يحدّثنا تاريخ العرب عن ملاحم كثيرة، بطولات صوّرت وحروب خيضت وشخْصيّات خلّدت، فيها أجزاء كثيرة من الحقيقة وفيها أيضا كثير من المبالغة. كما يحدثنا تاريخ العرب أيضا عن الشعر. عندما نتحدّث عن العرب قديما سنذهب مباشرة إلى ما ينظموه من كلام. ربما لا منافس لهم في قوّة النظم وكثرة الشعراء. منذ مرحلة الشعر الجاهلي كانت الكلمة كالسيف بين القبائل، بسببها تسفك الدماء وتؤخذ الثارات، وعبرها يمدح الملوك ويُهجون، ولأجلها تتأسس قصص الغزل التي مازالت راسخة إلى اليوم.

وإذا كانت أغلب القصائد الشهيرة معروف شعراؤها وأبياتهم شاهدة عليهم إلى اليوم، فإن قصيدة "يا حادي العيس" أو يا "راحل العيس" بقيت قصيدة بلا شاعر، أو هي قصيدة "بتراء" وهنا البتر ليس بالمعنى المتوارث قديما في خطب المسلمين، بل في عدم ثبوتية صاحبها، حيث تنوّعت الروايات حولها واختلف النُّقّال في من صاحبها. الشيء الوحيد الثابت أنها كانت من بين الأشهر في الغزل العربي وقد قلّدها شعراء كثر وغنّاها مغنون كبار منذ منتصف القرن العشرين.

فكرة "حادي العيس" أيضا مازالت محل أسئلة إلى اليوم. هل هي لشخص؟ هل هي لسائق الجِمال أو راكب الخيل؟ هل هي لمكان ما توارثه الشعراء رمزيا؟ هل هي ملجأ نفسي للشاعر الذي أصابه العشق؟  فالحادي قد يكون الراحلة المتخيلة والمتمثلة في الأذهان، تنقل الحبيبات إلى أماكن بعيدة وتترك شاعرها في المكان والزمان يحدّثها عن صبابته وعشقه.

القصيدة تعتبر قصّة جميلة من الشعر الغزلي. هي عبارة عن لوحة تصوّر لحظة ألم الشاعر وهو يفقد حبيبته فكان "حادي العيس" هو واسطة التعبير عن المشاعر والقلب المفتوح الذي يرسل له ما به من حزن على الفراق. اليوم كثيرون غيروا في أبياتها، وآخرون قلّدوها، لكنها بقيت مجهولة شاعرها الأول رغم الاجتهادات الضعيفة في نسبتها.

في كتاب العقد الفريد قال ابن عبد ربّه الاندلسي إن المصدر الأول للقصيدة هو محمد بن يزيد النحوي الملقب بالمبرد الذي عاش في القرن الثالث هجريا أيام العصر العباسي. فقد ذكر المبرّد إنه خرج مع رفاق له من بغداد متجهين إلى واسط فمالوا إلى "دير هرقل" الموجود على الطريق وهو ملجأ المجانين، فقررا الدخول إليه لرؤية ملامح من فيه، فوجدا شابا "حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار". نظر إليهما دون أن يسلّم ثم أنشد قائلا:

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
 
وحمّلوها وسارت في الدجى الأبل
 
 
و أرسلت من خلال الشق ناظرها
 
ترنو اليّ و دمع العين ينهمل
 
 
و ودّعت ببنان عقدهُ علم
 
وناديت لا حملت رجلاك يا جملُ
 
 
يا راحل العيس عرِّجْ كي أودعهـم
 
يا راحل العيس في ترحالك الأجـل
 
 
اني على العهد لم انكر مودتهم
 
يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
 
في العقد الفريد ينتهي شهر مجنون دير هرقل عند هذه الأبيات، لكن في مصادر أخرى هناك عدد من الأبيات الأخرى الناقصة والتي يقول شاعرها:
 
ويلي من البين ما حل بي وبهم
 
من ناظرِ البين حل البينُ فارتحلوا
 
 
لما علمت أن القوم قد رحلوا
 
و راهب الدير بالناقوس منشغلُ
 
 
شبكت عشري على رأسي وقلت له
 
يا راهب الدير هل مرت بك الابلُ
 
 
يا راهب الدير بالإنجيـل تخبرنـي
 
عن البدور الللواتي ها هنـا نزلـوا
 
 
فحن لي وبكى وأنّ لي وشكى
 
و قال لي يا فتى ضاقت بك الحيلُ
 
 
ان البدور الواتي جئت تطلبها
 
بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا
 
 
شبكت عشري على رأسي وقلت له
 
يا حادي العيس لا سارت بك الإبـل
 
 
ليت المطايا التي سارت بهم ضلعت
 
يوم الرحيل فلا يبقـى لهـم جمـل

الرواية تقول أيضا أن الشاعر بعد ما قال الأبيات مات ولم يغادر المبرد ورفاقه إلا وقد دفنوه وفي رواية أخرى أنه "جذب نفسه في السلسلة جذبة دلع منها لسانه وبرزت عيناه وانبعث الدم من شفتيه وشهق فإذا هو ميت"، لكن قد تدخل المبالغة هنا كعادة كل المرويات عند العرب القدامى، حيث إن شخصا مجنونا مربوطا في أحد الأديرة من الصعب أن يقول مثل تلك الأبيات، ثم إن المبرّد ورفيقه بعد أن سمعا كل هذه الأبيات لم لم يسألا الشاعر عن اسمه ونسبه وبقي غير معروف؟

ورغم المرويات حول "حادي العيس" وحول "مجنون دير هرقل"، لكن لا أحد أثبت نسبتها له بعد ذلك، حيث ذكرت بعض الكتب بعد ذلك أنها لحلاّق عراقي من بغداد اسمه يوسف اللمبجي وهي مستبعدة لأنه يعيش في المدينة وأبياته تدل على البادية، وقال البعض إنها لشاعر مصري اسمه محمد بن القاسم أبي الحسن وملقّب بالمنسي، وذكر آخرون إنها لشعراء آخرين، لكن المؤكّد فقط أنها لشاعر عاش حياة البداوة ويعرف أدق تفاصيلها، لتبقى القصيدة مثيرة للاستغراب خاصة لقيمتها الشعرية، حيث أن قصائد أقل منها قيمة حتى في تلك الفترة من الزمن عرف أصحابها.