هناك توصيف يطلقه الأطباء على حالات مرضية يكون قد استنفذ الطب كل وسائله وأساليبه في علاجها، وهو وصف “حالة ميؤوس منها”، وقد سمعت هذا التعبير يقوله أصدقاء أحزنهم ما يرونه من تردي الأوضاع في ليبيا، وبلوغها هذا الدرك الأسفل الذي يبعث على اليأس، فلا تجد على لسانهم تعبيرا غير هذا التعبير عندما تسألهم عن رأي أو مشورة.

نعم يصح قول هذا التعبير في حضور الأمراض المستعصية على العلاج، وقانا الله جميعا منها، ولكن هذا التعبير لا يصلح إطلاقا أن يقال على الأوطان، فلا وجود لحالة وطن يمكن أن يقال فيه مثل هذا القول، بل المدن نفسها لا نستطيع أن نقول عن مدينة مهما كبرت معاناتها، ومهما كان حجم الكوارث التي مرت بها، أنها وصلت إلى مرحلة ميؤوس منها، نعم هناك بلدان اختفت، وإمبراطوريات فقدت مجدها، وهناك حضارات سادت ثم بادت، ولكن ذلك غالبا يأتي عبر تفاعلات تاريخية وعبر صيرورة طويلة المدى، وحين يأتي لا يكون هناك من يقول هذه حالة ميؤوس منها، لأنه هو نفسه يكون قد لحقه البلى أو الإبادة قبلها.

وها نحن نذهب قريبا من الساحل الليبي فنزور مدنا أضحت آثارا، مثل لبدة وصبراتة وتوكرة وشحات وطلميتة، ولكن مدنا أخرى بينها بنغازي هسبيرديس كما كانت تسمى، وطرابلس نفسها ظلت باقية. وإذا أخذنا طرابلس مثلا، فقد شهدت غزوات أبادت أهلها، وأخرى أحالت أبنيتها إلى أنقاض، وثالثة كانت في صور قرصان يداهمها، جاء بفرمان مزيف ادعى أنه من الباب العالي، وما إن تربع على عرش القلعة حتى أعمل تقتيلا في الأهالي، وسفكا لدمائهم، ونهبا لأموال الموسورين منهم، ثم عندما اكتشف الناس زيفه، واستنفروا قواهم ضده، حمل الكنوز التي نهبها في سفنه، وتسلل تحت جنح الظلام هاربا، بعد أن تركها أنقاضا وجثثا، ذلك هو علي برغل كما كان يسمى، ثم شهدنا في زماننا هذا، قرصانا من أبناء ليبيا، هذه المرة، اسمه القذافي، عاث فسادا في الثروات وانتهك الأعراض وسفك دماء الأبرياء، وأحال حياة أهل البلاد إلى كابوس، ومع ذلك لم نقل، لا في عهد علي برغل، ولا في عهد فرسان يوحنا، ولا في عهد القذافي، أن البلاد في حالة ميؤوس منها، لأنها كانت دائما تنتفض، وكانت دائما تسترجع قوتها، وتستنفر عناصر الخير فيها لتنهض من كبوتها، وتثأر لنفسها، وتطيح بهؤلاء الغزاة واللصوص، وها نحن نشاهد الآن، هذه الفصول العبثية التي تصلح أن تكون مشاهد في مسرح اللامعقول، مثل استيلاء “غفراء” الموانئ النفطية، على هذه الموانئ، وإصرارهم على منع استعمالها من طرف السلطات المركزية الليبية، ثم الاجتراء على التصرف فيها وبيع النفط، وتعبئته في سفن شحن تحمل أعلام دول في الأمم المتحدة، وتتم هذه القرصنة تحت سمع ونظر المجتمع الدولي وهيئته الأممية، وفي اليوم الذي يعقد فيه أصدقاء ليبيا اجتماعهم في روما.

إنه عبث في أكثر حلقاته بشاعة، وصورة من صور التردي إلى حد الكارثة والمأساة، ولكن لا شيء في حياة الأمم يستعصي على العلاج، ولا ذريعة توجب الاستسلام لليأس، وتمنع من استنهاض الهمم والعزائم. وإذا كان لي أن اقترح بعض خطوات نبدأ بها طريق الإصلاح، فسأكتفي بطرح ثلاث أو أربع منها.

أولها نداء أتوجه به إلى تكوين سياسي وطني إسلامي هو جماعة الإخوان وحزب البناء المنبثق عن الجماعة، وبينهم رجال ونساء لا أشك في إخلاصهم للوطن، ولكني أشك في صفاء رؤيتهم للأمور، وحيث أن هذه الجماعة صارت تمثل استفزازا لبعض فئات المجتمع، وصارت تستقطب سخط دول الجوار، وترتفع اتهامات تحملها مسؤولية جرائم القتل والتصفية دون تفريق بينها وبين أهل التطرف والغلو، فأرجو منها الإسراع بتجميد نشاطها وانسحابها من الحراك السياسي في هذه المرحلة الانتقالية، لكي تجنب نفسها أن تكون سببا في تقسيم الوطن، أو الدفع به إلى حرب أهلية.

الطلب الثاني أتوجه به إلى أهل الحراك الفدرالي في برقة، وهم كما يدعون أهل وطنية ولا يريدون انفصالا، وأقول لهم إن اللعب في هذه المناطق يزداد خطورة، ويقترب من جريمة التقسيم أو إيقاع البلاد في حرب داخلية، ولهذا فإن تأجيل هذه المطالب إلى انتهاء المرحلة الانتقالية، سيكون عملا وطنيا يثبتون به صدق نواياهم.

النداء الثالث أتوجه به إلى دولة عربية شقيقة هي قطر، وهي متهمة من أطراف كثيرة، بالتدخل العلني المفضوح في الشأن الليبي الداخلي، بأن ترفع يدها عن ليبيا، وتمتنع عن دفع الأموال وإرسال السلاح، إلى ميليشيات التطرف التي تتبناها، وأن تؤجل أي تعاون إلى أن ينتهي الشعب الليبي من بناء مؤسساته الدستورية. وأشك طبعا في أن تلبي قطر هذا النداء، ولذلك أتوجه به إلى الحراك السياسي الشعبي في ليبيا وإلى الشارع الليبي، أن يمنعا هذا الاجتراء وأن يخرج الليبيون في كل الحواضر الليبية للثورة ضد هذا التدخل، وضد الأطراف الليبية التي ساعدت عليه واستجابت له.

وإذا كان لي نداء رابع، فأتوجه به إلى دار الإفتاء، التي سمعناها تدافع بلسان السيد المفتي، عن هذه الدولة، بأن تمتنع عن التدخل فيما لا يعنيها، وأن تنصرف إلى القضايا الفقهية التي يسأل عنها الناس.

 

 

 

كاتب ليبي