برهان هلّاك

لا يبدو أن التخفيض الأخير للتصنيف السيادي لتونس من قبل وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في مارس الماضي (CCC، مع نظرة مستقبلية سلبية) - بعد تصنيف موديز في أكتوبر 2021 (Caa1 ، مع نظرة سلبية) - يزعج الفاعلين السياسيين. ويستند هذا التدهور في التصنيف السيادي التونسي إلى عدم وجود اتفاق مع صندوق النقد الدولي  بخصوص تقديم الدولة التونسية طلب قرض بقيمة 4 مليارات دولار، والاتساع المحتمل جدا لعجز الميزانية المتوقع أن يبلغ 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2022 (مقابل 6.2٪ في عام 2021). وينضاف إلى ذلك الارتفاع الرهيب في معدلات التضخم الذي من المرجح أن يتجاوز 8٪، مقابل نسبة 6.6٪ تم تسجيلها في عام 2021 وفقا للصندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في أفريل 2022.

كيف يمكن للجميع، معارضة مفترضة وسلطة غير آبهة، الحفاظ على الهدوء في ظل مؤشرات اقتصادية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مفزعة، بل ومنذره بالخراب والانهيار!

يفترض بنك الاستثمار الأميركي "مورغان ستانلي" مرور تونس بحالة من الفوضى في عام 2022، معتبرا أن عدم القيام بإصلاحات جوهرية يزيد من احتمال تخلّف الدولة التونسية عن السداد في عام 2023 بسبب احتياجات التمويل المرتفعة للغاية؛ تحتاج البلاد إلى ما لا يقلّ عن 12 مليار دينار لتمويل الميزانية العامة لهذه السنة، من بينها أكثر من 7.5 مليارات دينار (أي ما يعادل 2.5 مليارات دولار) ستخصص لسداد أقساط الديون المستحقة هذا العام. وينفرد الدّين العام التونسي بحسب قانون مالية السنة الحالية (الميزانية العامة للدولة) بـ 82.57% من إجمالي الناتج المحلي في 2022. كما يبلغ الدين الخارجي نحو 72.9 مليار دينار (24.8 مليار دولار)، ناهيك عن بلوغ الدين الداخلي عتبة 41 مليار دينار تونسي. وبذلك نستشف أن الوضع المالي التونسي ما فتئ يزداد سوءً بالنظر إلى مثل هذه المؤشرات، وباعتبار أن البنك المركزي التونسي يضخّ يوميا، ومنذ مارس الماضي، 11.4 مليار دينار للبنوك حتى يُخوَّلَ للبنوك التونسية الإيفاء بالتزاماتها وتعهداتها إزاء العملاء. وعلى الرغم من ذلك، فإن المنظومة البنكية بتونس معرّضة، حسب آراء بعض المراقبين للشأن الاقتصادي التونسي، إلى الانكشاف بسبب مخاطر تمويل المؤسسات العمومية التي تشكو بدورها عجزا قياسيّا يجر التوازنات المالية العمومية في تونس نحو هاوية سحيقة.

أنّى لكل الأطياف السياسية بتونس بكلّ هذه الطمأنينة السلبية واللامبالاة، وكيف للطبقة السياسية بسلطتها ومعارضتها ألا تلقي بالا لهذا الخراب الاقتصادي الذي يعد بالجوع والاضمحلال كناتج منطقي لعملقة وحش التضخم!

لقد ارتفعت نسبة التضخم في أفريل الفارط لتبلغ نسبة قياسية قُدّرتْ بـ 7.5 % بعد أن كانت في حدود 7.2 % خلال مارس الماضي، و7 % خلال شهر فيفري 2022، و6.7 في المئة في الشهر الأول من سنة 2022 الحالية وفق الأرقام التي أعلن عنها المعهد الوطني التونسي للإحصاء. وتُعدّ هذه النسبة الأعلى منذ ديسمبر من سنة 2018، إذ تأثرت نسب التضخم بالقفزة الهائلة لأثمان المواد الغذائية بنسبة 8.7 في المئة؛ لقد ارتفعت أسعار البيض 20.4% والزيوت الغذائية بنسبة 20.4% والخضر الطازجة بـ 12 % ولحوم الدواجن بسنبة 9 %.كما زادت أثمان الأسماك الطازجة بـ 9 %، ومشتقات الحبوب بنسبة9.1 %، وشهدت أسعار اللحوم الحمراء ارتفاعا بنسبة 6.6 %. كما شهدت أسعار الخدمات صعودا بنسبة 4.8 في المئة، بعد نمو أسعار خدمات المطاعم والمقاهي والنزل بنسبة 7.2 في المئة وخدمات الصحة 3.4 في المئة والإيجارات بـ 4.5 في المئة حسب أرقام يقدمها تقرير لإندبندنت عربية.

إن الجنون الذي يصيب أسعار المواد المعيشية في تونس لهو واعد فئات كبيرة من التونسيين بالجوع في أسوأ الحالات، وبسوء التغذية في أقل الحالات سوءً. إن بعض المؤشرات تفيد بأن التونسي بات يقتصر في تغذيته على ما يمكنه اقتناؤه مما يتناسب مع دخله وموارده المالية، فالعديد من التونسيين غير قادرين على استهلاك الغلال الطازجة، على سبيل المثال، نظرا لأنها ليست في متناول قدرتهم الشرائية المهترئة التي تعيق بدورها نمو السوق الاستهلاكية التونسية. ولا تزال الأجور مجمدة في تونس، حتّى في ظل الارتفاع الجنوني غير المنقطع للأسعار وعجز المواطنين عن مجاراة هذا النسق. وعلى الرغم من إلحاح الاتحاد العام التونسي للشغل على وجوب الدخول في مفاوضات اجتماعية لترفيع الأجور بغية التصدي إلى تدهور المقدرة الشرائية للتونسيين، فإن الحكومة لم تتفاعل مع هذه المطالب إذ تجد نفسها إزاء صندوق نقد دولي يشترط التحكم في كتلة الأجور، وتدهور خطير للمقدرة الشرائية.

ألا تكفّ السلط، وبعض المعارضين ـ المعاضدين للسلطة، عن التفاؤل الأبله بالموسم السياحي، وتصويره على أنه المنقذ من الانسداد المالي والاقتصادي الحالي المريع!

حسب تقرير لمجلة جون أفريك، لم تستقبل تونس في عام 2021 غير ربع عدد السياح الذين زاروا البلاد في سنة 2019. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن التعويل على انتعاشة اقتصادية يمكن أن يسهم في خلقها هذا الموسم السياحي نظرا للتأثير السلبي للغاية الذي سيكون للحرب الأوكرانية ـ الروسية على السياحة العالمية عموما والتونسية على وجه الخصوص (وهي التي تمثّل 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد) ؛ يأتي عدد كبير من السيّاح من روسيا (630.000 روسي تقريبا) منذ عام 2019، أي العام الذي سبق الوباء. ومنذ عام 2021، لا تُعزى الخسائر التي سجلها القطاع عالميًا بنحو 2.8 مليار دولار (مع انخفاض الإيرادات بنسبة 60٪) فقط إلى الأزمة الصحية، حيث لم تستقبل تونس سوى ربع السائحين تقريبًا مقارنة بعام 2019. في الآن ذاته، كانت السياحة في جنوب المتوسط الأوروبي قد شهدت نموًا لاحقا لجائحة كوفيد ـ 19 بنسبة تقارب الـ 57 ٪ وفقًا لمنظمة السياحة العالمية.

ألا يمعن الفاعلون السياسيون النظر في الأوضاع العالمية فيرون حجم ما تخلقه الصراعات الجيوستراتيجية الأمميّة من متاعب ستكون تونس من بين تلك الدول التي ستتضرّر بسببها!

يزداد الواقع الاقتصادي التونسي تأزما باعتبار تأثيرات الحرب في أوكرانيا على الوضع في تونس، وهو ما لا يتم تقديره بالشكل المطلوب من قبل كل من في السلطة وأولئك الذين يعارضونها. والمحصّلة هي درجة عالية من اللايقين والضبابية فيما يتعلق بالمستقبل الاقتصادي والاجتماعي، وأيضًا المستقبل السياسي للبلد؛ لقد أدّت الأزمة في أوروبا إلى زيادة صعوبات استيراد الحبوب (تستورد تونس جزءًا كبيرًا من احتياجاتها من القمح اللين (84٪) والقمح الصلب (40٪) والشعير (50٪) ) وتأمين إمدادات الطاقة.

قد تكون كل هذه التساؤلات ذات طبيعة استنكارية نحويّا، ولكنها لا تستنكر إلا الحجم المهول للامبالاة والجشع ومركزية الذات وتضخمها عند قيادة ومعارضة بلاد تخطو نحو الضياع بخطى واثقة حتّى لكأنّها مزهوّة بمدى توافق أبنائها على تدميرها والتنكيل بها.