ضغط ميلشيات غرب ليبيا على المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية أمر طبيعي في محيط جهوي لم تستطع فيه الدولة استرداد سيادتها وهيبتها على قرارها ومقدراتها ونفوذها، وتدخل امراء الحرب في خيارات السلطات الجديدة ولا سيما المتعلقة بالموقف من القوات التركية ومرتزقتها وتعيين رئيس جديد للمخابرات العامة كان منتظرا ، وخلال الأيام والأسابيع القادمة ستجد البلاد نفسها على المحك ، وستوضع خارطة طريق الحل السياسي أمام امتحان عسير ، وذلك لأسباب عدة ومنها :
أولا ،إن الحديث عن الحل والانتخابات وتوحيد المؤسسات في ظل استمرار هيمنة الميلشيات على غرب البلاد ، لا معنى له ، وأي حماس أبداه المجتمع الدولي للاتفاقين السياسي والعسكري ،ولإعادة الأمن والاستقرار الى ليبيا لا محل له من الإعراب أمام حقيقة ما يدور على الأرض ،
وثانيا .أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة أثبتت دائما أنها قد تنجح في بث الفوضى، ولكنها لا تستطيع القضاء عليها ، وقد تفلح في إسقاط الأنظمة بما لها من آلة عسكرية مدمرة ، ولكنها تعجز عن إنهاء دور الميلشيات ، وهو ما رأيناه في أفغانستان والعراق ولبنان واليمن والصومال ونصف الأراضي السورية ، ونراه في ليبيا حاليا حيث لا تزال الميلشيات تتحكم في المدن ، وتستعرض قوتها في شوارع العاصمة ،وتوحي للداخل والخارج بأنها قادرة على الانقلاب متى شاءت على المجلس الرئاسي والحكومة المؤقتة
وثالثا ، أن من يراهن على إمكانية جر الميلشيات الى دعم الحل السياسي بحل نفسها أو الاندماج في أجهزة الدولة ، واهم وبعيد عن المنطق ولغة العقل ، فسيكولوجيا تلك الجماعات مرتبطة بالأساس بالاندفاع نحو التصعيد والتمرد على القانون والنظام، وهي لا تجد نفسها إلا في حالة الفوضى العبثية ، وترى أن نفوذها لا يكون من داخل الدولة ومن التحرك من خارجها ، وقد عملت على تكريس نفسها كسلطة بديلة خلال السنوات العشر الماضية ، وأكدت في مناسبات عدة أنها لا تسمح بالحكم أو الوصول إليه أو المنافسة عليه  لأي طرف لا يوافق مزاجها العام و يخدم أهدافها و يتبنى رؤيتها للواقع ،
ورابعا ، أن الميلشيات لا تمارس السياسة ولا تفهم أبجدياتها ، وهي مجرد أدوات عنف مستعدة لخدمة من يستطيع اللعب على أوتار عواطفها المتقبلة للتجييش والتحريض بالشعارات سواء كانت دينية أو قبلية أو جهوية ، ومخطئ من يعتقد أن الميلشيات التي لا تخضع لقيادة عليا قادرة على لجمها ، يمكن أن تتفهم أن خارطة الطريق التي صدّق عليها ملتقى الحوار السياسي تحت غطاء الأمم المتحدة وحظيت بدعم المجتمع الدولي ،وأنتجت السلطات الجديدة ، تتطلب القبول بالأخر ، وطي صفحة الماضي ،واجتماع الخصوم في ظل سلطة موحدة بعد انقسام دام سبع سنوات ، وأن مفاتيح الحكم تحتاج اليوم الى أن يديرها من كانوا بالأمس يتصارعون في ساحات الحرب ، ولن تكون حكرا لفريق المنطقة الغربية الذي يعتبر نفسه منتصرا بدعم الحليف التركي
وخامسا ، أن المجتمع الدولي أخطأ خطأ فادحا عندما تجاهل دعوات بعض العقلاء بنقل السلطات الجديدة الموحدة الى مدينة سرت لتكون بعيدة عن نفوذ الميلشيات التي يسعى قادتها الى جعل تلك السلطات نسخة ثانية من سلطة فائز السراج المنبثقة عن اتفاق الصخيرات ، وهي تعمل من وراء الستار للتأسيس الى فوضى جديدة بهدف إعادة خلط الأوراق والدفع نحو تأجيل الانتخابات الى أجل غير مسمى ، وليس من المستبعد أن تبادر بالتسبب في حرب جديدة للإطاحة بكل التوافقات السابقة ، بل إن من أهم أولوياتها التي تخطط لها إخراج قوات الجيش من خط سرت الجفرة ومن الهلال النفطي ولو أدى ذلك الى تقسيم البلاد بشكل رسمي ونهائي ، على أساس أن يتم حصر المنطقة الشرقية من بين إجدابيا ومساعد ،
وسادسا ، أن ما يتابع اعلام الإخوان والجماعة المقاتلة وحلفائهما في الداخل والخارج ، يدرك أن لا القطريين ولا الأتراك راضون بالتوافقات السياسية ، وأن خطاب التحريض لا يزال قائما على أشده ، وأن لا المصالحة الخليجية غيرت نظرة نظام الدولة الى الوضع الليبي ، ولا التقارب مع مصر ودول الخليج أفضى الى تحول في وجهة النظر التركية ، ولا القرارات الدولية ومواقف الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي تحظى بتفهم تلك القوى التي لا تزال تعتمد خطاب الحرب والتقسيم وتحاول إضفاء شرعية وهمية على الجماعات المسلحة ، وتعمل على أن لا يتم توحيد المؤسسة العسكرية ، ولعل أسئلة مذيع قناة « الجزيرة » الموجهة لعبد الحميد الدبيبة الخميس الماضي ، كانت نموذجا متفردا في محاولة دق الأسافين بين قيادة الجيش في بنغازي وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس ، وفي تجييش الميلشيات للاستمرار في عرقلة الحل السياسي والاتفاق العسكري
تحاول الميلشيات بكل قوتها الضغط على الرئاسي والحكومة لإقالة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش لأنها صارحت نظيرها التركي بضرورة أن تغادر كل القوات الأجنبية والمرتزقة بما فيها قوات بلاده ومرتزقتها ،الأراضي الليبية ، وتجد الميلشيات دعما من الإخوان وفلول الجماعة المقاتلة ومفتي الإرهاب الصادق الغرياني وتأطيرا من المخابرات التركية التي تعمل على أن لا تتوحد المؤسسة العسكرية ، وألا يكون لحفتر أو للمقربين منه أي دور مستقبلي سواء عن طريق الانتخابات أو من دونها
وعندما قرر المجلس الرئاسي تعيين حسين العائب الضابط في جهاز الأمن الخارجي السابق ، والذي شغل منذ 2015 منصب نائب رئيس جهاز المخابرات المنبثق عن مجلس النواب والقريب من قيادة الجيش ، دعت الميلشيات الى التراجع عن هذا التعيين ، والسبب أنها ( أي الميلشيات ) ومن يقف وراءها في الداخل والخارج ، لا يريد للدولة أن تقوم، وأن قامت فبمنظور ميلشياوي لا غير ، ووحدة الدولة ممكنة شريطة ألا تشمل الجيش والمقربين والمحسوبين عليه ، ولا تعرف توحيدا للمؤسسة العسكرية
إن على المجتمع الدولي أن يدرك جيدا أن ملف الميلشيات في غرب ليبيا يحتاج الى أن يكون في صدارة الاهتمام وأن يتم التعامل معه بكل حزم ، ولو أدى الأمر الى التدخل المباشر لتفكيكها ، لأن في استمرارها استمرار للفوضى وتعطيل للحل ، ولا شك في أن لمجلس الأمن قراراته الداعمة للأمن والاستقرار والصادرة تحت الفصل السابع ، والتي يمكن أن تطبق بحذافيرها ، بدل أن تجد ليبيا نفسها أمام حروب أخرى ، لا ينفع معها ما يعتقد البعض أنه تحقق بتحييد بعض القوى الإقليمية عن دعم الجيش ولفائدة حكومة الدبيبة المهددة فعليا في وجودها ، والتي قد يتعرض رئيسها أو بضع أعضائها الى الإعتداء المباشر كما حدث لحكومات سابقةa