هل يمكن لليبيا تنظيم انتخابات قبل إعلان المصالحة الوطنية؟ وهل تتحقق المصالحة قبل توحيد مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية؟ وهل تتوحد تلك المؤسسات قبل إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة وحل الميلشيات وجمع السلاح؟ وهل يمكن التوصل الى ذلك دون قرار دولي ملزم تساهم من خلاله القوى النافذة في نزع أثار الفوضى التي تواجهها البلاد منذ العام 2011؟

كل الملفات الليبية تبدو متداخلة ومترابطة وفق سلّم أولويات مطروحة لا فقط على السلطات الجديدة، ولكن على الأمم المتحدة ومراكز القرار الإقليمي والدولي، وتحتاج الى المعالجة بكثير من الهدوء والحزم في آن، والى الرؤية الثاقبة للواقع الميداني الذي يبدو هادئا بمعنى أن الحرب توقفت، ولكن تمظهراتها لا تزال مستمرة. ونتائج سنوات الصراع الدموي لا تزال قائمة في نفوذ الميلشيات في الغرب والارتباك الأمني في الشرق، وفي معاناة المهجرين والنازحين والسجناء والأسرى، وفي الخطاب الاعلامي المتشنج، وفي المحاولات الدائمة لعرقلة الحل السياسي من قبل من يرون فيه نسفا لمشاريع يعتقدون أن تنفيذها لا يكتمل إلا بالسيطرة المطلقة على البلاد وتحييد ارادة الشعب، أو بإقصاء هذا الطرف أو ذاك، وأحيانا بالتجزئة والتقسيم والارتهان الى أجندات المحاور الإقليمية وتنافس القوى الدولية.

لنكن متفائلين ونسأل: هل يستطيع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية الجديدان عقد اجتماع شامل لكل القوى السياسية الليبية الفاعلة أو لكل القبائل الليبية في طرابلس لإطلاق ميثاق وطني جامع وملزم لجميع الفرقاء؟ بل هل يستطيع مجلس النواب الليبي عقد جلسة بكافة أعضائه وبرئاسته الحالية سواء في طرابلس أو بنغازي أو حتى في سرت لتكريس قانون العفو العام والإعلان عن فتح باب المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي بكل ما لها وعليها؟

بل هل يمكن أن يبادر مجلس النواب ومجلس الدولة الى عقد جلسة تاريخية جامعة وشاملة وموحدة في طرابلس أو بنغازي أو سرت أو غدامس أو أية مدينة أخرى، للإعلان نهائيا على طي صفحة الماضي بكل ما لها وعليها والمصادقة على خارطة الطريق السياسية وتوحيد مؤسسات الدولة وتحديد موعد الانتخابات؟

منذ تنصيب السلطات الجديدة رسميا، وحتى قبل ذلك، ارتفعت الأصوات من داخل البلاد وخارجها للمناداة بإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، وهذا أمر جيّد، ولكن لا أحد يستطيع تحديد من أين ستكون البداية؟ من شرق سرت أم من غربها؟ من مراكز نفوذ الجيش ام من مواقع سيطرة الميلشيات؟ ولا أحد يستطيع التنبؤ بمصير القوات الحكومية والقاعدتين التركيتين التين تم نصبهما في غرب البلاد لدعم طرف بعينه على حساب طرف ثان يراد له الاندماج في العملية السياسية، بل ولا أحد يستطيع التكهن بما سيكون عليه وضع الميلشيات والجماعات المسلحة التي تبدو اليوم على نفس ما كانت عليه بعد اتفاق الصخيرات ووصول حكومة الوفاق الى سدة الحكم قبل أكثر من خمس سنوات.

هل هناك إمكانية لحل تلك الجماعات المسلحة وجمع سلاحها دون قرار أممي ملزم وتدخل دولي حازم؟ أكثر المراقبين تفاؤلا يؤكدون أن لا أمل في اندماج فعلي لأمراء الحرب والميلشيات في الحل السياسي دون موقف صارم يصدره مجلس الأمن وينفذه عن طريق الآليات المتوفرة لديه، تماما كما فعل قبل عشر سنوات عندما تدخل لأسقاط الدولة ومؤسساتها، لا سيما وأن ليبيا لا تزال خاضعة للفصل السابع.

المصالحة الوطنية في ليبيا لا يمكن الحديث عنها تحت سلاح الميلشيات ودعوات الثأر والانتقام، لا يمكن التطرق الى عودة نازحي تاورغاء أو ترهونة أو بني وليد أو سرت أو غيرها، دون توفير حالة من الأمن والاستقرار من خلال بسط نفوذ الدولة بمؤسساتها الوطنية والعسكرية الموحدة؟ ودون الإفراج عن السجناء والمعتقلين والأسرى والمحتجزين سواء وفق قانون العفو العام الصادر عن مجلس النواب في مايو 2015 أو بمرسوم حكومي نابع عن قرار سياسي حاسم يتم إعلانه من خلال منظومة اجتماعية فاعلة تمضي على تعهد وطني جامع بالانخراط الكامل في الحل السياسي والاجتماعي على أساس عدم الإقصاء لأي طرف يلتزم به.

اليوم، لا حديث إلا عن انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر القادم، الأمم المتحدة والقوى الإقليمية والدولية والأطراف الداخلية تشدد على تنظيم الاستحقاق الانتخابي في موعده، على أن يكون الاستحقاق ببعدين برلماني ورئاسي، نفهم أن تنتظم انتخابات برلمانية تشهد حملات دعائية وفق الدوائر، رغم أن الوضع الأمني في صورته الحالية وملف المهجرين والنازحين الى حين سيطرحان أكثر من سؤال على شرعيتها، ولكن ماذا عن الرئاسيات التي ستكون ضمن دائرة واحدة؟ كيف يستطيع مرشح لرئاسة الدولة التنقل في كامل أنحاء ليبيا إذا كان مرفوضا من هذا الطرف أو ذاك؟ ماذا لو ترشح حفتر أو المشري أو السراج أو باشاغا أو سيف الإسلام أو صوان أوبوسهمين أو أية شخصية جدلية أخرى؟ كيف يمكن أن تدير حملتها الانتخابية، وكيف تحكم البلاد في حال فوزها دون تجاوز الخلاف حولها بإعلان المصالحة والقطع مع صراعات الماضي؟

الأوضاع متشابكة في ليبيا، والحل على الأرض ليس هو ذاته الحل على منابر الخطابة أو في المؤتمرات الصحفية، هناك واقع أمني لابد من معالجته أولا، ثم وضع اجتماعي لابد من تصحيحه ثانيا، ثم لتأتي بعد ذلك الانتخابات في الوقت الذي تتوفر فيه الظروف لتنظيمها في إطار الشرعية الكاملة والنزاهة التي تقبل التشكيك.