برهان هلّاك

تشير الكاتبة التونسية عواطف القطيطي إلى بروز أشكال تعبيرية فنية جديدة حررت الفنون من فضاءات العرض التقليدية المغلقة واخرجتها الى الساحات الرحبة والشوارع العمومية وذلك منذ انطلاق الثورات العربية. لقد اكتسح الشباب الثوري الفضاء العام الذي طالما صيّرته الأنظمة "خواءً عامّا محظورا" ليحرّره من الاستبداد السلطوي السياسي، وليحوّل الجدران الى لوحات ناطقة ومدوّنات لمسارات الانتفاض واللحظات الثورية ... لقد صارت الشوارع في تونس، مهد هذه الانتفاضات، مساحات عرض عفوية ومفتوحة تتيح التفاعل بين عموم الناس والابداع في مرج بديع بين الحراك السياسي المغاير للسائد والتغيير الاجتماعي الخلّاق.

وفي المثال التونسي، اعتبرت مجموعة “أهل الكهف” الفنية (*) محمد البوعزيزي، مشعل شرارة الثورة التونسية، "أوّل فنان تشكيلي في تونس". ولتحدث المجموعة إلى ذلك صدمة معرفية لدى المتلقّين وانقلابا على المفاهيم الجمالية المتداولة عن طريق تجاوزها أو إعادة صياغتها بدلالات جديدة نابعة من صميم اللحظة الثورية؛ يقول المناضل اليساري والكاتب التونسي الراحل جيلبار نقّاش أن إعلان مجموعة "أهل الكهف" في بيانهم التأسيسي أنّ محمد البوعزيزي هو أول فنان تشكيلي في تونس لم يكن محض صدفة أو مجرد لعب بالألفاظ، ففعل الثورة هو فعل إبداعي بالأساس إذ يقيم قطيعة وجودية مع المألوف إجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ويقلب هرم القيم ونسقيّة الفكر المتكلّس الرتيبة والخانقة. كما يعيد تحريك الرياح في طواحين الهواء وفق دائرية جديدة، لنتخلّص بذلك من أوهام قديمة ولتتفتّح عقولنا المستيقظة لتوّها ـ بفعل الصرخة ـ على حقائق أخرى لم نعهدها. إن هذه الجملة لهي حمّالة لإجابات عديدة، ففعل الإحتراق كان أول لوحة تشكيلية معاصرة، وأسّس لمدرسة فنية جديدة هي الثّورة. وهكذا، فكل ما نعانيه من هزات متواصلة و خيبات إن هو إلا "محاولات" فنية لم تنضج بعد، فكل مدرسة تقوم على التجريب، أو التخريب بمعناه التقويضى المؤذن بإعادة البناء. ويواصل العظيم الراحل جيلبار النقاش القول بعزم لا يفلّ مؤكدا بأننا سنرسم الحقيقة يوما من وحي هذا الإحتراق، وستكون بلون الكرامة إذ لا بد من أن يستجب القدر لتكتمل اللوحة. إن غاية التونسيين كانت، ولاتزال، الحرية و الكرامة و إن وسيلتهم في جزء من ذلك هي فن الثورة، و شرف الوسيلة من شرف الغاية. أما أن يُجبر التونسيون على الاختيار بين مرارات عدة في الوقت الذي يتبجح فيه آخرون بالبديل المر الذي سيرد لنا شرف الاعتبار، فتلك بعينها الغاية التي انتهكت شرف الوسيلة كما يقول نقّاش.

إن هذه الظاهرة الفنية الثورية قد آذنت آنذاك بولادة مشروع إبداعي سياسي متكامل وجديد كان قد أعلن بدوره عن إحداث “قطيعة معرفية” وفنية، وفقا لمصطلح غاستون باشلار، مع الممارسات التواصلية والتعبيرية التي تحكم السائد. لطالما اعتبرَت هذه الحركات الفن تجربة شعبية حميمية تلتحم بهموم النّاس و باليومي الخاص بهم، وتنزل الى مواقعهم بعد ان كان مجرد تجلّيات مشهدية ترفيهية تمّت مأسستها بشكل يفصلها عن الكيان الاجتماعي. ولعل في رمزية الاحتجاج التي اكتسبها المسرح البلدي وسط شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس، باعتباره أحد هذه التعبيرات المؤسسيّة للفن التونسي، ما يشي بسخرية منعشة. وهكذا، فقد صنع محمد البوعزيزي الحدث “بجمالية درامية” نادرة وفي فضاء مفتوح (السوق الأسبوعية لمحافظة سيدي بوزيد)، وقد لُعبَ هذا العرض في بغتة سينمائية على الملأ وفي الشارع العام، وأسّس بشكل عفوي للتجديد في ارتكاز على المعاناة والقتامة والفساد الذي يشوب المشهد السابق لفعله؛ “الفن لايولد إلا في ركام الخراب” كما يصوغ ذلك بيان مجموعة “أهل الكهف” الفنية التي تتمثّل مشهد احتراق البوعزيزي بوصفه " أداءً ". تشير عواطف القطيطي إلى أنّ فعل الخلق لا يحيل بالضرورة الى مفهوم الفن كحالة ترف ثقافي وروحاني وفق منظور هيجل، أو إلى لذّة استهلاكية عابرة كما صورته الصناعة الثقافية لفترة ما بعد الحداثة في الغرب. بل هو يشير إلى الفعل والحركة والخروج من الجمود الى الإبداع. فالحدث هو واقعة خارقة للعادة غيّرت مجريات الأمور الرتيبة المألوفة عبر خلق صدمة وذهول لدى المتلقّين هزّت مشاعرهم بعمق شديد حضّ بدوره على المبادرة والفعل. ومن هذا المنطلق، فحرق محمد البوعزيزي لنفسه احتوى بحسب ما تؤكده القطيطي على جمالية صرفة لم تخضع لنية مسبقة أو لتخطيط مقصود، بل هي وليدة انفجار مفاجئ لحالة اجتماعية يائسة وجدت صدى كبيرا لذروة مأساتها الإنسانية، كما عثرت في تكرارها في الزمان وفي الجغرافية العربية بصفة عامة مشروعية لتبلورها.

إن تجيير المعجم الفني في بعده المسرحي الدرامي لإعادة صياغة مصطلح “الثورة” يمكّن من القول بأن “حدث” محمد البوعزيزي قد أنتج من نفس المنظور الفني إختلاجات خلاّقة اكتسحت إلى حد كبير ميادين سياسية واجتماعية ونفسية وثقافية واقتصادية متعددة. وإن تركيز مثل هذه المجموعات الفنية على حدث حرق محمد البوعزيزي لجسده، بوصفه حدثا قادحا، قد حرّك مشاعر مختلطة بمنسوب من الحدّة قد أحدث قطيعة مع حالات نفسية ومكبّلات عويصة أهمها على الاطلاق “الخوف” و“الخنوع”. وإن هذه المكبلات التي كانت تقمع التصعيد عن طاقات الخلق والإبداع لدى شرائح واسعة من الشباب التونسي، والعربي إجمالا، لطالما كانت متوجسة من شرط انتهاء وجودها، أي حدوث القطيعة الابستمولوجية والمعرفية والنفسية التي تؤذن بتغيير بنيوي في السلوكيات الفردية والاجتماعية في المستقبل كما تصوغ ذلك الدكتورة عواطف القطيطي ذاتها.

وبذلك يكون النظر في عيد الثورة التونسية من وجهة نظر فنية ذا طرافة منعشة حتى على الصعيد السياسي على اعتبار أن الحركات الفنية من قبيل "أهل الكهف" و "فني رغما عني" التونسيتين قد جدّدت قواميس النضال الاجتماعي المهترئة من جراء عقود من ترذيل وتخوين وتجريم أي نشاط سياسي معارض. وبالإضافة إلى ذلك، فإن توهج هذه الحركات قد صاغ جماليّات مغايرة للقوالب الاستيتيقية القديمة المتصلبة التي لا روح فيها، وذلك في مراوحة لذيدة بين صمت الاعتكاف والصخب الاستعراضي الذي يشدّ العابرين.

وبمناسبة الحديث عن هذه التجارب الفنية التي انطلقت من غضب غذّته تراكمات من الخذلان، فقد بارك الراحل جيلبار النقاش هذا الفن المنبعث من الساحات والشوارع والأحياء المهمشة والذي يخلق جماليات جديدة تهزّ الوعي المطمئن المستكين إلى نفسه لتحرك سواكنه. وقد خاطب رواد هذا الفن الذي اتّخذ من المساحات العامة ركحا له، فارضا ذاته على المارين بجرأة تربك التحفظ الاجتماعي المعهود في الساحات العمومية العربية بأن قال

سنضل نمشي، نصر على شرف وسيلتنا، و نستدرك عند كل خطوة و نسائل أنفسنا. "

(*) حركة “أهل الكهف” الفنية: تعرف هذه المجموعة نفسها بأنها “حركة مقاومة جمالية فنيَّة شبابيَّة تونسيَّة انطلقت أثناء الثورة. وهي مناهضة للعولمة والاستشراق ووليدة المسار الثوري.