أبعاد وتفصيلات العملية الانتقالية 

تمر الدول بعد أزمات أو انقلابات أو ثورات في مسيرتها التطورية بمراحل إنتقالية الي أن تصل الي مراحل ترسيخية توطيدية، وهي مرحلة أطول زمناً وأكثر تعقيداً، وذلك من خلال دعم مسيرة شعوبها للتحول الي الديمقراطية – بالرغم من عدم وجود تعبير أو اتفاق دقيق  لتلك الوصفة والمصطلح-، وكثيرًا ما تكون المؤسسات العسكرية لها دور عميق في التغيير والإنتقال في تلك المراحل، وتقود مسيرة النضال كإمتداد او كرعاية للنظام الجديد. 

ولذا توجب ان نعرف ماذا يحدث في المراحل الانتقالية الثلاث )التحضير والقرار والتعود(؛ فالمرحلة الاولي التحضيرية تمثل الصراع بين كافة الكيانات وتتميز بالنضال دون الحاجة الي ان يكون الهدف هو الديمقراطية، وتتوجه المرحلة الثانية؛ او ما يعرف بمرحلة القرار، وهو ما تمر به الحالة الليبية في وقتها الراهن، الي توافق علي وحدة متنوعة لتحقيق الغايات، ومأسسة بعض الجوانب الحاسمة للتحول الي الديمقراطية، وتنتهي المرحلة الأخيرة؛ للإنتقال بالتعود أو بتوافق بين الساسة (الحكومة) والمواطنين (المجتمع المدني)، و الجيش والأمن (المؤسسة العسكرية) علي تطبيق التغييرات التي تتفق مع الهيكل القادم بشكله الديمقراطي الجديد، أو وفق التركيبات والثقافات المجتمعية المختلفة والبيئة الحاضنة. 

وهذه التدرجات والمساقات ستنعكس علي فترات قادمة من مرحلة التوطيد وتعميقها؟ الأمر الذي يضع تساؤلات وارتقاب لمعرفة واقعية وكيفية تعامل المؤسسات المدنية مع قوة المؤسسة العسكرية الأكثر تنظيماً وشعبية وقدرة، وعلاقة تلك الثلاثة اقطاب بعضهم ببعض، وما هي ماهية التحولات السياسية والاجتماعية التي ستواجه المسؤليات القادمة وكيفية تقسيمها وتقاسمها؟ أيضاً، سنجد أن الضغوط الخارجية والتوافقات المصلحية ستعمل علي تأثيرات لتحديد ملامح المراحل وتقاربها مع الاطار العام الدولي.  

الترانسيتولوجيا والحالة الليبية

إن العمليات الانتقالية من الحكم الاتوقراطي أو في حالات الانتقال بصفة عامة يقسمها الفقيه أودونيل ومجموعة من الاكادميين الي عمليتين أساسيتين وهما العملية الأولي؛ تنطلق من النظام موضع التغيير وتنتهي عند تنصيب حكومة ديمقراطية (كل حسب رؤيته للمصطلح)، والعملية الثانية؛ تبدأ وتستمر من تلك الحكومة لوصول الي ترسيخ للديمقراطية، وهو ما يصفه الفقهاء بمرحلتي الإنتقال والترسيخ. 

لقد كتب روستوف مقالة ذكر فيها؛ بأن بالإمكان أن يكون مجموعة صغيرة من القادة دور غير متناسب في مرحلة القرار. ذاكرا "اخطارا قد تهدد بنشوب الحرب الاهلية، ووصفها بأنها قد تكون الدافع للتغيير التدريجي"، وهو ما جسدته احداث كثيرة  في الدول الغربية كــ" إسبانيا"، ودول أفريقية "اثيوبيا"، ودول أمريكا اللاتينية، كما أشار وذهب أيضا في تحليله الي أن مرحلة القرار قد تتجه الي مراحل دعم للديمقراطية دون ان تكون الديمقراطية شرطاً في حد ذاتها.   

وللإنتقال من مجال التحليل العام الي التحليل الخاص، والتحول من الانتقال للتوطيد بشأن القوات المسلحة ودورها في التغيير والانتقال الليبي، فإن معظم الخبراء يؤكدون الإستفادة من استخدام النهوج الثلاثة والتكامل فيما بينها؛ الذاتي الثقافوي لشرح العمليات المؤدية الي قبول السيادة المدنية، وتتطلب دراسة الإصلاح العسكري في عملية الإنتقال ولو بحد أدني من الدقة والاستفادة، فالابقاء علي المؤسسة العسكرية هو ضمان النظام وبقاءه.  حيث تكون الفترة الانتقالية أقصر من فترة التوطيد او الترسيخ، فهي خطوات ومراحل للإحلال وتبديل القواعد الهيكلية السلطوية بطابع وصبغة ديمقراطية. 

الجوانب الوصفية  لمرحلة الترسيخ والتوطيد 

يري "ماريو كاسياغلي" في توجهه الي ان الترسيخ يحدث عندما يتم تداول السلطة، ويذهب لينز وستبيان الي القول ان الترسيخ هو ناتج عن انتخابات حرة كشرط كاف وضروري للديمقراطية. ويري "دي بالما" في وصفه للترسيخ هو بناء قواعد تنافسية قادرة علي منع اللاعبين الرئيسيين من مقاطعة اللعبة، ونري، بأن كل تلك الظواهر هو جزء في حلقات مكملة للمفهوم الشامل للتحول والتوطيد وثبات المفهوم الديمقراطي.  

لا أحد من الفاعلين الرئيسيين أو الأحزاب أو أصحاب المصالح او المؤسسات  أو الجماعات الضاغطة يري بأن هناك بديلا عن عملية الانتقال الي الديمقراطية، بما في ذلك الإسلاميين المعتدلين وفق تفصيلات تخضع لنهوج متنوعة وتتوافق مع الشريعة وتفسيراتها لتعميق منهج يلائم التطور المجتمعي المحلي والدولي، وهو ما سينعكس علي فترات قادمة من مرحلة التوطيد وتعميقها؟ الأمر الذي يضع تساؤلات وارتقاب لكيفية تعامل المؤسسات المدنية، والحكومات مع قوة المؤسسة الأكثر تنظيماً وشعبية – المؤسسة العسكرية-، وما هي ماهية التحولات السياسية والاجتماعية؟ وفي المقابل، نجد أن الضغوط الخارجية سيكون لها دوراً بارزاً   لممارسات القادم وتوافقاتها مع المؤسسة العسكرية.

المقامرة والمغامرة...إستراتيجية المجلس الرئاسي

إن توجه المجلس الرئاسي واطلاق حملته العسكرية وما قام به من منح تفويضات مالية للتدخل في الجنوب الليبي ضد القوات المسلحة وما حدث في مواجهات الهلال النفطي، وما يحدث الآن في مدينة سرت وضواحيها ومحاولة الاستعانة باليات تدخل انساني آخر (مظلة الحماية الدولية) علي غرار ما حدث في فبراير عام 2011 وتسليط مندوب ليبيا لدي الامم المتحدة لوضع المشهد بشكل  دراماتي مخالفاً للواقع أمام مجلس الأمن الدولي،  يضع الكثير من التساؤلات أمام المشهد القادم، كما يبين مدي الشرخ والتشظي وعدم استقرار الشأن الليبي من نواحي عديدة واهمها الجانب الامني العسكري، كما يوضح عدم تلاقي طرفي المعادلة لوضع اليات متناسقة وتعاون مشترك مدني عسكري، ولذا نرجح أحياناً بأن الحالة الليبية لازالت تراوغ بين المرحلة التحضيرية ومرحلة القرار.  

غير أن المخاوف الإنتقالية تذهب احياناً الي اشعال حرب اهلية لتنهي كل المبادرات ويتم تدويل المفاوضات وتحوليها لشأن دولي، وبهذا تتساوي كفتي الميزان، حيث تمثل القوات المسلحة الليبية القوة علي الأرض، وتمثل الإرادة الدولية القوة القانونية الساندة والمؤيدة للرئاسي وما يتبعه، وهو ما لم يحدث في تجربة جنوب افريقيا الرائدة، حيث كانت كافة القوي تجتمع تحت عنوان " اتفاق السلام الوطني" دون تدخلات خارجية او بعثات دبلوماسية أو مبعوثيات أممية، الأمر الذي جعل تلك التجربة تلقي تأييداً شعبياً واسعاً، كما أسهمت في تعميق مفهوم التحول الي مرحلة دائمة لترسيخ التحول الي ديمقراطية دون انتكاسات.  

لا ندري، هل أصبح تحصيل حاصل بأن المجلس الرئاسي هو الحاكم بأمر ليبيا أم هو مجرد جسم يتبع لمجلس النواب الليبي واتفاق الصخيرات لحين استكمال المرحلة الانتقالية؟ وهل إدانة المجلس الرئاسي للقوات المسلحة الليبية، عندما قامت بتحرير الجنوب الليبي، دونما منح صفة لهذا الجيش يدل علي انتهاء العلاقة القانونية بين تلك الاجسام، أم ان الازمة كلها ترمي وتهدف لتغذية فتنة لتأخير مراحل انتقالية تحت عنوان الفوضى الهدامة من خلال بث الصراع والإنقسام وتصفية حسابات استراتيجية لقوي كبري علي أراض ليبية؟ او لإيجاد دوراً أكثر توسعاً علي حساب المؤسسات والمجتمع؟  يجدر الإشارة الي ما نوهنا اليه في مقالة سابقة بازدواجية المعايير الدولية، والتدخلات في تعيينات الدولة الليبية واختيار الوظائف القيادية والتنكر لشرعية مجلس النواب الليبي، فكلما تقاربت وجهات النظر بين الفرقاء كلما رأينا برامج أممية توضع لارباك المشهد وتعقيده، وكلما زاد الصراع واتجه لصالح القوي الوطنية بريادة البرلمان وأجهزته الشرعية كلما رأينا تهميشا لتلك الإنتصارات، وتنشيط مبادرات غير جديرة بالثقة ومنحازة للأطراف الأخرى، وهو ما يدفع بمقاومة التغيير السلبي من قبل المؤسسات الأخرى، والتحفظ ومن ثم رفض التحول والانتقال والتنازل عن صلاحيات مكتسبة. 

مفهوم الإزدواجية المدنية - العسكرية ومنهج الإصلاح 

تشكل الأبعاد الثلاث مثلث العلاقات بين المؤسسات والمجتمع والجيوش، عوامل تأثيرية حيوية، وكلما اكتملت مراحل الانتقال بشكل قوي وايجابي، كلما انخفض مقياس مقاومة الجيوش، فالإصلاح عملية تكاملية، ترتبط خيوطها بكافة الشؤن لبناء اسوار من الثقة الدستورية والانطلاق بإصلاحات مؤسساتية. 

وقياساً بالعديد من الإصلاحات لمزج السلطات المدنية والعسكرية، وإبعاداً للمخاوف الدائمة وشماعات يٌعلق عليها فشل واخفاق أصحاب نوايا الفوضى، وقبل وبعد كل شيء، الحرص الوطني والحفاظ علي أمن البلاد والعباد والمكاسب، نستطيع أن نقرأ تجارب الغير في بلدان مرت بأزمات مشابهة،  حيث تمكنت جنوب أفريقيا بالإنتقال الثابت وحققت من خلال تجربتها الكثير من الإنجازات لتوطيد مفهوم التحول الي الديمقراطية، كما قاد "إخوان كارلوس" في اسبانيا تحولاً ديمقراطياً شاملاً في انجاز مهمة الإصلاح بعدة خطوات؛ أهمها دعم الهيكل الدستوري والقانوني،  وإنشاء وزارة الدفاع تعمل تحت الحكومة المدنية المنتخبة شعبياً، وتقييد القضاء العسكري بواسطة رفع كفاءة القوات واحترافيتها وتقليل عدد القوات واعتماد معيار الكفاءة في الترقيات بدلًا من الأقدمية.

وختاماً،،،

نتفق مع ما يذهب اليه الكاتب "نارسيس سيرا" بقوله "ان إدراك التهديد وهيكلية القوة وتعريف المهمة الأساسية للجيوش، هي العوامل الثلاثة التي تؤدي الي حدوث عملية التغيير وستدفع الي تحولات في السمات والخصائص الأخرى"، ولهذا فإن تلك الإصلاحات لا يمكن عزلها عن بعضها وتجزئتها بعيداً عن العملية الإنتقالية، ومن هنا يتوجب القول بأن الانتقال الناجح يتجنب فشل المجال العسكري، كما أن تنظيم القوات المسلحة وتوظيف دورها في عملية الإنتقال الي الديمقراطية يمكن ان يكون بشكل أدق واعمق من خلال الحد من مستويات الاستقلالية وتوافقها مع دولة القانون، وهو أمر عادة ما تقبله وتلتزم به المؤسسة العسكرية عندما تري تحسن ظاهر في شرعية المؤسسات الجديدة والمستحدثة، وهو ما يحفز دائما استعدادها لمواكبة التطورات الإيجابية التي تتطلبها مراحل التحول الي الديمقراطية وبهذا يتم تعزيز علاقتها مع الطرفين الآخرين (المجتمع المدني و الحكومة). 

كاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة