لم يكن النظام التركي في حاجة لانتظار مخرجات مؤتمر برلين 2 للإعلان عن قراره النهائي بشأن إجلاء قواته النظامية ومرتزقته عن الأراضي الليبية ، وإنما قال كلمته ، وأكد أنه باق في القواعد والمعسكرات ، انطلاقا مما اعتبرها وزير الدفاع خلوصي عكّار ،علاقة تاريخية امتدت 500 عاما ، في إشارة الى الاحتلال العثماني البغيض الذي دخل طرابلس في العام 1551 بدعوى تحريرها من قوات القديس يوحنا ، ليحتلها ويتحكم بمصير شعبها وينهب ثرواتها وقدراتها ويهجّر أبناءها ويشتت قبائلها وينشر فيها الفقر والمرض والجهل قبل أن يسلمها للاحتلال الإيطالي في العام 1911 ،

ولم يقف عكار عن هذا الحد ، بل زعم إن «الأتراك ليسوا أجانب » أي أنه لا ينطبق عليها قرار إجلاء القوات الأجنبية عن ليبيا ، وأكد أن قوات بلاده باقية ومستمرة في مهامها وأن المشكلة في « حفتر » في إشارة الى قائد الجيش ، الذي يبدو أن الأتراك يرون أن مهمتهم في ليبيا لا تكتمل إلا بالقضاء عليه وبقواته لفسح المجال نهائيا أمام أتباعهم من الاخوان والجماعة المقاتلة وأمراء الحرب ولوبي الفساد وحاملي شهادات الانتماء السياسي أو الثقافي للعثمانية الجديدة ، للتحكم في ليبيا بذات ما كان عليه الأمر قبل قرون من خلال تشكيل مجتمع الباشوات والآغاوات ومن معهم ووراءهم في المدن الساحلية الغربية، وتهميش بقية المجتمع ، وتحويل القبائل الى مجرد مصدر لدفع الضرائب والإتاوات وتهجير العصاة من أبنائها الى دول الجوار ، لتستمر ظاهرة البلد الطارد لأهله الأصليين ، حيث أن ليبيا التي لا يتجاوز سكانها اليوم سبعة ملايين نسمة ، هي ذاتها التي لديها في الدول المجاورة ما لا يقل عن 40 مليون من ذوي جذور ليبية تعرضوا للتشريد والتهجير والإبعاد القسري خلال حكم العثمانيين ، من بينهم 25 مليون في مصر وحدها ، لا يزالون يذكرون ما رواهم لهم الآباء والأجداد عن المجازر التركية في حقهم ،وما مذبحة قبيلة الجوازي في العام 1817 الا نقطة في بحر المأساة التي لن تسقط من ذاكرة الليبيين

مساء الجمعة، وصل وزير الدفاع التركي الى مطار معيتيقة ومعه رئيس الأركان في زيارة مفاجئة ، قادمين من قاعدة الناتو في صقلية الإيطالية ، وكان لافتا أن أي تنسيق مع السلطات الأمنية الليبية لم يحصل ، بل أن السلطات السياسية فوجئت بدورها بوصولهما ، كما أن عملية استقبال الوزير ورئيس الأركان تمت من قبل الضباط الأتراك دون غيرهم بعد إن استبعدوا نظراءهم المحليين ، ومن الغد التحق بها وفد كبير من أنقرة يضم وزيري الخارجية والداخلية ورئيس المخابرات ورئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية التركية والمتحدث باسمها ، ليكتمل المشهد السوريالي بلقاءات مع رئاستي المجلس الرئاسي والحكومة ، كان الهدف الخفي منها إعداد الملف الذي سينقله أردوغان معه الى بروكسيل لعرضه على الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال أول لقاء بينها على هامش قمة الناتو ،فيما كان الهدف المعلن هو تأكيد الوفد التركي الضخم أن وجود قواتهم في ليبيا سيتواصل ، وأن مهمتها لم تنته بعد ، وأنها موجودة تنفيذا لاتفاق سيادي بين البلدين في إشارة الى مذكرة التفاهم المثيرة للجدل المبرمة بين رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج والرئيس أردوغان في السابع والعشرين من ديسمبر 2019 وما تلاها من اتفاقيات جرى التوقيع عليها تحت ضغط الأزمة من قبل أطراف جلبها المجتمع الدولي للحكم دون شرعية شعبية أو برلمانية

وبقطع النظر عن الأهداف الخفية والمعلنة، فإن رسالة الوفد التركي واضحة بالنسبة للداخل التركي على الأقل ، وهي قطع الطريق أمام مؤتمر برلين 2 ، وأمام تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2570 الصادر في أبريل الماضي ، وأمام الاتفاق العسكري للجنة المشتركة الموقع منذ ثمانية أشهر ، وكذلك أمام الجهود الإقليمية والدولية، وذلك بالإعلان ، وبوضوح تام ، أن أنقرة لن تسحب قواتها من ليبيا ، وهو ما يعني إعادة خلط الأوراق من جديد ، وتهميش الاتفاق السياسي المنبثق عن ملتقى تونس للحوار السياسي في نوفمبر الماضي ، اعتبارا الى أن قوى ليبية عدة ترى أن لا توحيد للمؤسسة العسكرية في ظل الوجود التركي ، ولا مجال لتنظيم انتخابات في بلد تخضع عاصمته ومنطقته الغربية للتدخل الخارجي بشكل سافر ، ولحكم ميلشيات مسلحة لا تزال تترد على القانون وعلى فكرة ومفهوم الدولة كما حدث في العجيلات الخميس الماضي ، حين أدى هجوم مليشيا « الفار» على ميلشيا « شلفوح » الى اشتباكات في الشوارع أدت الى مقتل 7 وإصابة العشرات ، في ظل صمت حكومة الدبيبة

لم يعد غائبا عن المتابعين ، أن هناك صراعا حقيقيا في مراكز النفوذ داخل طرابلس ، وأن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفّي بات شبه معزول ، وأن نائبه عن إقليم فزان موسى الكوني غير سعيد بما يجري حوله ،حتى أنه غرّد منذ أيام « عذرا فائز السراج ، فكل مّنا فائز السراج » بما يعني أن لا فرق بين ما كان وما هو كائن ، وهو الذي استقال في يناير 2017  من ذات المنصب تقريبا الذي وصل إليه عبر اتفاق الصخيرات ، بينما تتعرض وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش الى حملات معادية بسبب موقفها من الوجود الأجنبي ، ولو أهمية حضورها البروتوكولي كواجهة تساعد على تلميع صورة الواقع  باعتبارها أول امرأة تمسك حقيبة الخارجية في بلادها منذ الاستقلال ، ولولا الدعم الدولي الذي تحظى لكانت قد أقيلت من منصبها ،

 وبالمقابل ، يضع نائب الرئاسي عن إقليم طرابلس عبد الله اللافي كل البيض في سلة الإخوان ، ويعلن دعمه لاستمرار الوجود التركي من منطلق جهوي ، ويعين وزيرين من حكومة السراج مستشارين له وهما وزير الخارجية محمد السيالة ووزير الدفاع صلاح الدين النمروش الذين يعتبران من أبرز مهندسي الدور التركي ، كما أن رئيس ما يفترض أنها حكومة للوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ، تغلبت عليه النزعات الجهوية ( مصراتة ) والفئوية ( الأعمال ) والمصالح الخاصة وهو الذي توجد أغلب استثماراته في تركيا ، وتشابكات مصالح الأسرة الموسعة مع قيادات إخوانية بارزة من بينها علي الصلابي ، ليتخذ مواقف تكاد تجعل منه نسخة جديدة لفائز السراج ، وليرى المقربون منه أن لا مشكلة في نسف خارطة الطريق إلا استمرار الوضع عليه ، بما يعني بقاء السلطات القادمة من اجتماع جنيف في الحكم ، وعدم التأثر بما نص عليه البرلمان من أن الحكومة ستتحول الى حكومة تصريف أعمال في الرابع والعشرين من ديسمبر ، موعد الانتخابات المقرر ، أولا لأن البرلمان ذاته بات فاقدا للشرعية والفاعلية ، وثانيا لأن الساحة الليبية ومعها المجتمع الدولي ، اعتادا على خرق التوافقات ، وفرض سلطة الواقع على سلطة القانون

إن ما يتابع المشهد في طرابلس ، يدرك لأول وهلة أن صراعا على النفوذ يدار من قبل تيار الإسلام السياسي والقوى الجهوية وأمراء الحرب ، وجميعهم يربطون مصالحهم ببقاء القوات التركية في غرب البلاد ، ويخشون المواجهة ليس مع الجيش كما يزعمون، وإنما مع الشعب الليبي الذي يستشرفون أنه سيطيح بهم عبر صناديق الاقتراع ، كما أن صراعا محتدما على الثروة والمصالح تشارك فيه قوى داخلية وخارجية ، وعواصم إقليمية ودولية وشركات عابرة للقارات ، ولكن تركيا تدافع عما ترى أنه حقها في الفوز بقصب السباق ، وبالنصيب الأكبر ، وهي التي لا تتوقف عن تذكير الفاعلين الأساسيين في المشهد بأنها الواقفة وراء وجودهم و الضامنة لبقائهم ، وأنها الحاضنة الرئيسة لمشاريعهم الاستثمارية الناتجة بالأساس عما نهبوه من أموال الشعب الليبي ، وتعطي على كل ذلك ، بشعارات وهمية من نوع الوفاء للعلاقة التاريخية ، والدفاع عن الأمن والاستقرار والحل السياسي

إن إعلان الأتراك عن استمرار بقائهم في ليبيا لا يعني إلا اتجاههم لفرض سياسة الأمر الواقع بالضغط على السلطات القائمة في طرابلس ، وهو ما سيدفع الى استمرار الصراع وتواصل حالة الانقسام ، وإذا كانت أنقرة تعتمد على عنصر الزمن في فرض دورها ، فإن على المجتمع الدولي إما أن يحسم موقفه بكل حزم ، أو أن ينفض يديه نهائيا ويتخلى عن مزاعمه برعاية الحل ، لأن الحل لن يتحقق وتركيا تتحكم في مقاليد الحكم في ليبيا