفاق في إدارة الشأن الصحي الطارئ والكارثي المنجر عن التفشي الرهيب لعدوى فيروس كورونا بتونس، إذ تتمثل في منظومة الحكم بحكومتها وحزامها السياسي وكل المتواطئين خنوعا أو طمعا في مغنم ما، عادة ما تتم شرعنته وتقنينه في هيأة صناديق ومخصصات معينة تضمن للمستفيدين كسبا ماديا ورصيدا انتخابيا في قادم محافل الاقتراع. وفي هذا الإطار يندرج الجدل حول صندوق الكرامة لتعويض ضحايا الاستبداد والديكتاتورية بتونس.

لقد بلغت المؤسسات الصحية بتونس طاقة استيعابها القصوى بعد أن نفدت الشغورات بغرف الإنعاش المليئة بالمصابين بفيروس كورونا. مما يزيد من حجم الضغوطات على نظام صحي منهك، أصلا، إذ تمتلئ أجنحة العناية الفائقة عن آخرها بسبب الأعداد المتزايدة للمصابين بالفيروس، الذين تستلزم وضعياتهم الإقامة بهذه الأجنحة. وتتجاوز أعداد المصابين أعداد الذين تلقّوا اللقاحات في إطار حملة التطعيم المحدودة بسبب نقص الإمدادات. وهذا ما يغذّي مخاوف انهيار القطاع الصحي.. تقول ممرضة مذعورة بمشفى محافظة مدنين بالجنوب الشرقي، وهي ترتدي بدلة واقية، "الأسرّة لدينا ممتلئة وليس عندنا مكان شاغر". وذلك جراء ارتفاع الطلب على الأكسيجين وارتفاع الحاجة للخدمات، التي تقدمها غرف العناية الفائقة بالمستشفيات. ولقد أدلت بهذا التصريح لتتّجه على إثر ذلك صوب موقع عملها في أحد أجنحة العناية الفائقة بذلك المستشفى، حيث تعمل رفقة كافة زملائها بكامل طاقتهم وطاقة المستشفى من العناصر والأطر الطبية والتجهيزات لإغاثة المرضى، الذين يتنفسون بصعوبة في وحدة رعاية فائقة، لم تنل رعاية الدولة تشريعا وتمويلا وصيانة وتطويرا

وتتوضح خطورة الوضع الصحي الناجم عن الانتشار السريع لعدوى فيروس كورونا من خلال جنوح محافظي ولايات تونسية عديدة (على غرار العاصمة تونس ومحافظات سوسة والقيروان وباجة ومدنين) لإعلان الحظر الصحي الشامل وإغلاق المحافظات إغلاقا تاما نظرا لسرعة تفشي العدوى بسلالة دلتا (المتحور الهندي) شديدة الخطورة. إضافة إلى تنامي الحاجة إلى نقل أعداد مهولة من المرضى يوميا إلى المستشفيات، في بلد لا يملك سوى نحو 500 سرير فقط بوحدات العناية الفائقة المملوءة عن آخرها في كثير من المحافظات التونسية.

إن فشل منظومة الحكم، وخاصة حركة النهضة، وهي الحزب ذو الأغلبية النسبية  المنتصر في الانتخابات التشريعية الأخيرة (أكتوبر 2019 )، في الوفاء بالوعود الانتخابية، التي مثل جزء هام منها إصلاح النظام الصحي والبنية التحتية الاستشفائية العمومية وتطويرهما. بل على العكس من ذلك، فقد شجعت وسهّلت الاستثمار في القطاع الصحي الخاص، الذي بات يحتكره الآن رجال أعمال مقربون من الحركة (وهذا معلوم لكل متابع لهذا الشأن)، وهو قطاع يرفض اليوم أي حديث عن تسخير المصحّات الخاصة ويضغط من خلال أطره شبه النقابية لمنع أي قرار بالتسخير قد تتخذه السلط، وهو أمر مستبعد في كل الأحوال نظرا لمهادنة منظومة الحكم لكبار المستثمرين أصحاب هذه المشاريع الاستشفائية الخاص

كما أن ذباب حركة النهضة الإلكتروني (التسمية التي تطلق على الجيش الإلكتروني لحركة النهضة شديد النشاط و التطرف على شبكة الأنترنات ومنصات التواصل الاجتماعي بالخصوص) يروّج لنجاحات مبالغ في تقديرها للـ "الجنرال" عبد اللطيف المكي  أحد قيادات حركة النهضة، الذي تقلد منصب وزير الصحة في حكومة إلياس الفخفاخ عند بداية أزمة كوفيد 19- في مارس 2020. ويسعى المكون النهضاوي لمنظومة الحكم، من خلال الترويج لهذا التقدير المبالغ لشخص السيد عبد اللطيف المكي، إلى التغطية عن إخفاقه في إدارة الأزمة الصحية في ظل حكومة هشام المشيشي، التي تدعمها حتى اليوم. إلى جانب التغطية عن خطإ جسيم تمثل في السعي لإسقاط حكومة إلياس الفحفاخ (عبر إثارة ملف تضارب المصالح، آنذاك، واتهام الفخفاخ بالفساد تبعا لذلك)، والتي يعتبرها الكثير من التونسيين من أكثر الحكومات جدية في التسيير والتعامل مع أزمة الكوفيد 19. إن المفاخرة بهذه الإنجازات المفترضة للسيد الوزير السابق للصحة عبد اللطيف المكي يندرج في باب استرجاع جزء من الخزان الانتخابي، الذي لطالما كان ثابتا، خاصة في جغرافيات محددة بتونس، حيث قضى جزء كبير منه نحبه نتيجة لهذا الفشل والمناورات السياسية الدنيئة في ظل مواجهة الشعب التونسي لخطر فناء وبائي.

وكأن كل هذا الإخفاق لا يكفي لأن يستفيق المكون النهضاوي لمنظومة الحكم بتونس من هذيان وسعار سياسوي قاتل، فقد فجر نفس هذا المكوّن ملفّا، هو بمثابة السقطة القيمية والأخلاقية، يتمثل في ما يسمى بصندوق الكرامة لتعويض ضحايا الاستبداد والديكتاتورية. لقد طالب الإسلاميون، على لسان رئيس مكتب شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني في فيديو منشور على الملإ، الدولة بضخّ مبلغ يقدر بثلاثة مليارات دينار تونسي لتمويل هذا الصندوق لصرف التعويضات وتقوية التبرعات واسترجاع النواة الصلبة للأتباع والمتعاطفين والمتحمسين للأجندة الإخوانية، وذلك ضمانا للولاء والبراء وفي تدليل صريح على أهم آليات اشتغال العقل الإخواني في تعامله مع الحكم والسلطة، باعتبارهما مصدرا للغنيمة ووسيلة لتقوية الشوكة في مسار التمكين.

إنّ صندوق التعويضات المسمّى "صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد" قد تمّ إحداثه من قبل المجلس التّأسيسي في إطار قانون الماليّة لسنة 2014، وبالتحديد في الفصل 93 من هذا القانون ورد:« أُحدث حساب خاص يطلق عليه إسم "صندوق الكرامة ورد الإعتبار لضحايا الاستبداد " ويتولى المساهمة في التعويض لضحايا الاستبداد في إطار العدالة الانتقالية. وتُضبط طرق تنظيم الصندوق وتسييره وتمويله بأمر». مما يعني الإبقاء على طرق تسييره وتمويله لأمر من رئيس الحكومة، حسب العرف الدستوري المؤوّل لمعنى الأمر المنظّم لهذا الصندوق. وليصدر أمر حكومي سنة 2018 يتعلّق بضبط طرق تنظيم وتمويل صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد وتسييره وتمويله، التي حصرها في أربع مصادر:

 *تمويل الصّندوق عن طريق نسبة من الأموال التي أعادها من ثبت عليهم سرقة أموال عمومية والاستفادة بطريقة غير شرعية من أموال الشعب التونسي، ممّن عقدوا صلحا مع هيئة الحقيقة والكرامة واتفاقا على دفع تعويضات لميزانية الدولة التونسية، وهو ما يعني تحويل جزء من هذه الأموال المسترجعة لميزانية الدولة و ليُدفع الجزء الآخر كتعويضات لضحايا الاستبداد.

الهبات والتبرعات والعطايا غير المشروطة

كل المصادر الأخرى، التي يمكن رصدها لفائدة الصندوق طبقا للتشريعات الجاري بها العمل.

دفعة من ميزانيّة الدّولة بقيمة 10 ملايين دينار تونسي تُرصد لهذا الصّندوق ما أن ينطلق عمله، و قد تمّ رصدها منذ سنة 2019.

إن المطالبة المقرونة بالتهديد وفرض آجال محددة لضخّ هذا المبلغ في الصندوق ( 2 جويلية 2021 حسبما حدّده القيادي بحركة النهضة ورئيس مكتب الشورى عبد الكريم الهاروني في الفيديو، الذي يوثق اجتماعا له بأنصار الحركة بتونس العاصمة) لا يعكس سوى منطق جلب الغنيمة للحركة وأنصارها، إذ لا يجد المتابع فيه غير ذلك نظرا للمغالطات القصدية القائم عليها مثل هذا المطلب. إن أولى هذه المغالطات هي الإيهام عبر إنشائيات ركيكة صياغة وقصدا بالتعفف عن مال الدولة والمجموعة الوطنية، إذ طالما أكد الإخوان بتونس على أن تمويل هذا الصندوق لن يكلف الموازنة المالية للدولة التونسية شيئا غير مبلغ 10 ملايين دينار تونسي، الذي مثل أحد مصادر تمويل الصندوق، وتم ضخّه منذ تفعيل الصندوق. وهاهم اليوم يخلفون ما عاهدوا الله وعباده عليه ويطالبون بتمويل هذا الصندوق من أموال اليتامى، الذين هم التونسيون الفاقدون لسند دولة تحميهم من مثل هذا الجشع والنزعة اللصوصية!

كما أن هناك مغالطات ونوايا سيئة أخرى تشوب تفجير مثل هذه المطلبية في هكذا وضع وطني كارثي. ففيما يتعلق بالمصدر الأول لتمويل الصندوق عن طريق نسبة من الأموال التي أعادها من ثبت عليهم سرقة أموال عمومية، فإن برلمان سنة 2014، أي سنة إصدار قانون الصندوق، والذي كانت النهضة ثاني أقوى من مكوناته بعد حزب نداء تونس، لم يحدّد النّسبة من أموال الشعب التونسي المسترجعة، التي سيتم إيداعها بميزانيّة الدولة التونسية والنّسبة التي ستعود لصندوق التّعويضات. بل ترك أمر تحديد هذه النّسب لأمر حكومي يصدر لاحقا، وفي ذلك ترك لهذه المسألة التنظيمية في مهبّ الغموض والتخبط، بإعتبار أن مثل هذه المبالغ لا يمكن تقديرها بشكل دقيق جدا، إذ ترتبط بقيمة محاضر الصلح المبرمة من قبل هيئة الحقيقة والكرامة وبتقديرات المبالغ التي ثبت اختلاسها أو سرقتها بالفعل.

بالإضافة إلى ذلك فإن الأمر الحكومي المنظم للمصدر الثاني للتمويل، أي الهبات والتبرعات والعطايا غير المشروطة، لم يحدّد الجهات المانحة لهذه العطايا والتبرعات. وذلك رغم محاولات تكييف الإخوان لهذه المسألة بما يتماشى مع اصطفافاتهم في إطار صراع المحاور بالثناء على الدور القطري والتركي في تمويل وتعويض من طالهم أذى الديكتاتورية.

أما فيما يتعلّق بالمصدر الثالث من مصادر تمويل صندوق الكرامة، الذي أتى في شكل لغوي فضفاض يتمايل في مجرى رياح التأويلات العاتية "كل المصادر الأخرى التي يمكن رصدها لفائدة الصندوق طبقا للتشريعات الجاري بها العمل"، فإن نفس الأمر الحكومي الصادر لتنظيم شؤون هذا الصندوق (الأمر الحكومي عدد 211 لسنة 2018 ) لم يحدّد ماهية هذه المصادر الأخرى، وإذا ما كانت التشريعات المنظمة لها تتصل بقوانين أو أوامر حكومية، أو أن هذه التمويلات متأتية من ضرائب أو قروض تتكفل بها الدولة أو جزء من مداخيل الثروات الطبيعية أو المؤسسات العمومية، حسب ما تشير إليه الصفحة التونسية المختصة بالشؤون الإقتصادية على الفيسبوك "الاقتصاد بالفلاقي ". 

إنّ هناك ترويجا لبطولات وهمية في مقاومة الوباء والأوضاع الصحية الطارئة، في حين يثبت الواقع مدى هول مأساة شعب تُرك ليواجه مصيرا مظلما، إذ يجرفه الموت الجماعي بشكل بطيء نحو العدم. كما أن هناك تعففا مدّعى عن قليل مال التونسيين، في حين يتم التكالب على كثيره بمسميات التعويض عن سنوات جمر (من المفترض أن يكون الانخراط في ظلها في العمل النضالي ضد الاستبداد خيارا شخصيا لا ينتظر التعويض المادي(. إنه ضرب من مخرجات عقل مهووس بالتمكين وراغب في الإمارة ولو على الحجارة والأشلاء، مع تذكية لأرواح المتعاطفين والمنتمين المضلّلين من البروليتاريا الغيبية الرثّة. مما يجعلهم سليلي ذات الأنظمة الديكتاتورية من حيث اصطباغهم بنفس السمات التسلطية والمغالطة، التي تهين الذكاء البشري وتصيّر له الفشل والإخفاق والتواطؤ على نهب الإنسان وإماتته نجاحات منقطعة النظير.