مصطفى حفيظ

منذ يناير/كانون الأول حتى نهاية سبتمبر/أيلول من السنة الجارية 2021، أوصلت "قوارب الموت" 15 ألف جزائري إلى الضفّة الاسبانية، بينما فقد حوالي 500 حياتهم غرقا وفقا لتقرير قناة "Arte" الفرنسية، قد تكون هذه الأرقام رسمية عند السلطات الاسبانية، أما في الجزائر، فتحارب السلطات الأمنية الظاهرة بشكل يومي، مع ذلك، يستمر الشباب في ركوب البحر في مغامرة غير مضمونة النتائج، تنتهي في غالب الأحيان إما في قاع البحر أو في قبضة السلطات الاسبانية، إذن: لماذا هناك صمت اعلامي وسياسي في الجزائر بخصوص الظاهرة؟ ألا يحتاج الأمر لنقاش سياسي جاد سواء من جانب الحكومة ومؤسساتها أو البرلمان والأحزاب السياسية لمعرفة جذور الظاهرة؟ ألا تحتاج الظاهرة لدراسة سوسيو-ثقافية ونفسية وربما اجتماعية واقتصادية لمعرفة كيف يفكّر الشباب الجزائري في مستقبله ولماذا يغامر بحياته في قوارب الموت نحو الضفّة الأخرى من أوروبا؟

صحيح أن الجزائر ليست في حرب، برغم سجالها مع جارتها المغرب، وليست في حرب أهلية أيضا برغم استمرار تلك التباينات بين الأحزاب والسلطة من حين لآخر، خاصة في المواعيد الانتخابية، أو حتى محاربتها لمنظمات صنفتها بالإرهابية مؤخرا، كحركة رشاد أو حركة الماك الانفصالية وارتباطاتهما بما يسمى "الحراك الشعبي"، لكنها في وضع اقتصادي غير مريح برغم مداخيل الريع البترولي، وبرغم كونها قوة عسكرية في محيطها الإقليمي والافريقي، وسمعتها الدبلوماسية المشهود لها، خاصة مع قدوم وزير الخارجية لعمامرة على رأس الجهاز منذ أشهر، إلا أنّ الحقيقة هي أنّ هناك ظاهرة مزعجة وخطيرة في نفس الوقت، تثقل كاهل السلطة ومؤسساتها الأمنية خاصة، هذه الظاهرة تُعرف في الجزائر باسم "الحرقة" أي الهجرة بطريقة غير قانونية إلى بلد آخر، وتسمية "الحرّاقة" تطلق على الجزائريين الذين يركبون البحر أو قوارب الموت في رحلة محفوفة بالمخاطر في أعالي البحار أملا في الوصول إلى الضفّة الأوربية، ولا يعرف الجزائريون وجهة أخرى غير اسبانيا من جهة الغرب، وإيطاليا من جهة الشرق.

لكن الظاهرة مؤخرا، أي منذ بداية جائحة كورونا حتى الساعة، ازدادت بشكل مثير للانتباه، أو لنقل بشكل مبالغ فيه، حتى أن السلطات الاسبانية في محافظة ألميرية سجلت وصول آلاف الجزائريين "الحرّاقة" في أسبوع، لذلك، لا ينبغي أن تمرّ هذه الوقائع والحقائق مرور الكرام، فالأصح، أن يقف عندها الاعلام والسياسيون معا في الجزائر، فكيف أصبحت الظاهرة فجأة بهذا الحجم لدرجة يهرب العشرات يوميا من البلاد، شباب من مختلف الأعمار، وحتى النساء، والعائلات؟ في اسبانيا، بحسب ما تردد هناك من أصداء، اندهش الاسبان لدرجة تساءلوا إن كانت الجزائر في حرب كي يخرج منها الشباب وحتى العائلات بذلك الشكل، وآخرون من الجزائريين المقيمين هناك، سألوا عائلاتهم إن كان قد حدث شيء في الجزائر حتى يأتي ذلك العدد الهائل من الحرّاقة إلى اسبانيا، هناك قوارب سريعة تنطلق من غرب الجزائر تنقل الحرّاقة إلى الضفّة الاسبانية، فيها حتى عائلات مكونة من رب الأسرة والزوجة والأطفال، منهم دون الخامسة من العمر. إذن، فالوضع مقلق حقا، فمتى تدقّ الصحافة الجزائرية والسياسيون في الجزائر ناقوس الخطر؟

أحيانا، عند النظر للظاهرة من الجانب الاقتصادي والمالي للرحلة غير الشرعية نحو اسبانيا، يتفاجأ الواحد للمبلغ الذي يدفعه الشاب كي يركب زورقا ويخاطر بحياته من أجل الوصول إلى هناك، تقول المعطيات المتوفرة بأنّ الرحلة بزورق عادي يتّسع لعشرة أشخاص يستلزم من الراكب أن يدفع بالدينار الجزائري ما حوالي 200 ألف دينار (ألف يورو)، وفي الرحلة السريعة من غرب البلاد، يدفع الواحد حوالي 800 ألف دينار (أربعة آلاف يورو) تقريبا بقيمة اليورو في السوق السوداء، فكم تدفع عائلة مكونة من طفلين صغيرين وأبويهما؟ الأكيد أنّ مافيا تهريب البشر إن صحّت التسمية، لا يهمها شيء سوى المال، فهي تجني الملايين يوميا خاصة عندما تكون الأحوال الجوية مواتية للملاحة بحرا، هل تدفع عائلة مكونة من أربعة أشخاص ما قيمته 16 ألف يورو كي تسافر نحو اسبانيا في رحلة بحرية كلها مخاطرة؟ ماذا يمكن أن يفعل رب أسرة بهذا المبلغ إن ألغى فكرة الهجرة بتلك الطريقة المجنونة؟ 16 ألف يورو أو (360 ألف دينار جزائري)، هذا إن افترضنا بأن كل أفراد العائلة دفعوا ثمن تلك الرحلة، يمكنها أن تكفي للعيش في حالة ميسورة، أو حتى إقامة مشروع تجاري للعائلة، وحتى حالة الشباب الذين يدفعون قرابة ألف يورو من أجل الرحلة، ومعظمهم من فئة البطالين، كيف يعقل أن يجمعوا مبلغا كهذا وهم أصلا بدون عمل؟ 

إنّ الظاهرة فعلا خطيرة، والأمر يدعوا لنقاش سياسي واعلامي جاد في الجزائر، ويجب التعمّق في دراسة هذه الظاهرة في الوقت الراهن بالذّات، طبعا، هي ليست وليدة اليوم، حيث عرفت الجزائر نفس الظاهرة بشكل آخر سنوات التسعينيات عندما عاشت وضعا أمنيا خطيرا جراء الإرهاب، ففي تلك الفترة من عمر البلاد، كان الشباب يدفع المال لكي يركبوا البواخر التجارية، بالأخص تلك المتجهة نحو أوروبا (فرنسا، إيطاليا، اليونان أو اسبانيا)، أي أن في تلك المرحلة، كان الدافع هروبا من الحالة الأمنية التي عاشها الشباب الجزائري، إلى جانب الحالة الاقتصادية وقتها، حيث كانت الجزائر قد استدانت من صندوق النقد الدولي، وهو ما جعلها تعيش وضعا اقتصاديا مفروضا، منها خفض عدد العمال بسبب شروط وضعها الصندوق المذكور، ونجم عن ذلك تفاقم حجم البطالة وسط العائلات الجزائرية، بعد تسريح آلاف العمال من الشركات الوطنية العمومية الكبرى خاصة، إذن، كانت ظاهرة الهجرة السرية (الحرقة) خيارا مفروضا على الكثيرين، فلم يكن الحصول على وظيفة أمرا سهلا بالنسبة للكثيرين، يضاف إلى ذلك ظاهرة الرشوة والمحسوبية التي استفحلت، وخلقت شعورا باليأس لدى عموم الشباب، مع ذلك، لم تكن الرحلة بطريقة سرية على متن باخرة شحن خطيرة مثلما هي اليوم على متن زورق قد ينقلب بركّابه إذا هاج البحر فجأة، فهل ينبغي علينا ألا نلوم من يغامر ويركب هذه القوارب؟

مما لا شكّ فيه اليوم أنّ الجزائر تعيش وضعا اقتصاديا صعبا بسبب جائحة كورونا في المقام الأول، ثم إنّ الاقتصاد الجزائري هشّ ومتدهور، باعتراف السلطة نفسها، ووضعت الحكومة خطة لإنعاشه بتنويع الشراكة الاقتصادية مع أكثر من شريك أجنبي وتشجيع الإنتاج المحلي، ووقف الاستيراد والإبقاء فقط على المواد الأساسية فقط وترشيد النفقات، إذن، ومهما قيل عن الظروف الاقتصادية التي تمرّ بها الجزائر، سواء بسبب كورونا أو بسبب مخلّفات السياسات الفاشلة للحكومات السابقة في فترات حكم الرئيس الراحل بوتفليقة، التي غلب عليها الفساد، وعرفت اختلاسات وتهريب أموال بالملايير نحو الخارج، فإنّ الجزائريين، بحسب التقارير الإخبارية في وسائل الاعلام الجزائرية، وحتى تصريحات وتحذيرات خبراء الاقتصاد وجمعيات حماية المستهلك، يعيشون وضعا اجتماعيا صعبا، بسبب غلاء المعيشة جراء غلاء أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية وضعف القدرة الشرائية، وتفاقم حجم البطالة، بالرغم من عدم وجود أرقام رسمية عن نسبة البطالة في الوقت الراهن، حيث توقفت مسابقات التوظيف خلال السنوات الأخيرة بسبب إجراءات التقشّف التي فرضتها حكومات أحمد أويحي (وهو الوزير الأول في عدة حكومات جزائرية قبل استقالة حكومته قبل الحراك في 2019، والمسجون حاليا في قضايا فساد) بداية 2016 إلى غاية سقوط حكم بوتفليقة، وفي تلك الفترة التي طبّقت فيها خطة التقشّف الحكومية، توقفت آلاف المشاريع وورشات البناء، مما خلق بطالة مفروضة على الآلاف أو ربما الملايين من الشباب، وتوقفت مسابقات التوظيف جراء تلك الإجراءات، ونحن نذكر كل هذا، لسنا هنا لنبرر ظاهرة "الحرقة"- الهجرة السرّية نحو اسبانيا، التي يغامر الآلاف من الجزائريين للوصول إليها، لكن فقط حتى نذكر تلك الأسباب التي كان يبرر بها معظمهم خياراته بركوب البحر للوصول إلى الضفّة الأخرى، وفي تصوّرهم طبعا تحقيق الحلم بإيجاد عمل وتحسين معيشته التي لم يجدها في بلده الأم. لكن هل يتحقق للجميع ذلك الحلم في جنّة أوروبا؟ 

الأكيد أنّ الحظ قد يبتسم للقليل من هؤلاء الآلاف من المهاجريين الجزائريين (الحرّاقة)، الذين ينجحون أولا بالوصول سالمين على متن تلك القوارب، لكن ماذا يفعلون عندما ينزلون على سواحل اسبانيا، في محافظة ألميرية في غالب الأحيان؟ بحسب بعض الفيديوهات التي بثّها حرّاقة جزائريون، فإنّ البعض يتم القبض عليهم فور وصولهم، ويتم اقتيادهم من طرف خفر السواحل الاسبان إلى مراكز خاصة، تضم الآلاف من أمثالهم من جنسيات مختلفة، أغلبهم من شمال افريقيا بالأخص من الجزائر والمغرب، لكن البعض الآخر، ينجحون في التسلل إلى بلدان أوروبية أخرى، أولها فرنسا، ثم بلجيكا أو هولندا، لكن ما مصير هؤلاء المقبوض عليهم؟ لحد الساعة، لا تقوم السلطات الاسبانية بطردهم نحو بلدانهم، ونتحدث هنا بالأخص عن الجزائريين، فقد كانت اسبانيا قبل كورونا تقوم بإعادة ترحيل من يتم القبض عليهم هناك، لكن منذ الجائحة، أي منذ 2020 حتى اليوم، توقفت تلك الإجراءات، ويتم حاليا التكلف بهؤلاء أو تركهم يغادرون اسبانيا نحو وجهة أخرى، يتم الإبقاء على القصّر منهم، أو العائلات التي تضمّ أطفالا قصّرا، كما أن العلاقات الاسبانية الجزائرية في الآونة الأخيرة تعززت أكثر، عقب الخلاف الاسباني المغربي بسبب استقبال الرئيس الصحراوي إبراهيم غالي في مستشفى بإسبانيا، المهم أنّ هذه الأخيرة لا تطرد الجزائريين حاليا، وبالنتيجة، فهي بطريقة ما تشجّع غيرهم على المحاولة. أليست هذه احدى الأسباب التي زادت من تفاقم الظاهرة؟

نرى أنه حان الوقت هنا في الجزائر لدراسة الظاهرة من عدة جوانب، ووجب على المختصين سواء في الجامعة، أو الأحزاب السياسية، أو الإعلام والخبراء أن يفتحوا النقاش السياسي الإعلامي الأكاديمي الثقافي، ... لدراسة ومناقشة هذه الظاهرة الخطيرة التي وإن وجدت ما يبررها من الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فهي مرفوضة ولا ينصح بها، ولا يجب ترك الأجيال اللاحقة تتأثر بها، لذلك، مثلما أشرنا من قبل، حان الوقت اليوم أن تولي الحكومة على أعلى مستوى، ومعها كل الشركاء، سياسيون واعلاميون ومثقفون، اهتماما خاصا بظاهرة "الحرقة"، ومعرفة ابعادها النفسية والسوسيو-ثقافية بالأخص، لأنه في اعتقادنا، أن الشاب الجزائري، كغيره من الشباب المغاربي والافريقي، من حقه بأن يحلم بمستقبل جميل، أن يحلم بغد أفضل، بمنصب عمل، بسيارة، بمسكن يليق بالعيش الكريم، وطبعا، في نفسية كل شاب جزائري هناك قناعة ما بأنه يعيش في بلد دخله من ريع البترول، يقول في نفسه بأنّ له الحق في جزء من هذا الريع، تسأل أي شاب مهووس بركوب البحر نحو أوروبا عن سبب رغبته في الهجرة، يقول لك: لم أنل شيئا هنا في بلد سرقوا أمواله عصابة من المسؤولين ... (في إشارة لحكم العصابة)... يقول لك: ربما سيحالفني الحظ هناك وراء البحر ... طبعا هذا نوع من تلك الحالة النفسية التي يكون فيها الفرد في حالة الحياة الوردية، لا يرى الحقيقة أمامه، لا يرى بأن الشباب في أوروبا يعيشون بطالة هم أيضا، ولا يرى حقيقة أنه بدون عمل لا يمكن لأحد أن يساعد أحد، ...

ثقافيا، يتأثر الشباب من الجيل الجديد، خاصة المولودين في بداية فترة حكم الرئيس بوتفليقة، بالحياة في أوروبا، فأغلبهم اليوم يمتلكون هاتفا ذكيا في جيوبهم، مزود بالأنترنت هذا أمر بديهي، ويشاهدون كيف يعيش الأوروبيون، ويتفرجون يوميا فيديوهات يبثها جزائريون يعيشون في أوروبا، نجحوا في مغامرتهم بركوب البحر، ثم عثروا بطريقة ما على حظهم هناك، إذن، المشكل اليوم، هو حالة التأثير والتأثر التي يعيشها الشباب الجزائري، هناك نظرية في الاعلام تسمى "نظرية الرصاصة السحرية" وضعها عالم الاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل، وفحواها أن المتلقي يتأثر بمحتوى الرسالة الإعلامية تأثرا كليا بطريقة سحرية، أي تأثير كلي، يمكن حتى التحكم في سلوكيات الشخص المستهدف من العملية الإعلامية هذه، هكذا هو الحال اليوم مع شباب يتلقف فيديوهات تشجّع على الهجرة السرّية بحرا، فهل سيقف السياسيون والاعلاميون والمثقفون والاكاديميون والحكومة وحتى جمعيات المجتمع المدني عند الظاهرة ويناقشوها نقاشا معمّقا؟