بينما كانت الأضواء مسلطة على اجتماعات « أبوزنيقة » المغربية ، كانت هناك اجتماعات أخرى تشاورية حول الأزمة الليبية تنعقد في بلدة مونترو على ضفاف الساحل الشمالي الشرقي لبحيرة جنيف بغرب سويسرا ، دون أي اهتمام إعلامي ، ودون جدل واسع حول المنتظر منها ، لكن البيان الصادر الختامي الصادر أكد أنها الأكثر تأثيرا في مسارات البحث عن الحل السياسي ، خصوصا بالنظر الى التوصيات الصادرة عنها والتي تترجم وجهة النظر الأممية والأمريكية

اعتبر البيان أن " المرحلة التمهيدية للحل الشامل" مهلة زمنية لإعداد الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مواعيد لا تتجاوز 18 شهرا وعلى أساس قاعدة دستورية متفق عليها ،وفي انتظار ذلك أوصى بإعادة هيكلة السلطة التنفيذية لتتشكل من مجلس رئاسي من رئيس ونائبين ومن حكومة وحدة وطنية تكون مستقلة عنه ، واختيار أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة في إطار أعمال لجنة الحوار السياسي الليبي، ويكلف الأخير بتشكيل حكومة وحدة وطنية تراعي وحدة ليبيا وتنوعها الجغرافي والسياسي والاجتماعي ويطرحها لنيل الثقة.

ولعل أبرز ما يمكن التوقف عنده في هذه التوصيات :

1) أنها تجاوزت ما اقترحه رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج في بيانه يوم 21 أغسطس الماضي وأعاد الإشارة إليه وزير خارجيته محمد سيالة من تنظيم الانتخابات في مارس 2021 ، وتثيبت فكرة استبعاد الموعد الانتخابي لمدة 18 شهرا وفق ما نص عليه إعلان القاهرة ، ما يعني أنها لن تنتظم إلا في العام 2022

2 ) أنها تبنت ما جاء في مبادرة رئىس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح وإعلان القاهرة من تشكيل مجلس رئاسي جديد يتكون من رئيس ونائبين إثنين ، وهو ما يعني وجود إتفاق إقليمي ودولي على الإطاحة بالمجلس الرئاسي الحالي الذي فقد شرعيته بانتهاء مدة ولايته المقررة ضمن إتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 وبتفكك تركيبته الأصلية التي تمنحه شرعية القرارات الصادرة عنه بعد انسحاب عضوين ( موسى الكوني وفتحي المجبري )  وتجميد عضوين أخرين عضويتيهما ( عمر الأسود وعلي القطراني )  وفشله في الحصول على تزكية مجلس النواب لحكومته التي لا تزال منذ العام 2016 تعتمد على التفويض للمناصب الوزارية ، إضافة الى عجزها عن تنفيذ أي من المهام التي كلفت بها ،

3 ) أن التوصيات الصادرة عن اجتماعات مونترو دعت الى تشكيل حكومة وحدة وطنية على أنقاض حكومتي السراج المنبثقة عن الصخيرات في طرابلس والمؤقتة المنبثقة عن البرلمان في شرق البلاد ، وهو ما يتجاوب مع ما ورد في مخرجات مؤتمر برلين وفي نص إعلان القاهرة الذي نص على  حصول كل إقليم على عدد متناسب من الحقائب الوزارية طبقا لعدد السكان عقب التوافق على أعضاء المجلس الرئاسي الجديد وتسمية رئيس الحكومة على ألا يجمع أي إقليم أكثر من رئاسة للسلطات الثلاث (المجلس الرئاسي - مجلس النواب- مجلس الوزراء) بحيث يحصل إقليم طرابلس على 9 وزارات وإقليم برقة على 7 وزارات كذا إقليم فزان على 5 وزارات على أن يتم تقسيم الـ6 وزارات السيادية على الأقاليم الثلاث بشكل متساو (وزارتين لكل إقليم)، مع تعيين نائبين لكل وزير من الإقليمين الآخرين.

4 ) كذلك تضمنت توصيات اجتماعات مونترو مقترحا أمريكيا واضحا وافق عليه الأوروبيون بخصوص نقل المؤسسات السلطتين البرلمانية والتنفيذية والمؤسسات السيادية الى مدينة سرت التي يراد لها أن تكون منطقة منزوعة السلاح وتخضع للتأمين بواسطة شرطة مدنية من شرق وغرب البلاد ، وهو ما يعني تحرير القرار السياسي والمالي والاقتصادي والأمني من براثن الميلشيات ، غير أن هذه النقطة لا تزال مثار جدل وخاصة من قبل المؤسسة العسكرية الممثلة في الجيش الوطني والقوى الموالية له التي تعتبر أن خروج قواته من المنطقة يعني فتحها أمام الاحتلال التركي ومرتزقته وميلشيات مصراتة ، بما يمثل خطرا على الهلال النفطي وشرق البلاد وصولا الى المساس من الأمن القومي المصري الذي قال الرئيس السيسي أن منطقة الجفرة سرت تمثل خطا أحمر بالنسبة له

5 ) من التوصيات اللافتة كذلك الاتجاه نحو المصالحة الوطنية وتفعيل قانون العفو العام وإطلاق سراج السجناء السياسيين وإنهاء ظاهرة الاحتجاز القسري وإعادة المبعدين والنازحين وجبر الضرر دون اسقاط الحق الشخصي في التقاضي ، وهو ما يشير إلى اتفاق دولي وإقليمي على إدماج أنصار النظام السابق في العملية السياسية ، في تأكيد على ما قالته رئيس البعثة الأممية بالإنابة ستيفاني وليامز من أن استبعاد أنصار القذافي من اتفاق الصخيرات كان ثغرة حقيقية نظرا لما يمثلونه من قوة على أرض الواقع

كما إن تفعيل العفو العام سيشمل الميلشيات المسلحة التي إرتكبت جرائم فظيعة منذ العام 2011 ، وأمراء الحرب المتورطين في تدمير المدن وقتل المدنيين ونهب الثروات ودعم الارهاب ،وهو ما يسعى إليه قادة الميلشيات والجماعات الإرهابية المتدثرة بغطاء العمل السياسي والحراك الثوري تحت شعارات فبراير

وما صدر عن اجتماعات مونترو هو نتاج لجهود مضنية في الحوار والاستماع الى مختلف الأطراف داخل ليبيا وخارجها ، ومحاولة البحث عن مقاربة واقعية للحل السياسي ، رغم محاولات الاختراق الحاصلة ، لكن بالنظر الى الخطوط العريضة يمكن القول أنه أفضل ما تم التوصل إليه حتى النظر من حيث النظرة الشمولية للأزمة التي تعرفها البلاد منذ العام 2011

وقد رحبت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة، ستيفاني وليامز، بنتائج هذا الاجتماع الذي جاء في " نقطة تحول حاسمة في مسعى طويل بحثا عن حل شامل للأزمة الليبية" على حد تعبيرها مؤكدة على الضرورة الملحة ل"إيجاد حل سريع وسلمي" للازمة في ظل تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في ليبيا، والتي فاقمها الصراع الطاحن والارتفاع المقلق في حالات الإصابة المؤكدة ب (كوفيد-19) ونقص الخدمات واستمرار الإغلاق النفطي.

وأشادت المسؤولة الأممية، ب" النوايا الحسنة والتفاني الوطني" الذي أبداه المشاركون الليبيون في الاجتماع، إذ انتهزوا هذه الفرصة لتنحية خلافاتهم القديمة جانبا بغية التوصية بحل ليبي- ليبي يمكن طرحه للتعجيل باستئناف مؤتمر الحوار السياسي الليبي، الذي تيسره الأمم المتحدة في وقت مبكر، مشيرة الى اجتماعات مونترو توفر أساسا لجميع الأطراف الليبية التي تتحلى بروح المسؤولية الوطنية والمضي قدما" .

كما رحبت الولايات المتحدة بالمشاورات التي جرت في الفترة من السابع الى التاسع سبتمبر الجاري في مدينة مونترو السويسرية تحت رعاية مركز الحوار الإنساني وبحضور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

وهنأت سفارة الولايات المتحدة لدى ليبيا الأطراف الليبية ب"المشاورات البناءة " التي جرت بسويسرا ،  معربة عن ثقتها "من أن تحقيق مستقبل أكثر إشراقا أمر ممكن، حيث تجتمع الأطراف الليبية المسؤولة في حوار سلمي مع الاحترام الكامل لسيادة ليبيا من أجل تحقيق وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب القوات العسكرية الأجنبية والمرتزقة وإعادة فتح قطاع الطاقة الليبي بشفافية كاملة فيما يتعلّق بإدارة عائدات النفط والغاز".

كما أشادت السفارة الامريكية ب"الجهود الحثيثة التي تبذلها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لاستئناف منتدى الحوار السياسي الليبي الشامل" ، وجثت جميع الأطراف الليبية على دعم هذه العملية، التي سيمارس الشعب الليبي من خلالها حقه السيادي في تقرير مستقبله.

ويرى جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية السابق، في ورقة بحثية له بمعهد «بروكنجز» الأمريكي إن التوصيات المنبثقة عن إجتماع مونترو، «إذا تم إتباعها عمليا»، ستؤدي إلى مؤسسات موحدة وتجديد الحوار السياسي وفي نهاية المطاف تنظيم انتخابات، موضحا أن هذا التقدم يعتمد على خطوات في مجالات أخرى.

وكان واضحا أن الدول السائرة في الفلك الأمريكي كانت الأكثر حماسا لمخرجات حوار مونترو ، حيث رحبت كندا بنتائج الاجتماع التشاوري الليبي في مونترو بسويسرا، مؤكدة تشجيعها للاستئناف المبكر لمنتدى الحوار السياسي الليبي؛ حتى يتمكن الليبيون من المضي قدما نحو ممارسة حقهم وتقرير مستقبلهم في بلدهم.

وقالت الخارجية الألمانية أن اجتماعات مونترو تبرز كيف يمكن توحيد مؤسسات الدولة الليبية وتعزيزها، لاسيما أنها بعيدة عن الحل العسكري وعودة إلى المنطق السياسي من جانب الأطراف الليبية ،معتبرة  “هذه الانفراجة” بمثابة نجاح لدور الوساطة الألمانية والأمم المتحدة تحت إشراف المبعوث الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالإنابة ستيفاني ويليامز.

وذكرت أنه من خلال عملية برلين وتحركاتها في مجلس الأمن الدولي، ساهمت ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون في خلق الإطار لمثل هذا الحل السياسي في ليبيا، مضيفة: “لقد قمنا بتمويل التهيئة للحوار في مونترو بشكل كبير” ، داعية الجميع الى اغتنام الفرصة والإقرار بنتائج المحادثات الليبية الداخلية في مونترو، قائلة: “سوف نحترم الاتفاقات بين الأطراف الليبية، ونتوقع الشيء نفسه من جميع المشاركين في عملية برلين، وسوف نكون على استعداد لدعم تنفيذها مع شركائنا الدوليين”.

ويرى المراقبون أن حماس البعثة الأممية وواشنطن والعواصم المرتبطة بخيارتها لنتائج اجتماعات مونترو كان واضحا بعكس موقفيهما من مشاورات أبوزنيقة التي كانت ذات منحى إجرائي لتحصيل توافقات على تقاسم مناصب سيادية تخص سبع مؤسسات يأتي على رأسها مصرف ليبيا المركزي ، مشيرين الى أن هذا الحماس إنما يعبّر عن طبيعة الجهات التي تتبنى تلك النتائج وبقوة

ويرى المراقبون أن أبرز ما يمكن ملاحظته هو الاتجاه لتهميش دور المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي ، رابطين بذلك بشكوك حول مركز الحوار الإنساني بجنيف المتهم بفقدانه الحياد في التعامل مع الأزمة الليبية واقترابه أكثر من قوى الإسلام السياسي وخاصة جماعة الاخوان التي يراد فرضها عنوة على المشهد السياسي رغم أنها لا تمثل أي ثقل حقيقي على الأرض عكس القوى القبلية سواء منها الداعمة للجيش أو للنظام السابق

ويعتقد المراقبون أن مشاورات بوزنيقة لم تمثل ذات الأهمية الذي مثلته اجتماعات مونترو بما تعمل على تحقيقه من تصور شامل للحل السياسي ، لافتين الى أن التحدي الحقيقي الآن هو التوجه نحو الهدف المعلن : تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية ونقل السلطات الى سرت وإعلان المصالحة الشاملة وتفعيل العفو العام بما يطوي صفحة الماضي الأليم ، لكن هل سيقتنع الأفرقاء الفعليون بكل ما جاء فيه ؟ الجواب سيكون برسم الإدارة الأمريكية دون غيرها.