حميد زناز

لم تكن الفتوى التي أطلقها آية الله الخميني ضد الكاتب سلمان رشدي بسبب "آيات شيطانية"، أسبوعا فقط بعد صدورها!  كما هو متداول منذ 1989 والتي لم يكن قد اطلع على الرواية لا هو ولا ملايين المسلمين الذين تظاهروا في كل أنحاء العالم.   أولا لضيق الوقت وثانيا لصعوبة فك تشفير تلك الرواية الضخمة المعقدة حتى بالنسبة للمتخصصين في الادب الإنكليزي الحديث!

السبب الرئيسي هو ردة الكاتب وليس ما جاء في روايته إذ لا تزال عقوبة المرتد بالإعدام سارية المفعول في إيران وفي بعض البلدان العربية والإسلامية. ولئن سقطت من القوانين المكتوبة في بقية الدول الإسلامية الأخرى، فإن الإعدام الرمزي أو السري يبقى مصير كل من تسوّل له نفسه الجهر بحريته في المعتقد والانفصال عن اعتقادات الجماعة المحيطة.  و هذا هو هدف الفتوى ضد سلمان رشدي. أراد من خلالها آية الله الخميني إحياء التخويف بعقوبة الردة بعدما لاحظ تحرر كثير من المسلمين من دين آبائهم.

عقوبة الردة.. تخلق جوا يشوبه الحذر وانتهاج الحياة السرية والعيش بتستر وخوف، فمثلا إن وجدنا في الغرب مؤمنين غير ملتزمين، فكثيرا ما نجد ملتزمين غير مؤمنين في البلدان الإسلامية، يتظاهرون بالإيمان خوفا من نظرات وعنف الآخرين الذين يعتقدون في أغلبهم أن المسلم يولد مسلما وينبغي أن يموت مسلما رغم أنفه. وكثيرا ما يوجه بعضهم إلى الغير تلك الجملة التفتيشية المهددة ضمنيا "نحن لم تعد نراك في المسجد هذه الأيام." 

تحمل كلمة “الردة” معنى اتهاميا تجريحيا، ولو كانت مجتمعاتنا متماشية مع مبادئ القرن الحادي والعشرين لانقرضت تلك الكلمة من القاموس واللغة اليومية من تلقاء نفسها، إذ كيف يمكن اعتبار من يتغير فكريا، أو يغير رأيه في مسألة تخصه هو لا غيره، مجرما يستحق عقوبة القتل؟

هل من العدل ومن المعقول أن نجبر إنسانا ولدته أمه حرا في عائلة مسلمة أن يكون مسلما بالضرورة ورغم إرادته؟ ما معنى الحرية والاستقلالية الذاتية إن لم يكن له الحق في تجاوز الثقافة الدينية والعقائدية التي وجد فيها نفسه عن طريق الصدفة، لا غير؟

هل يرث الكائن البشري رؤيته للكون والحياة وكذا أحاسيسه وميولاته النفسية والفلسفية مثلما يرث نعجة أو جرارا أو بئرا؟ إن كانت حتى في القرآن إشارة إلى الذين لا يستطيعون الإيمان، فكيف يسمح البعض لأنفسهم وصم الآخر بالردة بمجرد أنهم يفترضون أنه كان مسلما؟ كيف يمكن أن نكلف من لم يؤمن أصلا أو من فقد الإيمان في طريقه الحياتي ما لا طاقة له به؟ هل نكث المواطن عهدا؟ هل اعتدى على الغير؟ هل دعا إلى عنف؟ هل احتقر الأديان؟

إذا كان في المسيحية ما يسمى التعميد وهو ذلك الطقس الذي يتم فيه إعلان إدخال الأطفال عادة إلى دين أوليائهم، فليس هناك لدى المسلمين مثل هذا الإعلان "الإداري" فكيف يتم إذن التثبت من أن الشخص المتهم كان مسلما ثم ارتد! ألا يمكن لكل متهم أن يهدم الادعاء قائلا ببساطة "من قال لكم إنني كنت مسلما بإرادتي واختياري وكيف تثبتون ذلك حتى تطبقون في حقي عقوبة الردة؟         

ولكن حتى وإن كان مسلما ورعا، ألا يحق للإنسان أن يعيد النظر في حياته الروحية جملة وتفصيلا؟ بماذا يضر غيره إن فعل؟ لماذا يحتفي الدعاة بالمسيحيين الذين يعتنقون الإسلام على أن الله قد هداهم إلى الصراط المستقيم ولكن ينظرون إلى بعض المسلمين الذين يدخلون في دين المسيح على أنهم ضلوا ضلالا مبينا.

ويبتهج أغلب المسلمين كلما أسلم شخص مهما كانت نية هذا الشخص وتاريخه ويهللون لانتصار الإيمان وكيف أن الله هداه للدين الحنيف، ولكنهم يعتبرون كل من ترك دينهم مجرما مرتدا يجوز سفك دمه! يحتفلون بدخول الآلاف في دينهم، كما يزعمون، لكن يعز عليهم خروج واحد من ملتهم ويصبح محل مساءلة وإدانة ثم تجريم وعقاب.

والغريب في الأمر أن الدعاة ينظرون إلى من يُسلم على أنه فكّر وأعمل عقله وأعانه الله على الاختيار الصحيح، أما في حالة انتقاله إلى المسيحية فيكون في اعتقادهم قد غرّر به وتم تنصيره من قبل المبشرين وأضله الشيطان وأصبح من الخاسرين.

ألا يشجع يوسف القرضاوي على قطع الرقاب حينما يصرح أنه لولا وجود حد الردة وقتل المرتد لانتهى الإسلام في حين أن المسألة خلافية بامتياز بل لا ذكر لحد الردة في القرآن على الإطلاق؟ ألا يؤكد داعية الجزيرة مقولة أن الإسلام قد انتشر بحد السيف وهي نفس المقولة التي ينفيها في أحاديث أخرى؟

إن ما يسمى اليوم "أصولية" ما هو إلا امتداد منطقي لهذا التصور الضبابي والملتبس للحرية الإنسانية وتلعثم مزمن في هضم حقوق الإنسان الأساسية وعلى رأسها حرية المعتقد.  كيف لا نتساءل عن عدم اكتراث السلطات الدينيّة الكهنوتية التي تدّعي أنّها غير أصولية بمفهوم "الردّة" ومحاولة إعادة فهمه ليتناسب مع قيم العصر؟