"من اكثر المواقف التي احسست فيها بانني عاجز، اذكر يوما حدث اضراب و انا في الثانوية الوطنية  بنواكشوط و هممت بالخروج، فوقعت و خرج الجميع من فوق ظهري، ولاحظت بعد الرجوع إلى مقعدي أن وجهي قد شج و احمرت ملابسي بالدماء.

و الأمر الذي اثر في هو انني قطعت المسافة بين الثانوية و المسجد العتيق"اكثر من 1 كلمتر" بتلك الثياب دون ان الفت انتباه اي احد".

بهذه الكلمات الحزينة يعرب بعقوب عن مشاعر و احاسيس اثرت فيه لسنوات طويلة.

يقول المثل الانجليزي "لا نجاح بدون أوجاع"، لكن المثل لم يكن –في الواقع- يقصد يعقوب و أصحابه من ذوي الاحتياجات الخاصة، فآلامهم من نوع آخر قد لا يدركه تماما من لم يعش حالتهم.

فرضت عليه شخصيته الانطوائية وحدة قاسية حرمته من الالفة الحميمية مع الأصدقاء، فتتالت عليه المحن و الف الكفاح تحت وطأة المعاناة.

ولد يعقوب ولد عبد الله سنة 1970 في نواحي اكجوجت لتسعة اخوة بين الاناث و الذكور.

كانت قصته مع التعلم أشبه بالمستحيلة، فأصبح مثالا للمدرس المنهجي المثابر، و بنى صرحا تعليميا دأب منذ سنوات على تزويد التعليم العالي على المستويين الوطني و الخارجي بخيرة التلاميذ من مختلف التخصصات.

عن بدايته مع المرض الذي رافقه منذ ان كان في السنة الثالثة من العمر، يقول يعقوب للصحفية الموريتانية في اذاعة نواكشوط الحرة"نبغوها منت زيدان" انه اصيب حينها بحمى و إغماء و استفاق و هو يشعر بآلام في عنقه و كتفيه فحملوه الى مستشفى انواكشوط. و بعد رحلة يومية مع الحقن دامت لستة اشهر، فقد القدرة على تحريك أطرافه السفلية بشكل نهائي. و اردف بمرارة "كنت احاول معالجة مرض" اكندي" فاذا بالعلاج يقعدني مدى الحياة".

انتقلت والدته الى الرفيق الأعلى و تاريخه مع المرض لم يتجاوز الثلاث سنوات بعد، و في سنة 1982 أصيب والده بالشلل فاضرت الأسرة الى النزوح به الى ضاحية تبعد أربعة عشر كيلو مترا عن مدينة روصو.

دفع يعقوب ايمانه الطفولي بالحياة الى الذهاب –زحفا- الى مدرسة القرية آملا الالتحاق بالتعليم العصري بعد أن أخذ نصيبه من الدروس المحظرية، فاعترض مدير المدرسة على طلبه و رفض تسجيله بحجة وصفها يعقوب بالواهية، و هي أن المدرسة تحوي أطفالا ذوي نزعة عدوانية، و أنه يخشى أن يلحقوه بالقائمة اليومية لضحاياهم، مشيرا الى عجزه عن الدفاع عن نفسه.

بعد ما يقارب الثلاث سنوات توفي والده و انتقل مع أخته الى العاصمة انواكشوط و حالفه الحظ هذه المرة في دخول السنة الخامسة من مدرسة ابتدائية في الميناء "الكبه"و هو ابن الاربع عشرة سنة.

اقترح مدرسه بعد امتحان نصف السنة أن يشارك يعقوب في مسابقة ختم الدروس الابتدائية "كنكور" ، و بعد انتهاء المدة المخصصة لدفع الأوراق، علم المدرس "الخليل"- و الذي لاحظت التأثر في قسمات وجهه حين قال انه بحث عنه كثيرا فيما بعد و لم يحالفه الحظ في لقائه- علم أنه لم يجد من يكمل له أوراقه، و في غضون أربع و عشرين ساعة فقط أخرج له شهادة ميلاد و ألحق أوراقه بملفات التلاميذ المشاركين في المسابقة.

كان من حسن حظه أن بنيت اعدادية قرب مدرسته في العطلة الصيفية، و بعد شهرين من الزحف اليها استطاع الحصول على مقعد متحرك. و تابع مسيرته الثانوية الى أن حصل على الباكالوريا سنة1992، و كان الأول على دفعته في كلية الاقتصاد بجامعة انواكشوط خلال السلك الأول، و تخرج بشهادة المتريز بدرجة مستحسن 1996.

مع أن الأستاذ يعقوب لم يفكر يوما بأنه قد يلج مجال التعليم و لم تكن مهنة التدريس من بين طموحاته، الا أنه كان موصلا بارعا طيلة سنواته في التعليم الثانوي و العالي، و كان يمارس هوايته في الشرح للطلاب باتقان، و يذكر ان أحد زملائه في الكلية قد اقترح عليه في أحد الأيام أن يمتهن منح الدروس الخصوصية للتلاميذ بعد التخرج، فلم يبال بما قال زميله.

بعد تخرجه بأشهر طلبت منه جارته أن يساعدها في مراجعة دروسها مقابل أجر شهري، فقبل الفكرة ورفض التعاقد معها، مشيرا الى أنه يعرف الحالة المادية لسكان الحي ولا يريد تكليفهم، لكن البنت كانت مصممة و أحضرت معها اثنتين من زميلاتها و دفعن له مبلغا بسيطا عن كل واحدة منهن. و قد أكد الأستاذ في سياق رده على سؤال حول بعض الأشخاص الذين ساعدوه من خارج أسرته، أكد أنه يعترف بالجميل لتلك البنت لأنها ساهمت في تبلور فكرة التدريس في ذهنه. 

في نفس السنة لم يعد عدد تلاميذه الخمسة يسمح بتدريسهم على الورقة، فأخذ لوحا من الخشب ليس بشكل السبورة العادية لكنه يفي بالغرض. و ظل صابرا على تدريسهم في تلك الظروف بما فيها من صعوبات ذكر منها بلاط الغرفة المتصدع الذي يصعب تنقلاته اثناء الكتابة بمقعده المتحرك، الى أن سمح عددهم سنة 2000 بتأجير غرفتين في حي آخر من احياء "الكزره"، و هكذا تطورت الفكرة الى ضرورة الحصول على رخصة مدرسة حرة سنة 2001، لكنه أثبت كفاءته كمدرس و قدرته الفائقة على توصيل أصعب القواعد في مادتي الرياضيات والفيزياء و أكثرها تعقيدا من خلال رخصة زميله الذي دخل معه شريكا في انشاء مجمع مدارس التقوى في الفترة مابين 2006حتى 2012، ليفتتح هذه السنة مؤسسته الخاصة به والمعروفة بمجمع مدارس الهدى الحرة قرب كرفور مدريد.

لم يذعن الشاب الطموح للمرض في مجتمع ليس فيه للمعوقين مكان، و لم تثنه ظروفه الأسرية القاسية عن السير في طريق النجاح. تلك الطريق التي رسم معالمها في أحلامه أولا فعمل بجهد خارق على تحقيقها.

يعقوب مقعد لكن له الفضل على كثير من مكتملي الأجساد في المجتمع، كأب استطاع أن يؤطر له طاقات ولده المعرفية فصار مشروع مثقف يعول عليه، أو كمراهقة كانت قد فقدت الأمل في جني أي ثمرة من تعلمها و فرض عليها الخوف من ذويها أن تلتقي بالأستاذ يعقوب ليعود بها الى نقطة انفصالها مع المقرر فتكتشف ذاتها و تتصالح مع الفصل لتصبح عبقرية، و حتى أنت، فله الفضل في الشعور الذي سينتابك بعد أن تقرأ قصته هذه لتحمد الله كثيرا على ما انت فيه من صحة بدنية حرم هو منها منذ أن كان طفلا، فتعمل على توظيفها لخدمة بلدك.