يمر التاريخ الوطني الليبي في مرحلة اختبار عسير، يتساءل المواطن خلالها بقلق عن البدائل الراهنة، المفروضة والمرفوضة مع حالة الانزياح والانحراف، التي يئن تحت وطأتها مشروع الحل السياسي الغائب المغيّب. الشعب ينزف وليبيا تُدمر والتآكل يشمل الحاضر والمستقبل... ولا يطول أبطال السياسة والمواقف الكلامية من ذلك الفتك شيئاً فالشعب ضحية وشباب الوطن ذبائح يصيح لانسكاب دمها صائح القوم مهللاً ومكبراً: الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... وكأنه استنقذ القدس من براثن الصهاينة، أو علا عِلم علماء الأمم بفتح علمي وتقني أوصله وأوصل الأمة العربية معه إلى مجد فغزا المريخ بالمعرفة قبل سواه من أبناء البشر الذين كان يفاخرهم بما له وبما هو عليه؟! 

لقد سال الدم الليبي في كل شبر من أرض ليبيا، ومنذ تسع سنوات ونيِّفٍ وهو يسيل، ولقد وقع العبء على مناطق أكثر من مناطق، ودفع المشردون ثمناً لم يدفعه المستقرون في بيت من بيوت الوطن، ودُمِّر من البلد ما لا يُحصى عدداً، ولا يقدَّر تكاليف... وأسوأ ما وصلت إليه ليبيا "أن تجذَّرت الفتنة، وأُعليت لها رايات، وأصبح الاقتتال قبلياً في كثير من الحالات... نقول هذا وقد تحاشيناه طويلاً، وأدمى قلوبنا كثيراً، وكرهناه داءً وبيلا. لا يوجد نوايا طيبة للأسف، ولا يوجد حس أخلاقي مرهف، ولا يوجد شعور بالمسؤولية، رفيعٌ ومترفِّع.. انفلت الوحش، فتداخلت الأحكام والأفعال والأقوال، سيئها وحسنها... وإذ يبدأ العدوان فإنه يستدعي العدوان، ويبقى البادئ أظلم، ومن ثم يأخذ الوضع قاعدة "الفعل ورد الفعل"، بصرف النظر عن الكمية والكيفية... حتى الرقم يغدو بلا قيمة، لأن الوحش الذي انطلق لم يعد يشعر بمعنى الكم ولا بمدار الكيف، فكل ما يهمه هو أن يقتل... والدم ينادي الدم، والكل يقتل، من تحت الطاولة ومن فوقها، والكل مع حلفائه، يهيئ للحرب، وتستمر المعارك هنا وهناك، والدم الليبي واحد، ولكنه يسيل في كل الحالات والأماكن والأوقات... القتل - الموت - الإبادة - الإفناء... والكذب الكذب. لا... لا... للأسف، عدنا لا نصلح لنصدق أحداً، دروس الواقع هي التي تحمل مصداقية...

إن المعنيين المباشرين بالأزمة الليبية المنذرة بشرر يطول بلدانا عربية وإسلامية مدعوون للنظر في حقيقة أنهم مسؤولون، وإن بدرجات متفاوتة، عن الدم والدمار وعما أصاب البلد والشعب من مآسٍ وخراب وموت، وإن من بينهم من هو ملوث بدم الليبيين من كل الأطراف المعنية بالأزمة، سواء بالقتل أو بالأمر به وبالتحريض والحض عليه، وبرفض العقل والمنطق والحلول السياسية السلمية، وبالبقاء قيد المراوغة والاستعداء والتملص وتبادل الاتهام والسعي إلى امتلاك القوة واستخدامها وصولاً إلى حسم للصراع بالقوة المسلحة... وكل ذلك أتى على ليبيا الوطن والدولة وعلى الكثير من مكونات قدراتها ومكانتها وهويتها وهيبتها ومستقبل أبنائها. 

وسواء أكان الواحد من أولئك "الساسة والدعاة والمقاتلين والإعلاميين والمثقفين والمحرضين، والسائرين في الزفة بوعي أو من دون وعي... سواء أكان مدفوعاً بدوافع وطنية أو غير وطنية، داخلية أو خارجية، شخصية أو عامة، فإنه مسؤول عما فعل وعما تسبب بفعله، والتملص لن يفيد أحداً، سواء أكان يقاتل في خندق أو من جدار وحاجز أو ستار، أو يقاتل في فندق من وراء البحار... فإنه مسؤول بدرجة ما عن الدم والدمار وعما آل إليه وضع البلد وحال الناس... ذلك لأن عليه، وهو يتنطع لقضية وطن وشعب، أن يضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل اعتبار، وإلا فما هو الفرق بين قتلٍ وقتلٍ وقاتلٍ وقاتلٍ، وبين ظلم وظلم وظالم وظالم؟! 

أنا لا أسأل أيًّا من الليبيين المعنيين اليوم بالأزمة وتفاصيلها ومآلاتها، وعما أسفرت عنه المواجهات الدامية أو ستسفر عنه من خسائر ومآسٍ، فتلك مهمة ومسؤولية على الجهات المعنية في ليبيا أن تقوم بها، عندما يستقر ويطمئن بنزاهة ووفق معايير وقيم وقوانين... بل أقول لكل من أولئك إنك مسؤول عما جرى بقدر مشاركتك ومسؤوليتك فيه وعن استمرار القتل والهدم، مسؤول بعدم التضحية وبعدم الميل إلى الحلول التي تحقن الدم وتبقي الوطن وتحفظ المواطن بأمن وكرامة... ومن ثم فأنت مسؤول بدرجة ما عن الدم والدمار، ويجب أن تتوقف عن السير في طرق التهلكة هذا، وتدع ما تبقى من الشعب ومن الوطن إلى شيء من الوعي والعقل والحكمة والمسؤولية، يقوم بها سواك عن طريق الحوار وصولاً إلى الوفاق والاتفاق... 

كل مسؤول وكل معارض معني عليه أن يترك للشعب فرصة أن يلملم جراحه، وعليه هو أن يتوقف عن القتل والاقتتال والتحريض عليهما وأن يلت يديه بالتراب بانتظار الحساب لا أن يغسلهما فلا مغتسل من الدم والإثم والجرم في وطن دفع الكثير الكثير وما زال يدفع وسيدفع... ومن ثم إذا كان المعني من أولئك "وطنيًّا وديمقراطيا ويهمه الإصلاح وتهمه الحريات والحقوق العامة والعدالة والحقيقة، وتهمه ليبيا لا التجارة بها واستلابها وحلبها صباح مساء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عليه أن يعطي نفسه إجازة مفتوحة "من أجل الوطن"، وأن يترك لغيره من المواطنين القادرين الأكفَاء الذين لم يلغوا في الدم ولم يتورطوا في القتل ولم يورطوا غيرهم في إراقته، أن يعالجوا الأزمة بمسؤولية ووعي وواقعية بعيداً عن الثارات والغارات والأحقاد والتورمات السلطوية والشخصية والمعرفية والوطنية... 

لا يوجد منتصر في حرب على ليبيا والشعب والقيم والهوية، الكل مهزوم، والكل خاسر... ولا انتصار، بأي حال وبأي شكل، وبأي طعم، وأي لون، حتى لو أباد فريق فريقاً آخر، في نهاية المطاف... ففي حرب يقتَل فيها أبناء البلد، ويدمر فيها الوطن، ويُهَجَّر أو يَنزح نصفُ الشعب، ويعيش كله المهانة وحياةً هي الموت، بل أفضل منها الموت... في مثل هكذا حرب في الوطن وعلى الوطن... لا يوجد نصرٌ ولا يوجد منتصر، والنصر الوحيد في مثل هذه الحالة وقف الحرب، ولجم الجنون والمجانين. 

من يَقتل اليوم هو عدو الشعب والدين والهوية... حتى لو كان من أبناء ليبيا، وهو الخاسر، وفعله الخسران، حتى لو كان واثقاً من "عدالة" ما يفعل، ومقتنعاً بأنه يرد على القتل بالقتل، ويدفع عن نفسه القتل بالقتل. وحين ندقق أكثر، ونفكر أعمق، ونستبطن ذواتنا بموضوعية ومسؤولية أخلاقية ووطنية وإنسانية، نجد أن الجميع مسؤول بدرجات، وعلى خطأ في الاختيار والمسار والمآل... وسنكتشف أن من يحرك القَتَلَة والقتال في أرض ليبيا، وبين جموعها، ومَن يسوِّغ ذلك ويشارك فيه، ويدفع إلى المزيد منه، هو العدو الحقيقي لليبيين جميعاً، مهما تلون، وتقلب، وتقرب... وأنه إذ يمعن في قتل الليبيين اليوم وفي إشعال النار بالبلد والشعب... لا يخسر شيئاً، بل يربح، إذ يبيع ويشتري بالليبيين... بدمهم وبمستقبل أجيالهم، ومستقبل الوطن. 

إنه التركي والقطري والأجنبي، أو يده الطُّولى في البلاد وفوق رقاب العباد، وإنه الجهل، والحقد، والعمى بأشكاله وألوانه، والعتَه، الذي يصيب البعض من الليبيين، فينقلب أظفاراً ومخالب وأنياباً سامة ضد ليبيا... إن عدو ليبيا يستخدم قدراته وأدواته، لكي يكون ولا نكون. وهو الذي يَقتل اليوم ويكرس مناطق نفوذ له، يتقاسمها مع أنداده بالقوة والسطوة والشراكة في استباحة ليبيا والليبيين، وهو يحقق مصالح خاصة فقط، واستراتيجيات بعيدة المدى، خاصة به هي الأخرى، من دون مسؤولية سياسية، أو أخلاقية، أو إنسانية، مما يفرضه عليه، أو يُفتَرَض فيه أن يَفرض نفسه عليه، بوصفه قوة دولية تتمتع بقدرات، وطاقات، ونفوذٍ، وحقوق ليست للآخرين، وهو، مع شركائه، يعيد رسم خريطة ليبيا، لتكون فُتات: مناطق، وطوائف، وأقليات، ويوحي بامتيازات لجهات وفئات، تعود لعصر الاستعمار المباشر، الذي دحرته بلدان المنطقة، ومنها ليبيا بالدم والتضحيات الجسام... ويقوم بوضع الحلول السياسية، يفرضها علي الليبيين الأقوياء، باسم "الأمم" ومجلسها الذي يتحرك حسب الطلب، ويتجمد حسب الطلب، ويحتفظ بحق إبداء القلق؟!... 

وإنه لمشروع حل سياسي عجيب، يُصاغ من خلال التواطؤ مع الشركاء الدوليين الكبار، تحت لافتة أشخاص ينتقيهم الشركاء، وأصحاب المشروع، ممن يلوذون بهم، ولا يملكون من فقه السياسة شيئاً... والثابت لدينا، أنه لا يوجد قرار ليبي خالص لمصلحة البلد والشعب، وبإرادة تامة غير محكومة بعوامل وضرورات وحقائق واستحقاقات... إذ كل معطيات القرار ومخرجاته محكومة بظروف، ومعطيات، وحسابات، خارجة عن الإرادة الليبية الخالصة، ومدخولة بإرادة هذا الطرف أو ذاك، ممن أصبحوا يسيطرون على البلد، وعلى المتحاربين فيها، ويختارون لها من يشكل هيكلها، وصورتها، وشخصيتها، ومستقبلها، ويقررون من هم أصحاب الأهلية والمسؤولية فيها...


 
إن توالي الأحداث المروِّعة، وفتح الصراع القبلي على مصراعيه، والانخراط أكثر فأكثر في الدموية والثارات والعنتريات، والحلول العسكرية... هو عمليًّا ترسيخ لحالة عداء أزمن، "تسع سنوات"، وسيزمن، بفعل عوامل كثيرة... وذاك حال لا يلتئم معه جرح الوطن، ولا يكف معه قلب الشعب عن النزف، ولا يصلح معه من بعد حال، ولا تجتمع كلمة، لا سيما وهو يفتح أبواب التدخل الخارجي بأكثر مما هي مفتوحة، ويحيج الأطراف المعنية بالصراع الدموي إلى الأطراف الخارجية... ولا يمكن تغيير هذا الحال، ولو جزئيًّا، إلا بتغيير ذاتي يبدأ من الليبيين، على أن يكون تغييراً جذريًّا في أعماقهم، في النفس والعقل والقلب، في السلوك والنوايا والمواقف، وبكل ما يتصل بالأفكار والأحكام والنزع، والنظرة إلى الآخر، بوصفه شريكاً في الوطن والقرار والمصير... وكل ما هو في جوهر قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم..) 11 سورة الرعد. 

وهذا يحتاج إلى تمهيد، وإلى بيئة حسنة، حاضنة للثقة ومولدة ومنمية لها، ويحتاج إلى فعل إيجابي على أرض الواقع... فلا مجال أمام الليبيين سوى الصبر، وهو من المكرمات التي يحتاجها شعب بأكمله عندما يتعرض للمحن... لاشك أن المرض عندما يداهم الإنسان يأتيه بغتة، ويحتاج للقضاء عليه وقت يكون فيه الدواء قد باشر مفعوله بتراكمه، والصبر ثانية يؤسس لعلاقة جديدة بين الشعوب وبين أوطانها، ففي مراحل ما لا ينتبه المرء إلى القيمة المثلى لوطنه وأمته بقدر ما يعيش على نمطية محددة ويوميات عادية. فالمحن تجربة يثبت من خلالها من هو الوطني ومن هو المصلحي، من يعتبر وطنه حياته، ومن يعتبره مجرد فندق، أو بين أن يكون هنالك شعب وبين أن يكون سكانا. 

ولهذا تتطلع جماهير الشعب اليوم، بل تطالب بالحسم في وجه الإرهابيين، والمترددين والمتخاذلين الذين ينتظرون التوازنات والإشارات، وبعدم  التساهل مع هؤلاء وداعميهم. فلا تسامح مع من يظن أن الأمن الوطني الليبي ليس خطاً أحمر، ولا حتى مع من يتريّث لينتهز النتيجة الواضحة مسبقاً. فالموقف الرمادي مرفوض لأنه رديف الضعف والانهزام والخيانة والرهان على أعداء الشعب والأمة. والطاقة الكامنة في الوطنيين الليبيين الأحرار على امتداد ساحات ليبيا والتي تتمثل في تأكيد تماسك الشعب والمؤسسات والجيش العربي الليبي مؤهل وجاهز لسحق الإرهاب والعمالة والارتزاق.


خلاصة الكلام: أيها السادة استريحوا قليلاً لتريحوا كثيراً، فقد تعبتم وأتعبتم ووضعتم ليبيا ومصيرها في مآزق وأدخلتموها في أنفاق مظلمة. لقد مُزِّقت ليبيا شر تمزيق، ولن ينجح أي فريق منكم في أن يستأثر بالوطن ويلحقه بملكه أو في أن يقتطع منه قطعة يشكلها وطناً أو يضعها تحت تصرف من أوحى له بأنه قادر على أن يكون وطناً... لا تعيشوا الأوهام ولا تصدروها لشعبكم فقد أهلكته تلك السياسات والمبالغات وأهلكه ساسة يسوقون له الوهم ويجعلونه يدفع ثمنه غالياً.