ينظر الليبيون الى مؤتمر برلين المقرر عقده  غدا الأحد على أنه الفرصة الأخيرة أمام الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لحل الأزمة المستفحلة  في بلادهم ، رغم أن هناك شبه قناعة بأن القوى الدولية ( والغربية منها بالخصوص ) فشلت خلال السنوات التسع الماضية في فهم حقيقة ما يدور على الأرض ، ولم تتعامل مع ليبيا إلا كموقع مؤثر في الأمن الإقليمي أو ثروة تسيل لعاب الشركات الكبرى ، وهو جعل ما كل المبعوثين الأمميين يفشلون في مهامهم ، وكل المبادرات تؤدى الى تعميق الصراع بدل الدفع به الى الحل .

أدت فوضى الربيع العربي في لعام 2011 الى حالة ليبية هي أقرب لما حدث في العراق في العام 2003 من حيث فسج المجال أمام الميلشيات والجماعات الإرهابيين وعتاة المجرمين الفرين من السجون ولصوص المال وعملاء المخابرات الأجنبية الى ملء الفراغ الذي تركه النظام العقائدي وأجهزة الدولة التي تم حلها وإستبعاد كل من كان يحسب على المرحلة السابقة بالإغتيال أو الإعتقال أو التهجير أو العزل ، فإذا بثالوث السلطة والثروة والسلاح ينتقل الى أيادي أمراء الحرب والمتطرفين والإنتهازيين ممن عملوا على شرعنة الواقع الجديد بالدوران في فلك الإسلام السياسي الفاقد لشرعية الشارع والعاجز عن إدارة دواليب الشأن العام والباحث لنفسه عن فرصة للثأر من الدولة الوطنية التي لا يعترف بها من الأساس

عوض أن تعمل على إصلاح خطأ إسقاط الدولة بإعادة فرض النظام وبسط الأمن والإستقرار، سعت العواصم  الغربية الى التنافس على خدمة مصالحها من خلال الطبقة السياسية والإقتصادية الجديدة التي تتكون أساسا من  إسلاميين متطرفين في واجهة الحكم وإرهابيين وأمراء حزب ورجال أعمال فاسدين يبسطون نفوذهم على الأرض وعلى مؤسسات الدولة بما فيها المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط ، وكان واضحا أن ما يهم تلك العواصم هو الثروة لا غير ، حيث لا يجتمع مسؤولوها ولا يتتفق سفراؤها إلا إذا إقتربت الفوضى من الحقول النفوط أو الموانيء النفطية ، أما الشعب الليبي المحروم من ثرواته  والمطحون بآلة القمع الميلشياوية والمذبوح بسكاكين الإرهاب فلا أحد يستمع الى أنينه أو يسعى الى تضميد جراحه

دفعت الفوضى الى إعادة تشكيل الجيش الوطني الليبي ليقوم بدوره في حماية بلده وشعبه وسيادة ومقدرات دولته ، فنجح في تحرير أغلب مناطق البلاد من الإرهاب ، رغم أن سلطة الإسلاميين المفروضة على طرابلس كانت تدعم الجماعات المتطرفة من مال الليبيين ، واليوم إقترب الجيش من وسط العاصمة ليتم مهمته ، مدعوما بالأغلبية الساحقة من أبناء وطنه ، لكن المحور الإخواني في المنطقة وعلى رأسه تركيا خاف على مصير أتباعه وعلى مصالحه المرتبطة بهم ، فإتجه الى إرسال المرتزقة والسلاح الى طرابلس أمام أنظار العالم المتمدن.

غدا ينعقد مؤتمر برلين بخصوص الأزمة ، ورغم أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش ، قال  إن مشروع البيان الذي سيصدر عنه  يتمحور حول ستة محاور هي وقف الأعمال القتالية ووقف دائم لإطلاق النار، تطبيق حظر الأسلحة، إصلاح قطاع الأمن، العودة إلى عملية سياسية، إصلاح اقتصادي، احترام القانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان ، إلا أن نجاح المؤتمر يحتاج الى التعامل الإيجابي مع الواقع كما هو ، وليس كما يراد له أن يكون ، حيث هناك خمس معطيات مهمة تميز الوضع الحالي في ليبيا ولا يمكن تجاهلها.

أول تلك المعطيات  أن الجيش الوطني الليبي قوة نظامية منبثقة عن إرادة الليبيين من خلال برلمانهم المنتخب ،وهو يبسط نفوذه على أكثر من 90 بالمائة من مساحة البلاد ، ويحظى بثقة الأغلبية الساحقة من الشعب ، وكان له الدور الأكبر في محاربة الأرهاب وتطهير أغلب المناطق منه ، وتولى تحصين الثروة النفطية ، وتصدى للجماعات الخارجة عن القانون ، وأثبت وفائه لقيم الإعتدال داخليا وخارجيا.

وثاني تلك المعطيات أن الطرف المقابل يعتمد  على ميلشيات خارجة عن  القانون ، تشكلت منذ العام 2011 لإحتلال مواقع مؤسسات الدولة ، ولتشكيل الدولة الموازية بأدوات الترهيب والإرهاب ، وهي مرتبطة بتنظميات عقائدية متورطة في الإرهاب ، وتؤكد المنظمات الحقوقية والتقارير الإعلامية الموثقة أنها تمتلك سجونا خاصة وتنفذ جرائم الإغتيال والإختطاف والقتل على الهوية والنهب والسلب وهتك الأعراض وسرقة المال العام وشنت خلال الأعوام الماضية عمليات التهجير للسكان المحللين في عدد من المدن والقرى والهجومات غير المبررة على القبائل ودمرت  عددا مهما منشئات الدولة.

أما ثالث المعطيات ، فيتمثل في إرتباط تلك الميلشيات والجماعات المسلحة بتنظيمات عقائدية على صلة بالإرهاب وعلى رأسها جماعة الإخوان والجماعة المقاتلة التي ترتبط بدورها بمحور إقليمي هدفه بسط نفوذه على موقع ليبيا وثرواته ، وعلى رأسه النظام التركي الذي أعلن صراحة تدخله في الشأن الداخلي الليبي بالسلاح والمرتزقة صاربا عرض الحائط بالقرارات الأممية وبإرادة الليبية تحت شعارات لا تخلو من العنصرية والنزعة الإستعمارية.

ورابع المعطيات ، هو إعتقاد لدى جانب مهم من الرأي العام الداخلي والخارجي بعدم شرعية أو مشروعية حكومة الوفاق التي تم فرضها على الليبيين من خلال إتفاق الصخيرات قبل أكثر من أربع سنوات ، والتي فقدت أسسها القانونية ولم تحظ بالتزكية البرلمانية ، وهي بالتالي غير دستورية ، ومرفوضة من عموم الشعب ، خصوصا وأن خمسة من أعضاء المجلس الرئاسي تركوا مواقعهم ، كما أن الأجل القانوني للحكومة كان لا بتجاوز عامين ، وتم تمديده من خلال سياسة الأمر الواقع رغم عجزها على تنفيذ أي من الأهداف التي أنيطت بعهدتها من قبل آتفاق الصخيرات ، الى جانب تورطها في التبعية المعلنة للمشروع التوسعي التركي بعقد إتفاقيات غير قانونية تهدد السلم والإستقرار في المنطقة ، وبتأجير المرتزقة وإستقدامهم من الخارج لمقاتلة القوات المسلحة النظامية.

أما المعطى الخامس ، فهو ما أثبتته حالة مدينة سرت بعد تحريرها أخيرا ، حيث لا يمكن أن تتحقق مصالحة وطنية حقيقية ولا يمكن أن يعود الأمن والإستقرار إلا في ظل سلطة الجيش الوطني ، ولا يمكن الحديث عن تشكيل حكومة وطنية ودخول مرحلة إنتقالية حقيقية ولا كتابة دستور أو تنظيم إنتخابات رئاسية أو برلمانية تحت حكم الميلشيات ، ولا يمكن أن تخرج ليبيا من النفق إلا بإخراجها من دائرة الصراع الإيديولوجي الإخواني ، ومن حسابات المصالح التركية الإستعمارية المعتمدة في تحقيق أهدافها على الإسلام السياسي وبنادق المسلحين الخارجين عن القانون

هل سيقف مؤتمر برلين عند هذه المعطيات ؟ غدا نكتشف الحقيقة ..