برهان هلّاك

يتراصّ اللحم البشري التونسي في صفوف طويلة أمام مخابز غادر مداخلها وأثاثها نثار الطحين المعتاد، وتمتد صفوف أخرى طويلة أمام متاجر المواد الغذائية بحثا عن "الممنوعات" كما يتندّر التونسيون هذه الأيام، أي عن الزيت والسّكر والأرزّ والبيض. وتختلف على مر ساعات اليوم الوجوه والأجساد التي تتخذ موضعا في هذه الصفوف، وهو ما يعني أن شحّا يتعاظم قد أصاب خطوط التموين الغذائي بتونس؛ لقد حلّت أزمة شح عويصة ضربت مختلف أصناف المواد الغذائية التي غاب بعضها عن الأسواق التونسية بالكامل. وهو ما يضاعف من الأعباء المعيشية على المواطنين في خضم أوضاع مالية شديدة السّوء.

يؤكد مالكو محلات المواد الغذائية أن نقص المواد الغذائية الذي هم شهود عليه في هذه الفترة الأخيرة والسعي المحموم من قبل التونسيين لشراء وتخزين المواد الغذائية الأساسية، لا سيما منتجات الطحين والذرة والزيت، لهو مهول. ويأتي ذلك بالرغم من ارتفاع أسعار هذه المواد ارتفاعا جنونيا لم يعهده التونسي في السنين الماضية، وذلك عائد إلى مخاوف كبيرة بخصوص تداعيات طول فترة الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن وانعدام هذه المواد كنتيجة للاضطرابات الطارئة على حلقات التوريد والتصدير العالمية نتيجة هذه الحرب. وقد علّقت بعض المحلات التجارية في العاصمة تونس لافتات تحث فيها الزبائن على شراء كميات محدودة من هذه المواد وتقنين الاستهلاك نتيجة لنقص التموين، في ما يصطف العشرات من المواطنين أمام المخابز والمتاجر ومستودعات بيع المواد الغذائية الكبرى؛ هي مشاهد مفزعة ومنذرة بجوع وانفلات اجتماعي مدمّر.

ورغم أن البيانات التي أصدرها المعهد الوطني للإحصاء التونسي بتاريخ 15 أوت الفارط كشفت أن الاقتصاد التونسي سجل معدل نمو بلغ 2.8% خلال الربع الثاني من العام الحالي مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، فإنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن العجز التجاري قد تعمق ليبلغ 4.36 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من 2022، في مقابل 2.77 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. في الآن ذاته، تصر الهياكل الحكومية، وبالتحديد رئاسة الجمهورية ووزارة التجارة التونسية، على أن المضاربة والممارسات غير القانونية، بالإضافة إلى زيادة الطلب وارتفاع أسعار البترول والمواد الأولية في العالم، هي من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى النقص في المواد الاستهلاكية الأساسية في البلاد.

لكن من الضروري أن نشير إلى أهم أسباب هذا الغلاء في الأسعار، ألا وهو اتجاه الحكومة التونسية إلى اتخاذ سلسلة من التدابير الاستثنائية في سياق التجاوب مع اشتراطات صندوق النقد الدولي (بدأت تونس منذ بداية شهر جويلية الماضي في إجراء مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الدولي من أجل الاتفاق على تفعيل برنامج تمويل بقيمة 4 مليار دولار، مقابل اتخاذ خطوات إجرائية لتنفيذ حزمة من الإصلاحات تتضمن تخفيض الإنفاق على الخدمات وترشيد الدعم). إن من أبرز هذه "الاجراءات الموجعة" مراجعة دعم المواد الأساسية التي "تثقل كاهل الميزانية"، والتي تُقدّرُ بنحو 1.3 مليار يورو خلال العام الحالي وفقا لتصريحات وزيرة المالية سهام البوغديري، مسجلة ارتفاعا بقرابة 300 مليون يورو عن العام المنصرم. وقد أدّت بعثة من صندوق النقد الدولي يترأسها بيورن روتر زيارة إلى تونس خلال الفترة الممتدّة من 4 إلى 18 جويلية 2022 بهدف التباحث حول برنامج التمويل الذي من الممكن أن يقدمه الصندوق لدعم الإصلاحات التي تنفذها الحكومة التونسية، في إشارة إلى الطرف الحكومي التونسي الذي "يمضي قدماً في برنامج الإصلاح للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي ودعم النمو الاحتوائي" حسب بيان الزيارة.

وفي أحدث تقرير صادر عن "المرصد الاقتصادي لتونس" التابع له، قال البنك الدولي أن بطء وتيرة تعافي الاقتصاد من جائحة كورونا، والتأخير في تنفيذ الإصلاحات الرئيسية، بما في ذلك إصلاح منظومة الدعم، سيؤديان على الأرجح إلى ضغوط إضافية على المالية العمومية للبلاد وزيادة عجز الموازنة والميزان التجاري. ويتنبأ التقرير الصادر بالفرنسية تحت عنوان "إدارة الأزمة في وضع اقتصادي مضطرب" بأن يبلغ معدل النمو الاقتصادي 2.7% في عام 2022. ويُرجعُ ذلك إلى حد كبير إلى انتعاش السياحة والتجارة فيما بعد جائحة كورونا، بالإضافة إلى الأداء القوي لقطاعي المناجم والصناعات التحويلية الخفيفة. ويقل معدل النمو هذا بشكل طفيف عن توقعات البنك الدولي السابقة، وذلك في انعكاس لتأثير الحرب في أوكرانيا. ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يظل أداء الاقتصاد التونسي في عام 2022 أقل نجاعة عمّا كان عليه في فترة ما قبل الجائحة.

يسلّط الفصل الأول من التقرير الضوء على كيفية تأثير الحرب في أوكرانيا وارتفاع الأسعار العالميّة للسلع الأساسيّة والمواد المصنّعة على الاقتصاد التونسي وتفاقم مواطن ضعفه خلال الأشهر الأولى من عام 2022؛ فقد ارتفع معدل التضخم من 6.7 % في جانفي 2022 إلى 8.1 % في جوان 2022، مما دفع البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة، وهي أول زيادة منذ سنة 2020. كما تفاقم عجز الميزان التجاري بنسبة 56 % في النصف الأول من عام 2022 ليبلغ 8.1 % من إجمالي الناتج المحلي. والأخطر من كل ذلك توقع هذا التقرير المقلق من ارتفاع عجز الميزانية التونسية إلى 9.1% في عام 2022، مقارنة بنسبة 7.4% في عام 2021، مدفوعاً في ذلك بزيادة الدعم الحكومي للطاقة والمواد الغذائية.

ويذكر تقرير لفرانس 24 أن تونس تعرف نقصا في مواد غذائية أساسية أدى إلى اضطراب في عمل مصانع وغياب منتجات عن رفوف المتاجر في البلاد؛ وتشمل المواد التي تشهد نقصا في السوق التونسية منذ بضعة أسابيع السكر والقهوة والزبدة والحليب والمشروبات الغازية وزيت الطبخ. ويرى خبراء أن "الصعوبات المالية" التي تعاني منها تونس هي السبب الرئيسي للأزمة. كما تظاهر في العاصمة نهاية أوت عشرات من عمال الشركة التونسية للمشروبات الغازية (التي تصنّع علامات تجارية مشهورة من قبيل "كوكا كولا") بعد إحالتهم على البطالة لتعطل الانتاج بسبب نقص السكر، وفق ما أكده كاتب عام نقابة المصنع.

وعلى الرغم من إعلان متحدث باسم الشركة عودة العمال لوظائفهم واستئناف الإنتاج، أكد كاتب عام نقابة المصنع المذكور أن نسق الإنتاج تقلص منذ جوان الفارط؛ الدولة باتت تمد المصنع الذي يوظف نحو 600 عامل بكميات من السكر لا تتجاوز أحيانا 20 % من حاجته التي تبلغ 60 طنا يوميا. ويمتدّ طابور من الشاحنات داخل المصنع وخارج بوابته لتعبئة المشروبات الغازية، ليتنظر سائقو شاحنات التحميل والنقل لساعات طويلة ليحصلوا على كميات أقل من المتفق عليها سلفا.

وتلفت بعض الجهات، من قبيل المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، النظر إلى النقص الكبير في التزويد بالمواد الغذائية الأساسية في البلاد، وما استتبع ذلك من ضغط كبير على المحلات التجارية وما رافقه من توتر وغضب التونسيين. ويوضح رئيس المنظمة المذكورة، لطفي الرياحي، في إطار ما أورده موقع " إندبندنت عربية " على أنّ   السبب الأهم في النقص الحاصل في المنتجات هو سيطرة عصابات الاحتكار على مسالك التوزيع، مما يعيق التزود بشكل طبيعي. كما ينبّه إلى أن دوائر المراقبة الاقتصادية في وزارة التجارة التونسية تواصل حجز آلاف الأطنان من المواد الغذائية في عدد من المخازن والمسالك؛ يشي ذلك بتوفر المواد الغذائية، وأن العيب يكمن في كونها تقع في أيدي المحتكرين الذين يستعملونها في المضاربة قصد التربح غير القانوني. وتطالب المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك على لسان رئيسها بضرورة إصلاح منظومة مسالك التوزيع وتشديد الرقابة عليها كي تصل المواد إلى مستحقيها. كما تعتبر المنظمة أن السبيل الأوحد للقضاء على صولات المضاربين والمحتكرين وجولاتهم يكمن في تسريع عمليات سن القوانين التي تجرّم الاحتكار وتمنع المضاربة على حساب أمن التونسيين الغذائي.

انخرط التونسيون منذ مدة وهم كارهون في ألعاب الجوع، وهاهم الآن مهددون بالتضور جوعا نتيجة لعدم قدرتهم على التزود بأبسط المواد الغذائية الأساسية. وإن أولى المحطات على طريق الجوع هو انعدام الأمن الغذائي الذي هو أبرز وأهم التحديات التي تعترض أي سلطة بمنأى عن مشروعيتها، فلا الدساتير قابلة للاستهلاك الغذائي ولا الجوع راحم أي ديمقراطية فتية ولا بمنتظر لاستكمال بناء المؤسسات.