تناولتُ بالارقام والاحصائيات في مقالي السابق والذي أشاد به الجميع النهضة الرواندية من جميع جوانبها ، وكنتُ قد أكدت أن اساسها هو التعليم بالتوازي مع وجود إرادة حقيقية لتحقيق التنمية الشاملة ، وفي هذا المقال سأحاول قدر الامكان أن أفصص اسباب نجاحه ، وان أسرد بشئ من التفصيل بعض السياسات والاليات التي اتخذنتها الحكومات الرواندية المتعاقبة للنهوض بالتعليم كونه يُمثل حجر الزاوية في نهضة رواندا.

لقد ورد في تقرير جودة التعليم للعالم لسنة 2014 الصادر عن اليونسكو أن رواندا من أفضل 3 دول في تجربة النهوض بالتعليم ، وهي لم تقفز إلى هذه المرتبة بين عشية وضحاها ، فقد عانت رواندا من حرب أهلية تبعتها إبادة جماعية قُتل فيها أكثر من مليون شخص، وتدمرت فيها كامل مرافق الدولة وبنيتها الأساسية تقريباً، ولم تعد هناك مستشفيات ولا كهرباء ولا مدارس (عدا القليل منها)، بل وأصبح المعلمون أنفسهم ما بين قتيل وسجين وفارٍ ناجٍ بحياته خارج البلاد ، ومع كل هذا فقد نهضت البلد بالتعليم ، نعم لقد نهضت رواندا بالتعليم وليس بالموارد ، ولسائل أن يسأل : ماهي الاستراتيجيات والسياسات والاليات التي اتبعتها رواندا في مجال التعليم حتى نهضت به بهذه السرعة؟   

وللاجابة على هذا السؤال الهام و قبل الخوض في التفاصيل دعونا نُعرج في عُجالة على تعريف مفردتي الاستراتيجيات و السياسات واللتان يجهلهما الكثير منا ، فالإستراتيجيةهي الخط العام الذي تسير عليه المنظمة او المؤسسة او الشركة لتحقيق الأهداف والغايات الكبيرة لها، وهذا الخط العام لايتغير بسهولة لانه غير مرن ، وتكون في مدى زمنى بعيد ويتجاوز العشرون عاماً ، أما السياسةوجمعها سياسات فنعني بها اتجاهات وحدود منهجية العمل ، وتكون ثابتة وتتسم بهامش ضيق من المرونة ، وترجع إليها المنظمات والمؤسسات والشركات لتنفيذاستراتيجياتها و اتجاهاتها، وتكون دليلاً ارشادياً عند اتخاذ القرارات.

مما تقدم يمكننا الان الاجابة وبكل بساطة عن السؤال المطروح ، والتي اختصرتها لكم في ماهو آتي وتبعاً للاولوية التي اتبعتها الحكومات الرواندية المتعاقبة (أي وفق الترتيب الزمني):- 

  1. إعادة تأهيل المعلم.

مثل اي بلد ، فقبل الحرب الاهلية كان الروانديون شعباً يعطي للمعلم احترامه ويحظى المعلم بمكانة خاصة ؛ حتى انه خلال الحرب كان الناس يختبئون في الكنائس والمدارس باعتبارها أماكن مقدسة ولا يجوز المساس بها، ولكن هذه الأماكن هي الأخرى لم تسلم من الانتهاك، وان 75% من المدرسين إما قُتلوا أو سُجنوا أو فروا خارج البلاد ، ومع عودة الحياة لطبيعتها وضعت أول حكومة رواندية بعد الحرب الاهلية برنامجاً لإعادة المواطنين الذين فروا من البلاد أولاً ثم إعادة تأهيلهم، ولكن المدرسين كانت لهم الاولوية ، بل وحظو بنوع خاص من التأهيل : فقد شمل هذا التأهيل :التدريب المكثف وتنظيم ورش العمل. يقول نائب مدير مجلس التعليم برواندا «عمانوئيل موفوني» في مقال نشر عام 2010 بموقع          …The News Times لابديل عن المعلم المؤهل بامتياز، ولاجل هذا تُقام العديد من ورش العمل والدورات التدريبية التي تًنتج معلمين قادرين على تقديم تعليم يواكب العصر ، ويُلبي احتياجات سوق العمل ، وينهض بالبلاد اقتصادياً»

2 . تعليم يحارب العنصرية .

قبل الحرب الاهلية بزمن بعيد كانت رواندا بلداً مختلفًا تماماً ، ففي عام 1960 وعلى الرغم من أن التعليم في البلد كان متقدماً ويؤهل الطلاب للمعرفة والعمل، لكنه كان يُرسخ للعنصرية الشديدة التي أشعلها الاستعمار الفرنسي بين قبائل الهوتو والتوتسي، وقد حظي ابناء قبيلة التوتسي بأفضل أنواع التعليم والذي يؤهلهم لتولي المناصب القيادية في البلاد، بينما أبناء «الهوتو» منعزلون وحدهم في مدارس فقيرة يتخرجون منها ليشتغلوا بالأعمال العضلية والمُجهدة، وكثير منهم لا يملك قوت يومه فما بالك بثمن الكتب أو الزي المدرسي، وهذا ما أوضحته الكاتبة إليزابيث كينج، في كتابها «From Classrooms to Conflict in Rwanda»  فذاك النوع من التعليم في رواندا هو الذي رسخ للعنصرية وجعلها عاملاً مهما ساهم في الدفع برواندا لأتون تلك الحرب المريرة، وقد كان التاريخ يُزيف في المدارس ليُرسخ الانتماء للقبيلة وليس للبلد«، وبصفة عامة فقد أصبح الآن مجرد التلفظ بكلمة عنصرية جريمة يعاقب عليها القانون في رواندا ، وفي المقابل وبحسب وجهة «كينج» لازالت المناهج التعليمية تواجه مشكلة هامة وهي أن الدولة حذفت مادة التاريخ كلياً من المناهج المدرسية ، حيث لم تعد الدولة تتعمد تزييف التاريخ ليُعلي من شأن قبيلة دون أخرى ، وهذا خطأ كبير لا بد أن يُعالج ، حسب وجهة نظر الكاتبة.

3. التعليم المجاني.

شأنها شأن اي دولة متخلفة، لم تكن لأي عائلة رواندية أن تتحمل تكاليف التعليم الباهظة وبالاخص بعد الحرب الاهلية ، فقد كان اغلب الشعب فقراء ولكنهم يتطلعون إلى تعليم جيد ودون تفرقة ، وبعد ان وضعت الحرب اوزارها بدأت المدارس الحكومية في كامل رواندا اتباع سياسة التعليم المجاني في المراحل الأساسية بشقيه الابتدائي والمتوسط (6 سنوات للمرحلة الابتدائية و3 سنوات للمرحلة المتوسطة)، والحكومة الان بصدد مناقشة مجانية التعليم للمرحلة الثانوية والجامعية . 

4. مكافحة التسرب من التعليم .

في خطوة صحيحة ومدروسة قامت رواندا بإعادة بناء الأطفال نفسياً وفكرياً وعلمياً قبل شروعها في بناء العمران ، وكان لابد للمدارس أن تعود وتفتح أبوابها مرة أخرى بعد انتهاء الحرب الاهلية ، ولم تكن إعادة الأطفال للمدارس بالمهمة السهلة خاصةً أن أغلب هؤلاء الأطفال كانوا إما أيتام أو كانو يعملون في الزراعة أو اي اعمال اخرى لإعالة أسرهم ((اسر المسجونين)) ، ولكن بعد اعتماد خطة مدتها 5 سنوات لمحاربة ظاهرة التسرب من التعليم فقد وصلت نسبة الطلاب المنتظمين في التعليم إلى 85% ، وأكدت اليونسكو أن رواندا أصبحت بذلك من أعلى الدول الأفريقية انتظاماً في التعليم الاساسي؛ ففي المرحلة الابتدائية وحدها على سبيل الذكر بلغت نسبة الأطفال المنتظمين بالمدارس نسبة 97%، وفي التعليم المتوسط بلغت 73%، ولكن الحكومة الرواندية غفلت عن شئ هام ولم تعطه اي اولوية وهو الاهتمام بتعليم شريحة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ، حيث انهم لازالو مهمشين ولايتلقون اي اهتمام.

5. التكنولوجيا .

عندما تنظر إلى أحد الفصول في مدارس رواندا، ربما تبدو لك للوهلة الاولى انها فصولاً تقليدية فقيرة ولكن في حقيقة الامر ان التعليم في رواندا يتجه حثيثاً للاعتماد الكلي على التكنولوجيا وذلك بعد أن عقدت حكومة رواندا شراكة مع «Microsoft» لمحو الأمية الرقمية في البلاد، وفي حدث مماثل ويبدو غريباً للوهلة الاولى بل وكأنه يشبه الطفرة التعليمية هو تبني الحكومة لنظام « ICT 4E»وهي إختصاراً لـ«تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أجل التعليم» وهو نظام يستبدل وسائل التعليم والكتب التقليدية بمنصات إلكترونية عبر«اللابتوب» أو «آي باد» أو مشغل «Mp3» يُتابع من خلالها الدارسون دروسهم بكل سهولة ويسر

6. اللغة.

قامت الحكومة الرواندية بخطوة صغيرة في الشكل ولكنها كبيرة في المضمون وهي اتجاهها لاستبدال اللغة الفرنسية تدريجياً في المناهج الدراسية بالإنجليزية، واذا مانجحت في تنفيذ هذا التوجه بنسبة 100% فسوف تكون المدارس والجامعات الرواندية مصدر جذب للطلاب من جميع أنحاء العالم.

الخبير الليبي في اقتصاديات النقل والتجارة الدولية


الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة