على غير عادة الأمريكيين في أغلب القضايا العالمية، تقف واشنطن منذ سنوات في الصف الثاني لمتداخلي الأزمة الليبية مكتفية بدور المراقب الذي يختار الزوايا النافعة لخياراته في المنطقة. فمنذ 2011، لم يعرف للأمريكيين دور، خاصة سياسيا، أو تدخل لتوجيه مسارات الأزمة رغم نفوذها القادر على قلب الكثير من المعادلات، واكتفت خلال كل السنوات الماضية ببعض الهجومات على مواقع لداعش في بعض مناطق البلاد بناء على طلب من حكومة السراج، أو تحت قرارات للأفريكوم.

وبالعودة إلى العام 2015، كان واضحا أن الولايات المتحدة راضية على اتفاق الصخيرات، وعلى الرغم من تصريحاتها الرمادية من الصراع الدائر، لكن هناك مؤشرات متعاقبة تؤكّد أن الهوى الأمريكي يميل إلى السراج ومجموعات إسناده في طرابلس، وهذا تؤكده التطورات الأخيرة عبر الصمت على التدخلات التركية وتأثيرها في وجهة الصراع الدائر في طرابلس، وانزعاجها من بعض التصريحات حول إسناد روسي للجيش الليبي، نفته في كل الأحوال قيادة الجيش.

وفي أول ردود الفعل الأمريكية على تلك التصريحات زعمت الولايات الأفريكوم على لسان الجنرال ستيفين تاونسند، أن ما يقع في ليبيا يثير التخوفات من تكرار السيناريو السوري في ليبيا، وهنا الأمريكان لا يقصدون الكارثة التي تسببت فيها بعض القوى في سوريا وفتحها ساحة مريحة للإرهاب، بل القصد الأمريكي كان التدخل الروسي الذي كان واضحا ومعلنا في الصراع.

وقال الجنرال الأمريكي "من الواضح أن روسيا تحاول قلب الميزان لصالحها في ليبيا، مثلما رأيتها تفعل في سوريا"، وقد أعقب ذلك تصريح لقائد القوات الجوية الأمريكية، جيف هاريجيان الذي قال إنه إذا استولت روسيا على قاعدة على الساحل الليبي، فإن الخطوة المنطقية التالية لها هي "نشر قوات مضادة دائمة بعيدة المدى. قدرات رفض منطقة الوصول (A2AD) "من أجل منع الوصول إلى أفريقيا.

وأضاف هاريجيان: "إذا جاء ذلك اليوم، فسوف يخلق مخاوف أمنية حقيقية للغاية على الجناح الجنوبي لأوروبا"، مشيرًا إلى أن أي إجراءات روسية في ليبيا "ستؤدي أيضًا إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي الذي دفع أزمة الهجرة التي تؤثر على أوروبا"، وهنا أيضا لعب أمريكي على ورقة الأوروبيين بهدف تكون حلف ضد روسيا في لعبة المعارك الإقليمية.

الأخبار عن دور روسي في ليبيا يثير مخاوف الولايات المتحدة التي تسعى لأن تكون لاعبا منفردا خاصة في الدول التي تعتبر استراتيجية في المنطقة العربية وإفريقيا التي تتمركز فيها قاعدة الأفريكوم، الأمر الذي يفتح التأويلات عن مرحلة جديدة من الصراع بين القوى العظمى لن تكون تأثيراتها الفعلية إلا على الشعب الليبي الباحث منذ سنوات عن استقرار يعيد له نسق الحياة الطبيعي وينهي مأساة طال أمدها.

والولايات المتحدة المنشغلة بقضايا الداخل وبالانتخابات القادمة غالبا ما تكون في قلب المعارك الدولية، لكن في الملف الليبي بقي دورها غامضا تاركة الساحة أمام دول أوروبا التي لم تكن قادرة خلال كل هذه السنوات عن ممارسة أي نفوذ في ليبيا بسبب صراعاتها الداخلية على امتيازات الثروة الليبية، الأمر الذي قد يجعل واشنطن تعيد ترتيب أوراقها نحو لعب أدوار أكبر في المستقبل.

ويشير مراقبون إلى أن التدخلات التركية الأخيرة ومشاركتها العسكرية إلى جانب قوات الوفاق، زادت في حدة التوتر داخليا وإقليميا باعتبار أن غالبية الدول الأوروبية تنظر بعين الريبة لما تقوم به تركيا، خاصة بعد الاتفاقية التي أبرمت في وقت سابق مع السراج تمنح لأنقرة التحرك بكل حرية في المتوسط إلى حدود السواحل الليبية. وما الدخول الأمريكي على خط الأحداث مجددا إلا سيرا في هذا الاتجاه.