تقودنا المعرفة والمنهج العلمي الي بناء منظومات فكرية اكثر تماسكا وهو ما يحتم علينا، في أغلب الأحوال، أن لا نقرأ الأحداث الجارية ونستشرف المستقبل بشكل متشائم أو بشكل غير واقعي، كما اننا لا نريد أن نكون متفائلين بشكل مبالغ فيه أو انتقائيين بشكل متحيز ورافض واعرج، فالحرص دائما يستلزم قراءة مستفيضة وعلمية ومنهجية لما يجري بجوانب عديدة محلياً وإقليمياً ودولياً.

ان غياب عملية التغيير في مناهج التفكير فضلا علي الإصرار في عملية الانتقاء التي نتفهم تفسيرها يدفعان الي استمرار التعثر في عمليات النهضة وسببا رئيساً للإخفاق، وبالرغم من محاولتنا إبعاد وتجنب نظريات المؤامرة من خلال الكشف وتحليل الحدث بمنهجية علمية، الإ أننا أحياناً نتفق بأن كل المناهج الدولية او جلها -لنكن أكثر دقة- تسير وفق منظومات مسيرة وممنهجة في إطار دولي متناغم (النواة والفجوات) يبحث عن إيجاد الفرصة للتوغل والسيطرة والتحكم ومن ثم التسيير والريادة.

التنكر والتنمر ومحاولات إعادة المكتسبات

جدير بنا أن نتعرف علي حقبة ما قبل استقلال ليبيا لنؤكد بأن الصراع لاستعادة المكتسبات لا يزال حلم كثير ممن حولنا، ولم يتغير او يتبدل،  وبالأخص تلك القوة التي كانت تتنافس من أجل البقاء والحفاظ علي مستعمراتها سابقاً، ونوجز الأهم منها؛ فقد وقعت إيطاليا معاهدة الصلح أو السلام  في العاشر من فبراير عام 1947 بمدينة باريس بٌعيد الحرب العالمية الثانية وبعد خسران إيطاليا موقعها الدولي، أتت المعاهدة وفق شروطات دولية مع بعض الدول العظمي، وتم المصادقة علي تلك المعاهدة  في الخامس من ديسمبر من نفس العام، كما تضمن بندها الـ "23" تخلي إيطاليا عن جميع الحقوق والتخويلات في ليبيا واريتريا والصومال، وقد سبق تلك المعاهدة تنازل تركيا عن الحقوق والمطالب  في ليبيا 18 أكتوبر عام  1912، و 24 يوليو عام 1923، وبهذا بات بصيص الإستقلال للشعب الليبي يلوح في افق قريب، الأمر الذي تحقق بشكل منجز عام 1951

يذهب الكاتب الروسي "نيكولاي بروشين" في وصف الحالة الليبية - قبل الوصول الي الإستقلال- قائلاً "تضاربت مصالح الكثير من الدول حينها ومنها المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تجاه أراضي ليبيا، الأمر الذي أعاق الكثير من القرارات والتوصيات، وكانت علي الدوام إيطاليا أحد مرتكزات الخلاف للعبها دور الوصي وتعويلها علي الولايات المتحدة الأمريكية"، كما تشير صحيفة "تربيون دي ناسيونال" الفرنسية، بعد إجراء مفاوضات سرية بين كل من إيطاليا وأمريكا بشأن ارجاع الممتلكات الأفريقية   لإيطاليا، تلقي سفير إيطاليا "تاركياني" رداً من "لوفيت" نائب الرئيس الحكومي بتاريخ 13/8/1948، تؤكد أمريكا من خلاله عدم معارضتها لمنح الممتلكات وارجاعها، بشرط ان تحتفظ الأخيرة بقواعدها في ليبيا. 

 الإنعكاسات الدولية والإقليمية علي الشأن الليبي،،،

وبالرغم أن حديثنا يخص الشأن الليبي، الا أن كل ما يدور حولنا وحول عالمنا العربي والأفريقي قد يكون سبباً في تأزم الأوضاع أو انفراجها، وقد يكون خياراً بديلاً لتحقيق بدائل مستحدثة وفق منهجيات وديناميات العلاقات الدولية، والشواهد كثيرة ومنها؛  فما يجري اليوم في مضيق هرمز والخليج العربي والأزمة الإيرانية قد ينعكس سلباً أو إيجاباً علي الحالة الراهنة في ليبيا، بلحاظ التدفقات النفطية والتحالفات المرنة والمؤقتة تجاه المنظومة في ظل خلق بدائل تعويضية او احتياطية لإستقرار اقتصادي للإمدادات النفطية، كما أنه وفي حالة استمرار الشقاق السوداني – إن ثم – أو استمرار التظاهرات غير المحدودة في دول الربيع العربي الثاني، سيحدد قائمة جديدة من الأولويات الغربية خوفاً وحرصاً، فالمنظومة الدولية طالما توغلت بشكل دقيق في شؤون الكثير من الدول وبالأخص دول الجنوب بجرعات وتدفقات قابلة للحصر وغير قابلة للتمدد والإنتشار، الأمر ينعكس علي التأثيرات الإقليمية لدول الطوق والجوار المباشر وأهمها جمهورية مصر العربية والتي نعتبر استقرارها السياسي والإقتصادي والأمني محركاً ودافعا للإستقرار الليبي ومانعا وحاجباً للتمددات الراديكالية والتطرف بصفة عامة. 

مساقات ومسارات ليبية

لقد اصبحت الدولة في ليبيا اليوم تمثل استقلالا دون سيادة، وتدويلاً دون مرجعية، وفوضي تحت مراقبات مختلفة دون قرار، كما تسير في منعطفات بعيدة عن الوحدة، وقريبة الي التقسيم، الأمر الذي سيقود دون شك في إرتهان مستقبلها وغموض مصيرها وتوجه احداثها للمجهول، ولوقت طويل كما يتوقع الخبراء، كما تم تعريف حالها تاريخياً بــ "التناوب الدائري"، أيضا قد ستبرهن الأحداث قدوم الوجه الجديد لمستعمرين سابقين يدقون ناقوس الخطر واجراس الإنذار لتحقيق أهدافهم تحت المظلات المختلفة في حالة ما استمر الحال في دوامات الصراع وبالأخص السياسي والإقتصادي. 

الوقت حرج ويداهم اللحمة الوطنية واستعادة الدولة من مرحلة الفوضى والصراع والتشظي، كما أن الفترة القريبة القادمة تستوجب تحقيق محددات التوافق بين السجينين تغليباً للصالح العام، في حين أن التأخر في رأب الصدع وعلاج الداء سيدفع العالم المتربص لتكرار المكرر بوضع سلسلة من القرارات الدولية السياسية الممنهجة والتي قد تكون اضرارها اعمق وتشكل شللا لمستقبل الأمة، فلا طلنا "تمر جالو ولا زيتون غريان". 

يجرنا الحديث للقول والتأكيد بلا ريبة بأن مطلب الإستقرار بكل اشكاله وانماطه محفز ودافع للتغيير سلباً وايجاباً، حصرياً ، وهذا عندما يكون الإستقرار السياسي ممثلاً بشكل اوسع من خلال تجهيز قاعدة تشريعية تكفل الحقوق والواجبات وسلاسل قانونية محكمة ورصينة، وتفعيل منظومات حقوقية هادفة، والحرص علي الإحتواء دون اقصاء لكافة الكيانات والأقليات، كما أن العدالة الاقتصادية والمجتمعية سبل حكيمة للتوازنات والتقاربات  ولتعايش سلمي سيعمل بكل تأكيد علي ترميم الماضي ومعالجة الإخفاق والتوجه الصحيح لبناء مسارات النمو بشتي انواعه، وفي كل الحالات فهي لبنات الأساس لمستقبل واعد وبرامج  تمثل الدفع باتجاه الإستقرار والتوطيد بدلا من المراوحة في مراحل الانتقال الأولي الا وهي "التحضير". 

السؤال يقود الي الجواب

اقر بأنني لا أجد جواباً كاملا وافيا ودقيقا وحاضرا، ولكني أكاد اجزم بأننا نتعرض لصنع دولي لدولة فاشلة وفوضي خلاقة تحت شعارات ومظلات الوفاق والتدخلات الإنسانية ظاهرياً، وهو ما تقودنا الي معرفته التساؤلات التالية؛ وأهمها تأسيساً؛ الي متي ستظل ليبيا تخضع لقراري الأمم المتحدة 70, 73,؟ وبالتالي يستمر تجميد الأموال والسلاح والتقنيات والتدخل المباشر في شؤون أعمال مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الليبية للنفط والمؤسسة اللليبية للإستثمار ...والكثير؟  والي متي سنظل نرتقب حلولاً تلفيقية للأزمة الراهنة الليبية لتستمر المعاناة تحت رقابة صارمة ومؤطرة وتحت منهجيات مؤدلجة ومُوجِهة؟، هذا وكيف لنا أن نعرف لماذا تمنح المنظمات الدولية الإعتراف الدولي دون شرعية وطنية رغم الاعتراف الشكلي بمجلس النواب الليبي؟ ولماذا يعلق المجتمع الدولي كافة اجراءاته وبياناته واحكامه وقراراته علي اتفاقيات غير مشروعة وتخالف نصوص وقواعد ومقاصد القانون الدولي العام في مجملها؟.

ختاماً،

لقد عاد الطامعون للصراع في ليبيا من جديد، فبعد خسران إيطاليا موقفها وتنازلها عن ممتلكاتها الأفريقية والشاطئ الرابع المزعوم كما ذكرنا آنفاً، وبعد خسران فرنسا للكثير من التأثيرات داخل الأراضي الليبية وفقدان بعض ممتلكاتها في شمال وجنوب أفريقيا، ومع عودة الدعوة التركية لإستعادة الإمبراطورية العثمانية، وبلحاظ التأخر الروسي في ممارسة قوته وصلاحياته لتحقيق توازن نسبي في الشرق الأوسط، كل هذه الأسباب تدفع بشكل مباشر لــ "التدخل" و "المشاركة" في الحرب والصراع العسكري الدائر اليوم في ليبيا، في الوقت الذي لم تترك فيه مجالاً واسعا للخيارات الوطنية والمناورات السياسية بشكل عام. 

ولذا، أصبح الخيار العسكري خياراً وحلاً ومنهجاً-رغم أنه لن يكون حاسما بشكل مطلق- ولكنه سيضع نقطة تحول ومساراً بديلاً للنهج الغربي والخلاف القائم المصلحي بين أعضاء المجتمع الدولي، والتدخلات الدولية والتي تدعم خلق التوازن واستمرار الفوضى لحين تقاسم الغنيمة وتحقيق المصلحة، كما يشكل تقدم الجيش الليبي في مسيرة تحرير طرابلس-رغم المرارة- عرقلة ليسناريوهات مشبوهة، وسيعود بكافة الأطراف الليبية محلياً لطاولة المفاوضات بشكل مختلف يحقق شبه التوازن بين الأطراف، وتظل الإرادة الوطنية دائما "الفيصل".

تقديري واحترامي


الآراء المشنورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة