لقد حدث هذا معه . عندما قفل عشّريّته الثانية من العمر بأشهر قليلة . وفى رحلة برّية طويلة . بصحّبة رفيق له  . وعبرحديث طويل . وجد نفسه . مُحاصر  بين خياريّين أحّلاهما مرّ . ان ينّحاز الى دمه الى ذويه الى غُزيّته , كما قال عنها ابن الصمّة ذات قصيدة .  غزيّته هذه . التي تخنّدقت بانحيازها  باكرا وبدون تروّى . الى صف , كان يتصدّره ويقوده غَرِيمها التقليدي .  او الوقوف الى جانب رفيق رحلته . في خندق مقابل . يسعي الى هدف  من بين النتائج الحتّمية للوصول اليه . ملاحقة وتشتيت وبعثرت وتهميش هذه (الغُزيّة) . لتكون ودائما على هامش الحياة واطرافها . 

     كان عليه ان يختار , بل قد كان فعل الاختيار . قد وقع . مع اخر الكلمات التي قفل بها رفيقه الحديث  . ولم يتبقّى له من كل هذا . سوى الانحياز الى خندق الرفيق او الوقوف الى جانب غُزّيته  . لقد حاول التدخل في مجرى الحديث . بغّية بعثرت صورة فعل الاختيار قبل تشكّلها . . من خلال جر الحديث الى وجه من وجوه الهزل . البعيد عن الجدْ . محاولا ان ينتهي بالحديث الى مدارج المزّح الثقيل . ويقف به عند هذا الحدْ . ليكون في هذا . مخرج له ولرفيقه . اذا ما حصحص الامر . 

         لكن رفيقه كان عازم على مواصلة حديثه . بصيغة ارّتسمت بكل ملامح الجدْ والمسؤولة . فما كان منه . الا ان يكون صادق مع رفيقه . وصارحه بانه . لا يقبل بعرّضه  . رغم ما يحمل هذا الوضوح  .  من خطورة على كِليهما . فانقطع الحديث وعمّ الصمت حتى نهاية الرحلة . 

        تساءل بين نفسه . عبر هذا الصمت المطبق . ماذا لو انحيازه طال بالضرر رفيق رحلته ؟. شغله الامر وحيرّه كثيرا . وعندما حدث هذا ووقع . ألِفَ نفسه . تجعل من  جسده .  مِجَنّ من لحم ودم . لتتقي به ما قد يُصيب رفيقه من ضرر. ولكن دون جدوة . 

         وباكتمال هذا الحديث . الذى حاول تمّيعه وبعثرته واجهاضه . وبفشل ذريع  . كانت قد ارّتسمت الصورة الكاملة لفعل الاختيار . ولم يتبقى له من كل هذا . سوى فعل الانحياز  . فدفع بانحيازه . الى ما كان ليرّضى بغيره . من شكّل وصاغ ميوله وذائقته  وكل مرّتكزاته المعنوية , في بواكير صباه , بحاضنة تنشئته المبكّرة  . 

      لم يجتهد كثيرا في الوصول الى اختياره . الذى جاء متكأ ومنصاع الى ما همست به . الى داخل اذنه الواعية , حاضنة تنشئه الاولى  . بان يذهب الى حيت دمه الى ذويه الى غُزيّته لا الى غيرها او سواها . فهي من اختارته ودفعت به . مع بعض من ابنائها . للانخراط في هذا السلك النبيل . والذى وجد نفسه وبعد سنيين فى معّتركه . امام خيار . ما من تجرّعه بُدْ .

      فتلك التي هدّهدت طفولته , زرعت طاعتها في شرايينه وما يجرى بداخلها . ورعتها وحضنتها في مُتابعة مراحل حبّوه , ومع لحظات وقوفه الاولى بخطى متعثّرة . والتي لم تستوى وتستقيم  . الا بعد محاولات حثيثة منه . برفقة صيّحات تشّجعيه داعمة من تلك الحاضنة المبكّرة  .  

     لقد وجد نفسه . بانحيازه الى دمه ذويه غزّيته .  وجها لوجه مع من كان يتصدّر ذلك الصف ويقوده . في جلسة وحديث  . حول الاختيار والانحياز وابعاده . استنتج وتبين من كان يجلس قُبالته حينها . بان الانحياز جاء للدم للذوي للغُزيّة . وليس له ولا الى صفّه . جاء ذلك واضحا وصريحا  . عندما لاحظ من كان يُجالسه  . ظهور علامات نفور . ساطعة صارت تغطى صفحة وجهه  . في دلالة صامته . على عدم قبول ما يُطرح امامه . 

        كان الطرح يضم في محتواه . ويطالبه ايضا . بالعودة للتواصل مع الخندق المقابل . والاندماج فيه . من خلال  رفيق رحّلته .  وان يكون اذن وعين  بداخله .  نفر من العرض ومضمونه . فبادر الى رفّضه  وعدم قبوله     .  

       وعندما نضجت وفى  ثواني قليلة  . مضامين الرفض والاعتذار في فَهَم وفكر . من كان يُجالسه . انتفض هذا . منهيا الحديث , وقفله قائلا . لو كان رفيقك يعرف . بان نَسَبك ينتهى الى تلك الغُزيّة . لما جاء منه ما كان . جاءت عباراته هذه في كلمات سريعة متتالية . تُخالطها نبّرة حنق . مَنّ احسّ وشعر بانكشافه وتعرّيه امام نفسه . او ربما تبيّن من كان يُجالسه  . مقدار ما يحّمل الرد بالرفض  . من جرّعة كافة . توحى بالانحياز الصريح لخندق رفيق الرحلة . لو لم تكن الغزّية حاضرة في المشهد . 

    لم ييأس من قفل الحديث بتلك العبارة . بل حاول عبر خادمه ودراعه الايمن . ذو الصلاحية الواسعة  .  معاودة الكرّة . جاء هذه المرة .  بنبّره آمِره . تُكلّفه وتُحته بالعودة الى وصل التواصل مع الخندق المقابل  . لم ينصاع للأمر  . رغم معرفته بثقل تبعات ما فعل . 

     وعاود وعاد من جديد . وجاء هذه المرة في ثوب احد اتباعه . كان يعلّق على محياه . ابتسامة باتساع وجهه العريض . جاء . وكأنه يريد ان يجسّ ويتحسس ردة فعّله . تجاه خطوة . كان ينوى القيام بها . فبادره التابع ذو الوجه العرض .  قائلا . قد علمّت من جهة مقرّبة . بانه قد تقرّر ترّفيعك وترقيتك درجة على من سواك . لم يدعّه يُكمل . بل قاطعه  قبل ان ينهى حديثه . قائلا :-  بانه ما كان ليرّفض الانخراط في سلوك ينّفر منه ولا يسّتسيغه . ليأتي في ما بعد . ليقبل بتعّليقه على صدرة او فوق كتفه .   تبين له بعد حين من الزمن . بان محاولاتهم المتكررة تلك . كنت تسعى الى جرّه نحو مستنقعهم . واغراقه في اوحاله  .   

      تلى تلك مرحلة اخرى تتالت خلالها . جمّلة من الأحداث . كانت  تحدث معه . او تقع امامه او عن يمينه و شماله . . يلّفته حدوثها . ويُشّغله ويُتير استغرابه . ولكن ورغم هذا . لا يجد لها تفسير او تأويل . حتى جاء يوم جمعه داخل قاعة واسعة . مع لفيف واسع من رفاقه .  في احد القواعد التى يرّتكز عليها متصدّر ذلك الصف وقائده .  في معالجة اوجه الحياة الخشنة  . التى قد يمرّ بها . كان لقاء استثنائي . تمرّكز الحديث فيه . على آت رهيب . كما ارّتسم امامه وبوضوح . بالكلمات والعبارات التي تناولته وشكّلته وصاغته . وسيعّصف هذا الآتي دون ريب . بكل ما قد تطاله يداه  . 

         كان الحديث يكّتسى عبارات تنضح تهديد حين ووعيد احيانا  . جاءت على لسان الشخصية المحورية في ذلك الاجتماع  .  شخصية عُرفت حينها ولقرّبها وقرابتها . من متصدّر ذلك الصف وقائده . بانها لسان حاله وقبضته الخشنة ويده الناعمة . جاء في حديثها الكثير من النقاط والتلميحات . كان بعض منها تُشير ويقيّنا . الى شخصه تلّميحا لا تصريحا . مما اضطره الى التدخل والتعليق اتنا الحديث . 

       ومن خلال ما تناوله اللقاء . توفر عنده كل ما يحتاجه من مفاتيح . لتفكيك غموض تلك الاحداث . التى كانت تحدث له او امامه او عن يمينه او شماله  .  وعرف ونتيجة  لكل ما دار باللقاء . بانه كان مراقب ومتابع وعن قرّب في كل خطواته . شعر حينها بان النار قد فُتحت عليه . فالحرب اولها كلام .  قرر لحظتها الانسحاب . ولكن ليس بهدوء . فالنار بالنار . واختار لذلك موعد يوم الاحتفال الكبير . والذى يُحاكى فيه الصف وقائده واتباعه . مهرجان يوم الزّينة . حيث يُحّشد الناس ضُحى . ليفّسد عليهم مداق فرّحهم  . الى غصّة بمرارة العلقم . وكان له ما اراد .  وان ثَمَ بعد ذلك ملاحقته . قُبض عليه . وقدف به الى ما وراء الشمس . ليقضى عشّرية من الزمان الا قليل  . برفقة الخواء , وليمضي جل شِطرها الاول في حضن عزّلة انفرادية . 

      ثم عاد ثانيتا الى وجه الحياة  . ومند ذلك الحين . كان اذا اختلى بنفسه  .  تستحوذ على تفكيره . وتحّتله وتشغل كل حواسه  . عبارة التقطها  ذات مساء . من على لسان درويش يكّتسى اسمال بالية . كان يزاحم المارة . في أحد الشوارع المكتظة   بأحد المدن البعيدة . كان عندما يثقله  التعب عن السير . يسّتند  الدرويش بظهره الى الحائط  . وهو يردد , وبصوت مسّموع . يضحك كثيرا من يضحك اخيرا  .  يضحك كثيرا من يضحك اخيرا . ثم يعقب ذلك . بضحكة عالية مجلّجلة  . فتنّشد انظار المارة اليه . بالّتفاته باسِمة . ثم يعاود ويعودون الى حال سبيلهم . .                                                  

               البانوسى بن عثمان .                                     الجنوب الليبيى .