يحلو للبعض أن يجد بارقة أمل للتخلص من المؤتمر والحكومة في أقرب الآجال، وأقربها 7 فبراير القادم، ولقد قامت بعض الفضائيات وأخص بالذكر قناة ليبيا أولاً (وما هي بذلك) التي لم تستنكف أن يدير حواراتها بعض المصريين، أن تشن حملة شعواء على المؤتمر لتأليب الشعب على تغيير قصري إنقلابي شبيهاً بما حدث في مصر، وذلك بأن يخرج الجماهير في مسيرات حاشدة يوم 7 فبراير تنادي " نبو سيسى زي سيسيهم".

وحيث أن جميع القوى المؤيدة والمعارضة للمسار الديموقراطي  والمؤيدة والمعارضة للمؤتمر والحكومة متفقة على أنه لن يكون هناك إسقاط للمؤتمر دون إيجاد بديل شرعي له، وهو أساس القبول بالنهج الديموقراطي والتداول السلمي للحكم، فإن السابع من فبراير لا يعدوا أن يكون زوبعة في فنجان، وأقصى ما يمكن الوصول إليه إصدار خارطة طريق واضحة المعالم تحدد مواقيت الاستفتاء على الدستور وإنتها عمل المؤتمر الوطني. أما الحكومة فإن أمرها يسير ويمكن التضحية بها في أي وقت يرى المؤتمر أنه في ضائقة من أمره.

لا أحد يزعم أن أداء المؤتمر أو الحكومة جيداً، بل أن جهودهما أقل من القليل، وطاقتهما بددت في خلافات طوباوية ونقاشات عقيمة إستنفذت المدد المحددة للإستحقاقات العمل المناط لها، مثل صياغة الدستور، ومعالجة الإنفلات الأمني وبناء الجيش والشرطة، ومعالجة المشروعات المتوقفة، والتعاطي مع ملف البطالة وغيرها من قضايا بناء الدولة الحديثة. ولكن ما هي القوي الفاعلة المتضادة التي بددت جهود المؤتمر والحكومة وهي التي تنادي بإسقاط المؤتمر والحكومة.

إن المتمعن في حركية الجماعات الإسلامية في الشرقين الأوسط والأدنى خلال الثلاثين سنة الماضية يجد أن نشاطها كان موجها للمصالح الغربية حتى غزو أمريكا للعراق سنة 2003م، حيث قامت جماعة القاعدة وتفرعاتها بمهاجمة الدول الغربية في عقر دارها مثل تفجيرات لندن ومدريد ونيويورك في 11 سبتمبر الشهيرة وتفجير السفارة الأمريكية في تنزانيا، وغيرها من العمليات العسكرية الإرهابية. وبعد دخول الأمريكان للعراق لم نعد نسمع بهذه التفجيرات، وتم شيطنة الحكومات من أجل نقل عنف هذه الجماعات إلى الداخل بعدة ذرائع منها تكفير الحكومات، وأنها لا تحكم بما أنزل الله، ومنها تكفير الشعوب وأنهم لا يتبعون شرع الله، ومنها محاولة إسترجاع الخلافة الإسلامية، ومنها تحويل الدولة إلى إمارة إسلامية. وبذلك إنتقل العنف إلى معظم الدول الإسلامية ذات الحكم الشمولي، ولم تتبع النهج الديموقراطي مثل مصر والعراق واليمن والجزائر والبحرين وليبيا وسوريا والباكستان والصومال وتونس، في حين أن النظم الإسلامية الديموقراطية سلمت من هذا العنف وهي تركيا وماليزيا والمغرب وإندونيسيا. والجدير بالذكر أن الجماعات الجهادية تترعرع وتزدهر في الأوساط التي تتسم بالخلافات القبلية والطائفية.

في ليبيا، التيار الإسلامي المتشدد كان حاضراً في ثورة 17 فبراير وأنه ليس الوحيد ولا يمثل الركيزة الأساسية للنصر، ولكن بسبب تبني لمعظمهم الشعارات الدينية مثل إظهار الورع والإستقامة، وإستخدام إضطهاد الحكم السابق سلًماً للإستحقاقات الحالية، كان نصيبهم من مقاعد المؤتمر الوطني في إنتخابات 7 يوليو 2012 م الأوفر.

ومن الناحية الأيديولوجية يمكن تقسيم الإسلام السياسي إلى مجموعتين، الأولى من أتباع الإخوان والإسلام المنفتح، من الذين خرجوا من ليبيا إلى دول الغرب، وأتيحت لهم ظروف التعرف على النهج الديموقراطي وركائزه مثل نظام عمل الأحزاب والتداول السلمي للسلطة وترسيخ مبداء المواطنة، والإعتراف بالآخر والتحاور معه، وقبول التنوع والتوافق، في حين أن مجموعة أخرى كانت ضمن الجهاديين في أفغانستان أو طلبة العلم من السلفيين الذين كان مصدر ثقافتهم الدينية علماء السلفية السعوديين. هؤلاء معظمهم متشددون يرتبطون بنصوص وتفسيرات مشائخهم، مما لا يساعد على تقدم الحوارات مع الأراء المخالفة، ويشار إليهم دائما بأنهم وراء عدم تفعيل الجيش والشرطة وعرقلة تكوين جهاز الإستخبارات، بل التدهور الأمني والإغتيالات في الكثير من المدن الليبية ناهيك عن عرقلة الحكومة في أعمالها وجرها إلى موضوعات جانبية ليست من متطلبات المرحلة. 

  طيف آخر عاش وترعرع في ظل الحكم الشمولي السابق وإنتفع من وراءه كثيراً، ولم يرى أو يمارس نظاماً غيره، هذا الصنف يزعجه التغيير، ويجد نفسه خارج المنظومة الحديثة، فما فتئ أن يردد المقولات  التي تربى عليها مثل، الحزبية إجهاض للديموقراطية، والقبلية هي الحل للمشاكل الإجتماعية والسياسية، والأمن والأمان أفضل من الحرية، والديموقراطية ليست ثوبا لنا، وما نحتاجه اليوم قبل غداً سيسي ليبي يقمع الخارجين عن القانون ويرجع المهجرين في تونس ومصر إلى أرض الوطن، ويبعد وافدوا 17 فبراير إلى مهجرهم وخاصة ممن تعددت جنسيتهم. والأدعى للشفقة أن الكثير من أفراد المدن قد قام بترشيح هذه الفئة لتمثلها في المؤتمر الوطني، وهو ما عرقل شئون المدينة الممثل لها، وشئون الدولة الليبية قاطبة، وبذلك صدق قول الشاعر: إذا كان الغراب دليل قوم ♦ يمر بهم على جيف الكلاب.

مقابل هؤلاء، نخبة ممن تفتحت أفكارهم  وأعينهم على ثقافات العالم، وتكونت لهم قناعات راسخة بأن ليبيا الحديثة لن تكون إلا وسطية الدين، منفتحة على الشرق والغرب، ولها كل مقومات السيادة والريادة لتغيير هياكلها على أسس تنظيمية معاصرة، دون اللجوء إلى جبروت الطاغوت أو عسف الخلافة الأموية أوالإمامة والملات. هذه النخبة وإن كانت قليلة العدد إلا أنها ذات أفكار واضحة المعالم، ويتوجب عليها عبئاً كبيراً نحو المجتمع، من أجل التغيير الثقافي والإجتماعي المرتقب، والذي لن تصلح  الدولة الليبية إلا به.

إن تواجد هذه المجموعات الثلاثة في المدن والقرى الليبية لا علاقة له بالإنتماء الحزبي بقدر ما هو لصيق بالخلفية الثقافية، فنجد مثلاً في حزب التحالف الأصناف السابقة جميعاً، وهو ما يفسر عدم تجدر أدبيات الإنتماء الحزبي، وأنها هياكل دون محتوى. بالمقابل نجد أن تواجد هذه المجموعات توضح مدى إنتظام كل مدينة في العناية بشئونها، ففي المدن التي يتواجد بها المتفتحون ويقودها أهل التنوير،  نجد الأمن والأمان وإنتظام الشئون المحلية للأفراد، بل السعي للبناء والإهتمام بالتنمية، ومن ذلك مدينة مصراته والبيضاء وطبرق والعديد من مدن جبل نفوسة، أما المدن التي تتواجد بها المجموعات الثلاثة السابقة وينقسم أهل المدينة في مناصرة البعض والإعراض عن الأخر بطريقة قبلية أو جهوية، فإن الأمن ينحسر وتنتشر الجريمة وحب الإنتقام، وتتوقف عجلة التنمية كما يحدث الآن في بنغازي ودرنة والكفرة والزهراء.

إن العقلاء من المجموعات السابقة يعلمون جيداً أن لا رجعة للعهد السابق البائس، وأن الليبيين الذين إرتضوا لأنفسهم إختيار النهج الديموقراطي لن تكن لهم إنتكاسة تبني مجلس اللوياجرقا (مجلس القبائل) على الطريقة الأفغانية، وبذلك لا خيار مناسب لتقدم العملية السياسية في ليبيا سوى بقيام المؤتمر بتبني خارطة طريق تحدد توقيتات الفترة الإنتقالية، وربما المقترح الأكثر حكمة أن يستمر المؤتمر الوطني حتى نهاية شهر أغسطس؛ خلال هذه الفترة سيتم إنتخاب لجنة الدستور في 20 فبراير الحالي، ويكون هنالك خمسة أشهر لتجهيز الدستور والإستفتاء عليه. أما الحكومة فلا ضير من تحويرها إلى حكومة مصغرة تقوم بتسيير الأعمال أو حتى إستبدالها إن تم التوافق على شخصية بديلة لرئيس الوزراء الحالي.