في أعقاب الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في خريف العام 2014 والتي فاز فيها حزب نداء تونس العلماني بالأغلبية البرلمانية على حساب حركة النهضة الإسلامية وفاز فيها مؤسس الحزب الباجي قائد السبسي بالرئاسة على حساب الرئيس السابق منصف المرزوقي اختارت تونس نظام الحكم الائتلافي بين العلمانيين والإسلاميين.

وعلى الرغم من تأكيد قائد السبسي خلال حملته الانتخابية آنذاك أن نداء تونس الذي أسسه لمواجهة هيمنة الإسلاميين وحركة النهضة هما خطان متوازيان لا يلتقيان لا من حيث المرجعية الفكرية ولا من حيث التوجهات السياسية فقد تم إشراك النهضة في الحكم إلى جانب العلمانيين مما أثار غضب القوى الديمقراطية التي لم تتردد في اتهام قائد السبسي بالتنصل من تعهداته والتحالف مع حركة تسعى إلى استهداف الدولة المدنية ومكاسبها السياسية والاجتماعية وإلى تغيير نمط المجتمع الليبرالي.

ورأت القوى العلمانية التي تقول إن النهضة ليست سوى نواة من تنظيم الإخوان المسلمين مدعومة من قبل قوى خارجية منها قطر والولايات المتحدة الأمريكية لها أجنداتها في المنطقة تسعى إلى اجتثاث الدولة المدنية وبناء دولة خلافة وهي عبارة استعملها حمادي الجبالي رئيس حكومة الترويكا والأمين العام لحركة النهضة آنذاك.

وانتقضت تلك القوى بما فيها نداء تونس على قائد السبسي بعد أن تم الكشف أن عملية إشراك النهضة في الحكم تمت بناء على تحالف بينه وبين راشد الغنوشي خلال لقاء بطلب من الغنوشي بعد أن أجرى مشاورات موسعة مع السفارات الأجنبية على أن يعقد في باريس عاصمة فرنسا التي استعمرت تونس من العام 1881 إلى العام 1956.

واستمات راشد الغنوشي خلال اللقاء وهو الأول من نوعه آنذاك مع قائد السبسي في إقناعه بأن النهضة جزء من الخارطة السياسية ومن حقها المشاركة وأن إشراكها في الحكم في إطار جبهة لإنقاذ تونس من شأنه أن يحقق الاستقرار الحكومي ومن ورائه الاستقرار السياسي والاجتماعي وأن استبعادها سيشكل خطرا على البلاد.

ووفق قيادات من حزب نداء تونس التقط قائد السبسي مقترح الغنوشي ورأى فيه فكرة لتركيز حكومة ائتلافية بين الإسلاميين والعلمانيين لترويض النهضة وامتصاص شراهتها للتموقع في الحكم دون أن يعي أن الخلفيات الحقيقية لرئيس الحركة الإسلامية تتمثل أولا في استثمار إشراكها سياسيا من خلال الترويج إلى أنها قوة لا يمكن الاستخفاف بها منفتحة على المشهد السياسي وتتمثل ثانيا في استماتة الغنوشي في إنقاذ النهضة من العاصفة التي بدأت بوادرها آنذاك تعصف بتنظيم الإخوان في المنطقة.

ويقول رياض بن عمر أستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية إن لقاء باريس الذي صدم أغلبية التونسيين وما اتفق عليه الرجلان قاد بالأساس إلى اختيار نظام الحكم الائتلافي وإلى التحالف بين نداء تونس وحركة النهضة بعيدا عن جزء هام من اتجاهات الرأي العام التي تتوجس من مشروع الإسلاميين المدعومين من قبل قوى خارجية.

ويضيف بن عمر لـ"بوابة إفريقيا الإخبارية" قائلا " إن اتفاق باريس لم يكن بالنسبة لقائد السبسي خيارا وإنما إكراها من إكراهات الواقع نظرا إلى أن النهضة تمثل القوة الانتخابية الثانية بالبرلمان في ظل أوضاع عامة تعصف بها الهشاشة السياسية والاجتماعية وجاء في سياق حالة من الرهاب من إدارة الشأن العام وبالتالي كانت مسألة الاستقرار الحكومي والسياسي والاجتماعي هي التي دفعت قائد السبسي على عقد التحالف مع الغنوشي".

وبناء على اتفاق باريس تشكلت حكومة ائتلافية بين الإسلاميين والعلمانيين في 2 فيفري 2015 برآسة الحبيب الصيد وهو شخصية سياسية مستقلة تم اختيارها بعد مشاورات مع غالبية الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني.

ويقول المراقبون السياسيون إن حكومة لصيد هي أول تركيبة ائتلافية منفتحة نسبيا على المشهد السياسي على خلاف الحكومات التي سبقتها التي كانت أساس حكومات نهضوية سواء منها حكومة حمادي الجبالي التي تشكلت في 22 سبتمبر 2001 وتنحت عن الحكم بعد أن فشلت في 19 فيفير 2013 أو حكومة علي العريض القيادي النهضوي التي تركزت في 8 مارس 2013 وأزيحت عن الحكم في جانفي 2014 بعد أن زجت بالبلاد في أزمة خانقة لفائدة حكومة من التكنوقراط برئاسة مهدي جمعة وانتهت مهامها بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

خلال تلك الفترة كانت الطبقة السياسية وغالبية اتجاهات الرأي العام تراهن على تركيز حكومة من العلمانيين يقودها حزب نداء تونس الفائز في الانتخابات لتقود مشروعا وطنيا مدنيا تواصلا مع مشروع دولة الاستقلال الذي قاده الزعيم الحبيب بورقيبة إذ رأت في قائد السبسي وهو أحد رجال بورقيبة المحنكين رجل دولة ديمقراطي يتبنى المفهوم المدني للعملية السياسية.

غير أن تركيبة حكومة الحبيب الصيد التي تقلدت فيها النهضة حقيبة وزارية واحدة أجهضت على الرهان وبدت تونس وكأنها تتأرجح بين الإسلاميين والعلمانيين تتحسس طريقا بلا خارطة واضحة لا أحد بإمكانه توقع مآلاته السياسية والاجتماعية.

لم تكن تركيبة حكومة الحبيب الصيد متجانسة لا فكريا ولا سياسيا واستحال علية بناء كيان حكومي بالمعنى السياسي ليجد جهوده مشتتة بين نهضة ذات مرجعية عقائدية ونداء تونس ذي المرجعية العلمانية وعدد من الأحزاب الصغرى ذات المرجعية اللبرالية الوسطية يدير خلافات عميقة داخل قصر الحكومة أكثر مما يدير الشأن العام وتسيير مؤسسات الدولة في ظل ضغوط شديدة من قبل الحزبين الكبيرين المتحالفين في ما يتعلق باحتكار مراكز القرار السياسي والإداري.

وقال بن عمر "خلافا إلى ما كان يهدف إليه من استقرار حكومي وسياسي بدت حكومة الصيد مهزوزة وهشة لا يرتهن أداؤها إلى تركيبتها كحكومة أي كسلطة تنفيذية وإنما يرتهن إلى حرب خفية على المواقع تقوده نوع من دكتاتورية الأغلبية" في إشارة إلى الأوزان الانتخابية لكل من النداء والنهضة اللذين يمثلان الأغلبية البرلمانية.

وقادت هشاشة تركيبة حكومة الصيد الأولى إلى تجريد السلطة التنفيذية من ممارسة صلاحياتها بكل استقلالية عن الأحزاب وبدا القرار الحكومي بالنسبة للطبقة السياسية واتجاهات الرأي العام قرارا حزبيا يقع في قبضة النهضة ونداء تونس.

لم تستقر الحكومة سوى عام واحد ليعلن الصيد عن تركيبة جديدة في 6 جانفي 2016 أشركت حزبين لبرالين صغيرين هما حزب آفاق تونس الذي يقوده ياسين إبراهيم وحزب الاتحاد الوطني الحر الذي يرأسه سليم الرياحي في مسعى إلى تخفيف الضغوط المسلطة عليه من قبل التحالف ليدخل معه في خلاف لم يغفره له.

وبدا الصيد وكأنه يخوض حربا ضد دكتاتورية الأغلبية خسرها لاحقا فيما انتفضت الأحزاب الصغرى مما اسمته سياسة الاستضعاف التي تمارسها كل من النهضة ونداء تونس حتى أن ياسين إبراهيم لم يتردد في الانتفاض على النهضة ويتهمها بتهميش ممثلي حزبه في الحكومة وسعيها إلى ممارسة السطو على استقلالية القرار الحكومي.

اقتنع الحبيب الصيد بأن توسيع تركيبة الائتلاف لم تقد سوى إلى نتائج عكسية وأن تطعيمها بالأحزاب الصغرى لم يساهم في استقلالية قرار السلطة التنفيذية عن شراهة النهضة والنداء اللذين استضعفاه لاحتكار مراكز القرار فقرر تركيز حكومة جديدة في 6 جانفي 2016 منفتحة أكثر عن المشهد السياسي وأيضا عن التكنوقراط.

وبدا الائتلاف كلما توسع كلما تعمقت خلافاته وزادت هشاشته لتفقد الحكومة هويتها ومفهومها الدستوري كسلطة تنفيذية لها حق ممارسة صلاحياتها بعيدا عن سطوة الأحزاب في حالة تؤشر على الاستخفاف بمؤسسات الدولة وبدور رئيس الحكومة في تسيير مؤسساتها والتعاطي مع مشاغل التونسيين السياسية والاجتماعية والتنمية.

استشعرت كل من النهضة ونداء تونس أن الصيد رجل دولة عنيد يسعى إلى تركيز كيان حكومي متضامن يرفض ضغوطهما ويسعى إلى تحرير القرار الحكومي من سطوة التحالف فرفع عنه الغطاء السياسي ليجد نفسه وحيدا بلا حزام سياسي.

ويرى المراقبون أن تجربة حكومات الحبيب الصيد تعد مؤشرا قويا على أن الائتلاف في الحكم واجهته قوة سياسية وباطنه هشاشة وضعف بنيوي في ظل غياب ثقافة سياسية مدنية عميقة لدى الأحزاب تفاضل تموقعها في مراكز القرار على حق السلطة التنفيذية في استقلاليتها وحيادها لتستهدف من ثمة هيبة الدولة.

ووفق هشام بن عاشور الأخصائي في علم الاستراتيجيات "يحتاج الائتلاف في الحكم إلى وعي وثقافة سياسية مترفعة عن الشأن الحزبي وتؤمن بحق الدولة المشروع لا فقط في إدارة الشأن العام وإنما أيضا تؤمن بحقها في ممارسة العنف المشروع في إطار احترام الدستور والقوانين وحقوق المواطنة".

ويضيف بن عاشور "إن مفهوم الائتلاف في الحكم يجب أن ينبني على جملة من الثوابت المشتركة من بينها احترام هيبة دولة المواطنة ومفهوم الوحدة الوطنية" مشيرا إلى أن ذلك "لم تتحل به الحكومات المتعاقبة لأسباب هيكلية".

وتنسجم تحاليل بن عاشور مع مسار الحكومي التونسي إذ في أعقاب إقالة الحبيب الصيد بعد رفع الغطاء السياسي عنه من قبل النهضة من رئاسة الحكومة تم تكليف يوسف الشاهد بتكوين حكومة جديدة في 02 جوان 2016 تحت عنوان حكومة وحدة وطنية وحكومة حرب ضد الفساد والتهريب والإرهاب وتوفير التنمية.

تشكلت حكومة الشاهد بناء على مبادرة من الرئيس قائد السبسي وهو مؤشر قوي على أن الائتلاف في الحكم لم يحقق التوازن ولا الاستقرار وهو إكراه من إكراهات الواقع أكثر مما هو خيار استراتيجي أملته خارطة جيوسياسية متشظية وأوضاع عامة محفوفة بالمخاطر ودولة فقدت الكثير من هيبتها في ظل استفحال شبكات من مافيا الفساد.

لم تنج حكومة الشاهد من مآزق الائتلاف من خلافات عميقة وحرب خفية عن مواقع ومراكز القرار واستضعاف ممثلي الأحزاب الصغرى فقرر إجراء تحوير وزاري في 06 سبتمبر 2017 في مسعى إلى تخفيف الضغوط غير أن حكومته بدأت تهتز إذ تكونت في شهر ديسمبر 2017 جبهة سياسية تطالب بتحوير وزاري.

وعلى الرغم من تأكيد الشاهد أنه لا يحبذ إجراء تعديل على حكومته فإن أغلب المؤشرات تؤكد أن هناك توجه نحو تركيز حكومة جديدة لامتصاص غضب الجبهة التي تتكون من عشرة أحزاب لبرالية ستخوض الانتخابات البلدية القادمة.

وفي ظل احتمال تفكك الإتلاف الحاكم برئاسة الشاهد يرى بن عاشور أن "الفشلفي تحقيق التوازن والاستقرار الحكومي والسياسي يجب أن نفسره في إطار مسألة الحكم لا في تونس فقط بل في العالم العربي".

ويشدد بن عاشور على أن "الطبقة السياسية واتجاهات الرأي العام والشعوب العربية تثق أكثر في رجل دولة يكون قائدا حازما ويمتلك من الجرأة والشجاعة ما يؤهله لإدارة شؤون البلاد والناس بكل قوة مشروعة أكثر مما تثق في الأحزاب السياسية".

ويؤكد مراقبون أن "المنطقة التي عصفت بها فوضى ما يسمى بالربيع كانت تعيش حالة عامة من الاستقرار لا الحكومي فقط بل السياسي والاجتماعي وأن القادة كانوا يحظون بثقة الناس مهما كانت المؤاخذات سواء منها المشروعة أو غير المشروعة.

ولاحظ رياض بن عمر أن "بلدان مثل تونس وليبيا والعراق واليمن كانت تمتلك تجربة حكم مستقر وآمن لا تقوده أحزاب وإنما يقوده بكل حزم رئيس دولة أو قائد نجح في صناعة سياسات تحظى بشرعية شعبية ويعد رمزا للهوية السياسية للبلاد ورمزا لنمط المجتمع ورمزا لهيبة الدولة والاستقرار والسيادة الوطنية".